انتشرت أحاديث في الفترة الأخيرة عن أن الجانب الروسي يعمل على تطوير استراتيجيتين لإحباط اعتراضات تركيا المحتملة على الحكم الذاتي للكرد السوريين. ويمكن أن تؤدي المصالحة المحتملة بوساطة روسية بين “أنقرة” و”دمشق” إلى تغيير مسار الحرب الأهلية التي دامت حوالي 9 سنوات في سوريا وسط مستوى غير مسبوق من الاشتباكات في إدلب. ولا يبق معقل المتمردين الأخير تركيا على شفا المواجهة المباشرة مع قوات الحكومة السورية فحسب، بل يختبر أيضًا العلاقات الروسية التركية.
في النهاية، تحولت الجهود الروسية المكثفة إلى حوار مباشر رفيع المستوى بين الجانبين عندما التقى رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان ونظيره السوري اللواء علي مملوك في موسكو يوم 13 يناير، حيث يمثل هذا اللقاء المباشر بين الجانبين أول اجتماع رفيع المستوى بين الجانبين منذ عام 2011.
وإدراكاً منها لحقيقة أن الأزمة السورية لا يمكن تسويتها دون إصلاح الجسور والعلاقات، فإن روسيا تضغط لاستعادة العلاقات على أساس اتفاق أضنة لعام 1998، الذي ينص على تعزيز التعاون الأمني ضد المنظمات الإرهابية. ويقال إن المسؤولين السوري والتركي اتفقا على خارطة طريق من تسع نقاط لدفع الحوار، بما في ذلك هدف التعاون ضد الإرهاب، وفقا للتقارير التركية.
وقالت مصادر مطلعة على طبيعة الاتصالات التي تتم بوساطة روسية بين تركيا وسوريا، لـ”المونيتور”، إن بعض المسؤولين الأتراك رفيعي المستوى من أصول شركسية لعبوا دورًا في تسهيل عملية الحوار. بعد نفيهم من روسيا في عام 1864، كان الشركس منتشرين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وبمرور الوقت ارتقوا إلى مواقع ذات أهمية في المؤسسات الأمنية في بلدانهم. وقال المصدر لـ”المونيتور”، إن جنرالًا تركيًا من أصل “شركسي” ترأس أحد الاتصالات منخفضة المستوى بين البلدين وأجرى محادثات مع الوفد السوري برئاسة حسام لوقا، ضابط مخابرات سوري رفيع المستوى.
وشهد الاجتماع أيضًا سابقة هي الأولى من نوعها، وهي مناقشة “فيدان” و”مملوك” أسباب التعاون الممكنة ضد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري وجناحه المسلح، وحدات حماية الشعب (YPG) التي يتهمها البعض بأنها تنظيم شقيق لحزب العمال الكردستاني (PKK)الذي تعتبره تركيا -إلى جانب الولايات المتحدة والعديد من القوى الغربية الأخرى- جماعة إرهابية.
لقد جذب الاجتماع انتباه القوى العالمية والإقليمية. وبصفتهما رؤساء أجهزة استخباراتية، يُعرف كل من “مملوك” و”فيدان” بأنهما شريكان وثيقان لقادة بلديهما، حيث يشارك “مملوك” في مفاوضات سياسية مهمة نيابة عن الرئيس بشار الأسد، بينما يُعرف “فيدان” بأنه أحد الركائز الحيوية لسياسة أنقرة تجاه سوريا.
وعلى الرغم من أن الاجتماع المفاجئ قد يتبعه خطوات أخرى، فإن الطموح الروسي لم يلق قبولا كبيرا حتى الآن من جانب “أنقرة” ولا “دمشق”. ويقول الجانب الروسي إن “إعادة الضبط” بين تركيا والنظام السوري أمر ضروري لسببين. أولاً، بمجرد عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق إلى طبيعتها، لن يكون أمام القوات المسلحة المدعومة من تركيا خيار سوى التسوية، مما يقلل من احتمال نشوب صراع عنيف؛ سيتعين على تركيا التوقف عن دعم المعارضة السورية المسلحة، وإحباط أي مواجهة محتملة بين الجيش التركي وقوات النظام.
ثانياً، يمكن لتطبيع العلاقات السياسية أن يساعد في التخفيف من حدة المشاكل المالية للاقتصاد السوري، الذي هو على وشك الانهيار بسبب الحرب والعقوبات. وتهدد الأزمة الاقتصادية المكاسب العسكرية التي حققتها قوات الحكومة السورية في ساحة المعركة. وستكون مساهمة تركيا في جهود إعادة الإعمار في البلاد مهمة أيضا.
ومع ذلك، لا يزال دعم تركيا للمتمردين السوريين والوجود العسكري التركي في الأراضي السورية يشكلان عقبة أمام حكومة “دمشق”. وفي الواقع، كان الطلب الأول الذي أعرب عنه “مملوك” خلال اجتماع “موسكو”، هو أن تحترم تركيا سيادة البلاد وتسحب قواتها من سوريا على الفور، حسبما ذكرت وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا”.
وقال المصدر السوري، لـ”المونيتور”، إنه على الرغم من أن الوضع على الأرض يملي اتفاقًا على الطرفين، فإن الموقفين الحاليين لتركيا والحكومة السورية لا يسمحان بالمصالحة. “تعتقد روسيا أن عملية إعادة الإعمار في سوريا لن تنجح دون مشاركة تركيا. الأزمة المالية في البلاد عميقة لدرجة أنها تهدد الإنجازات العسكرية للحكومة السورية على أرض الواقع. وقال المصدر، لـ”المونيتور” شريطة عدم الكشف عن هويته، إن بعض الإمدادات الحيوية لا يمكن توفيرها إلا من تركيا.
وقال المصدر: “لقد أوضحت أنقرة موقفها بشكل واضح حول مسألة واحدة في المحادثات مع موسكو: قد تفكر تركيا في سحب قواتها من شمال سوريا إذا وافقت دمشق على تنفيذ بعض التغييرات الهيكلية، بما في ذلك الحد من سيطرة النظام على جنوب المنطقة الآمنة ووضع وحدات حماية الشعب تحت سيطرتها الكاملة”.
ووفقًا للمصدر، لا ينبغي المبالغة في تقدير خارطة الطريق المؤلفة من تسع نقاط ويمكن اعتبارها “أرضية مشتركة” لإطلاق حوار لأن الأسد “قد لا يكون قادرًا على إقناع” قاعدته على شرعية هؤلاء التسعة نقاط.
وعلاوة على ذلك، قال المصدر إن القوات الإيرانية قد تختار الانسحاب التكتيكي من مواقعها في أعقاب مقتل اللواء قاسم سليماني وإن تركيا قد تحاول ملء الفراغ. وأضاف المصدر: “إدارة ترامب لن توقف جهود تركيا لكبح جماح الإيرانيين من أجل دفعهم إلى الوراء”.
الرأي السائد حاليا هو أن تركيا لن توافق على سحب وجودها العسكري من البلد الذي مزقته الحرب دون ضمان وجود آلية للقضاء التام على حزب الاتحاد الديمقراطي وحرس حماية الشعب. وهذا يقود الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كانت الحكومة السورية ستضحي الأكراد السوريين لإصلاح العلاقات مع أنقرة. “الآن، الشاغل الرئيسي للنظام هو البقاء؛ الحفاظ على سلامته الإقليمية ليس أولوية، على الأقل حتى الآن. إنهم ليسوا مستعدين للقتال ضد حزب الاتحاد الديمقراطي ولا لديهم القدرة على ذلك. إضافة إلى ذلك، لن تسمح روسيا والولايات المتحدة بذلك”.
وترى روسيا أنه من الضروري أن يتمتع الكرد بالاستقلال الثقافي على الأقل من أجل إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، وخاصة حول حقول النفط الخاضعة لسيطرة الجماعات الكردية السورية. ويقال إن الجانب الروسي يطور استراتيجيتين لإحباط اعتراضات تركيا المحتملة على هذه الفكرة: إعطاء تركيا حصة في عملية إعادة الإعمار في سوريا وإنشاء كتلة تعاون بين سوريا وتركيا وروسيا لدعم سياسات أنقرة في حرب الطاقة حول موارد شرق البحر الأبيض المتوسط.
هل يمكن أن تلعب المصالح المتبادلة حول موارد شرق البحر المتوسط دوراً بناءً في هذه العملية؟ يقول المصدر إن إستراتيجية تركيا أحادية الجانب لاستكشاف موارد الغاز الطبيعي في المياه تمنع سوريا من اتباع سياسة مستقلة وأن سوريا ستطور على الأرجح استراتيجيتها من خلال أخذ جميع اللاعبين في الاعتبار.
ومع ذلك، فإن بعض الأوساط السياسية في “دمشق” تحتل موقعًا أكثر ثباتًا. وقال طارق الأحمد رئيس مكتب العلاقات الخارجية في الحزب القومي السوري الاجتماعي، إن على تركيا أن تثبت أولاً “حسن نيتها” من خلال احترام السلامة الإقليمية لسوريا للحصول على قائمة نظيفة. وقال “الأحمد”: “يجب أن تكون تركيا قوية؛ وإلا فإنه لا يمكن التغلب على هذه المشاكل. يجب إطفاء الحريق بالكامل؛ وإلا شرارة صغيرة يمكن أن تشعل النار.. على تركيا أن تفهم هذا.. ونهاية الحرب ستحقق السلام في الدول المجاورة كذلك”.
وقال “الأحمد” إن الحكومة السورية لن تسمح للأكراد السوريين أو أي مجموعة أخرى بمتابعة السياسات العرقية بمجرد استعادة النظام لقوته بعد استعادة سلامته الإقليمية وسيادته، مضيفا: “يمكن لوحدات حماية الشعب الاندماج في الجيش الوطني السوري، لكن الحكومة لن تسمح لـ YPGبالحفاظ على علمها؛ ولا أحد يستطيع أن يتوقع مثل هذا الشيء”.
وعلى الرغم من موقفه الثابت فيما يبدو، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لديه سجل في التراجع عندما يتعلق الأمر بالضغوط عليه. وبالنظر إلى المشكلات المالية التي يواجهها الاقتصاد التركي، فقد يتبع “أردوغان” سجله الطبيعي في التراجع مرة أخرى، في حال حصل على تأكيدات بأنه سيتم منح تركيا حصة في عملية إعادة الإعمار السورية.
—-
فهيم تاشتكين: صحفي تركي وكاتب عمود في قسم “نبض تركيا”. كتب سابقًا لـ”راديكال” و”حرييت”، كما كان مضيف البرنامج الأسبوعي “SINIRSIZ” على تلفزيون IMC، وكمحلل سياسي، تخصص “تاشتكين” في السياسة الخارجية التركية والقوقاز والشرق الأوسط وشؤون الاتحاد الأوروبي.ترجمة: المركز الكردي للدراسات