عبد الله أوجلان / ترجمة: عماد تالاتي
“يمكننا القول بأنّ الحداثة الرأسمالية هي أخطر أزمات التاريخ على الحضارة وأكثرها استمراراً. على وجه الخصوص، أدى التدمير العام خلال المائتي عام الماضية إلى تعطيل آلاف الروابط التطورية في البيئة الطبيعية. ربما لا ندرك تماماً الدمار الذي أحدثه هذا في عالم النبات والحيوان. ومع ذلك، من الواضح أنه، مثل الغلاف الجوي، يصدر كلا العالمين إشارات تدلّ على حالة من الطوارئ.
إلى متى يمكن للبشرية أن تستمر في تحمّل هذه الحداثة التي تسبّبت في دمار بيئي بعيد المدى وتسبّبت في تفكّك المجتمع؟ كيف يمكننا تخفيف آلام وعذاب الحرب والبطالة والجوع والفقر من على كاهل البشريّة؟
إنّ الادّعاء بأنّ الدولة القومية تحمي المجتمع هو وهم كبير. على العكس من ذلك، فقد تمّت عسكرة المجتمع بشكل متزايد من قبل الدولة القومية وغرق بالكامل في كثير من أنواع الحروب. إنّني أسمّي هذه الحرب قتل المجتمع، وهي مفروضة بطريقتين:
أولاً السلطة وجهاز الدولة يسيطران على المجتمع ويراقبانه ويقمعانه.
ثانيًا، استبدلت تكنولوجيا المعلومات (الاحتكارات الإعلامية) خلال الخمسين عاماً الماضية المجتمع الحقيقي بالمجتمع الافتراضي. في مواجهة شرائع القومية، الدين، التمييز على أساس الجنس، العلمية، الفنون، صناعة الترفيه (بما في ذلك الرياضة، والمسلسلات، وما إلى ذلك) التي يتعرّض من خلالها المجتمع لتدمير من وسائل الإعلام على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، إذاً، كيف يمكن الدفاع عن المجتمع؟
لقد أصبح من الواضح تماماً أنّ الدولة القومية في الشرق الأوسط هي في الواقع إحدى أدوات الهيمنة للحداثة الرأسمالية. ما كانت عليه معاهدة فرساي بالنسبة لأوروبا، اتفاقية سايكس بيكو المبرمة بين البريطانيين والفرنسيين في عام 1916 هي للشرق الأوسط: ’سلام لإنهاء كلّ السلام’.
الدول القومية، اليوم، لها نفس المعنى في المنطقة مثل حكّام الإمبراطورية الرومانية في السابق، لكنّهم أكثر تعاوناً مع الحداثة الرأسمالية – ويقفون أبعد من التقاليد الثقافية للمنطقة. إنّهم في حالة حرب مع شعوبهم داخلياً، ومع بعضهم في الخارج. تصفية المجتمع التقليدي تعني الحرب ضدّ الشعوب – والخرائط المرسومة مع الحاكم هي دعوة للحروب بين الدول. لا يوجد أيّ منها كاف للتغلب على الأزمة المتفاقمة. في الواقع، وجودهم يعمّق جذور هذه الأزمة.
من وجهة نظري، تدور حرب عالمية ثالثة على مستوى العالم، مع كون منطقة الشرق الأوسط مركز ثقلها. من حيث النطاق والمدّة، هذه الحرب أعمق وأطول من الحربين العالميتين الأوّليين. والنتيجة هي الاضمحلال والتفكّك. ويمكن أن ينتهي فقط بتشكيل توازن إقليمي أو عالمي جديد. أنا أزعم أنّ مصير الحرب العالمية الثالثة للحداثة الرأسمالية سوف تحدّده التطوّرات في كردستان. ويتجلّى ذلك في ما يحدث في سوريا والعراق.
إنّ وجود الدول القومية هو أمر شاذ في تاريخ الشرق الأوسط، والإصرار عليها يؤدّي إلى الكوارث. تعتقد الدولة القومية التركية أنّه مع الإبادة الجماعية النهائية للكرد، فإنّها ستطيل أمد بقائها إلى الأبد، دولة قومية متكاملة الآن مع بلدها وأمّتها. من الواضح أنّه ما لم تتخلّى تركيا عن هذا النموذج، فإنّها ستكون مجرد حفّار قبور لشعوب المنطقة وثقافتها الاجتماعية، بما في ذلك الشعب التركي نفسه. وبالمثل، يظلّ وضع إيران المستقبلي غير مؤكّد بالنسبة لها وللمنطقة.
لكنّ وضع الشعب الكردي، الذي تمّ تقطيعه إلى أجزاء من قبل الدول القوميّة في الشرق الأوسط، وفرض أشكالاً مختلفة من الإبادة والاستيعاب على كل ّجزء من هذه الأجزاء، هو كارثة كاملة. الكرد، إن جاز التعبير، محكوم عليهم بآلام مميتة طويلة الأمد.
النضال الكردي
ومع ذلك، فقد نضجت الآنجملة من الظروف. ويمكن للكرد من خلال نضالهم، أن يشقّوا طريقهم للخروج من بين فكّي كمّاشة الإبادة الجماعيّة. وهذا ممكن فقط من خلال مشروع الأمّة الديمقراطيّة. دولة تقوم على الحرّية والمساواة ولاتضامن بين أفراد المجتمع. وهذه الحرّية تشمل الجوانب الثقافيّة والدينيّة والحرّيات الشخصيّة… هو مشروع يضمن التعايش مع شعوب المنطقة ومصمّم لتطوير منهجيّة تحقيق أهدافه خطوة بخطوة.
روجافا وجميع مناطق شمال وشرق سوريا، التي تديرها إدارة ذاتية مستقلّة ومتعدّدة الأعراق والأديان، قائمة على حرّية جميع أفراد المجتمع بما فيها حرّية المرأة، ترتفع كمنارة للحرية. يقدّم هذا حلّاً نموذجياً لكلّ شعوب الشرق الأوسط والدول القومية. بالطبع، لا يقترح النموذج إنكار الدول القومية، ولكنّه يقترح أنّها ملزمة بحلّ دستوري ديمقراطي. سيضمن هذا وجود واستقلال كلّ أمّة (الأمّة التي بنتها الدولة القوميّة والأمّة الديمقراطيّة).
التراث الغني للكيانات العرقية والدينية والطائفية وثقافاتها في هذه المنطقة لا يمكن أن يتماسك إلّا من خلال ذهنيّة الأمّة الديمقراطية. عقلية تعزّز السلام والمساواة والحرّية والديمقراطية. كلّ ثقافة، من ناحيتها، تبني نفسها كمجموعة وطنية ديمقراطية. بعد ذلك، يمكنهم العيش في مستوى أعلى من الاتحاد الوطني الديمقراطي مع الثقافات الأخرى التي يعيشون معها بالفعل.
مشروع الأمّة الديمقراطيّة التي اقترحها الكرد في شمال وشرق سوريا، مكّن شعوب المنطقة ذاتها من التوحّد في مواجهة تنظيم داعش، هذا التنظيم الذي هو نتيجة لفكرة الاحادية الدينية، والقضاء عليه. وقد حاربوا الإرهاب نيابة عن العالم أجمع. كما رأينا تواجداص مميّزاً للمرأة في تلك الحرب على الإرهاب، ما يجعل المشروع نموذجاً يحتذى به في جميع أنحاء العالم.
النضال من أجل المستقبل
في الوقت الحاضر، وصلت التطورات في شمال وشرق سوريا إلى نقطة هامّة. إنّ الاعتراف بإدارة شمال وشرق سوريا والديمقراطية المحلية التي تمثلها للكرد والعرب والأرمن والآشوريين وغيرهم سيكون تطوّراً لافتاً وهامّاً للغاية لكلّ من سوريا والشرق الأوسط الكبير. ستكون دعوتنا لعودة الناس من أوروبا وتركيا وأماكن أخرى ممكنة بمجرد إعلان الدستور الديمقراطي لسوريا.
وجهة نظرنا بشأن الصراع الكردي التركي المستمر منذ ما يقرب من قرن من الزمان واضحة. لقد قمنا بتطوير حلّ ديمقراطي للمسألة الكردية منذ عام 1993. موقفنا، كما رأينا في محادثات 2013 مع الدولة القومية التركية، التي عقدت في إمرالي، والتي تمّ التعبير عنها في إعلان نوروز، عندما دخلنا في عملية الحوار، هو اليوم أكثر أهمّية من أيّ وقت مضى. لقد عززنا هذا الموقف في إعلان النقاط السبع الذي طرحناه في عام 2019. ونصرّ على ضرورة المصالحة الاجتماعية والمفاوضات الديمقراطية لتحلّ محلّ ثقافة الاستقطاب والصراع.
في الوقت الراهن، لا يمكن حلّ المشاكل بأدوات العنف المادية وبل بالقوّة الناعمة. في ظلّ ظروف مواتية، كان بإمكاني إعداد الخطوات للقضاء على الصراع في غضون أسبوع. أمّا الدولة التركية فهي على مفترق طرق. يمكن أن تستمرّ في طريقها نحو الانهيار مثل الدول القومية الأخرى في المنطقة، أو الدخول في سلام دائم وحلّ ديمقراطي.
في النهاية، سيتحدّد كلّ شيء وفقاً لنتائج الصراع. وإنّ نجاح النضال الذي يخوضه الكرد، والتزامهم بالسلام والأسس الديمقراطيّة، سيحدّد النتيجة النهائيّة، أي، ستسود الحرّية”.
–جمع موقع مجلّة JACOBIN الأمريكيّة جملة من المرافعات ونبذة من مؤلّفات القائد عبد الله أوجلان في هذا المقال.