الخنادق النفسية السورية.. هشاشة وطنية منذ الاستقلال
محمد سيد رصاص
لايوجد مثيل في العالم للطيار في سلاح الجو السوري الذي ضرب بالبراميل المتفجرة السكان المدنيين من مواطني بلده. يمكن أن تكون هذه الحالة أكثر تعقيداً إن تم التذكر أن البراميل المتفجرة أوالقصف الجوي العادي قد شمل بكثافة الأحياء الشرقية من مدينة حلب بفترة سيطرة المسلحين عليها من شهر تموز/ يوليو2012 وحتى الشهر الأخير من عام 2016، حيث يأتي هذا التعقيد من كون هؤلاء الطيارين قد تدربوا وتعلموا الطيران في الكلية الجوية التي توجد في حلب، وهو ما يدفع للسؤال المحير: كم أن هذا الطيار في حالة تناءٍ نفسي عن مكان عاش فيه ومر بشوارعه وأكل بمطاعمه وشرب القهوة والشاي في مقاهيه ونام في أحيائه وعاشر سكانه ودخل بيوتهم؟..
لمقاربة هذا الموضوع، يمكن هنا التأكيد بأن الصراع الداخلي في سوريا 2011-2024 لم يكن مماثلاً للحرب الأهلية الإسبانية 1936-1939عندما كان القتال المسلح بين الجمهوريين والملكيين قتالاً أيديولوجياً ولكن بشكل مسلح بين يمين ويسار يمكن أن يتقاتل فيه الأخ وأخيه والجار مع جاره، بل أخذ شكلاً آخر، صحيح أنه كان بين نظام ومعارضة، ولكن النظام السوري، ورغم أن مؤيديه كانوا عابرين للطوائف والأديان، إلا أن بنية جهازه العسكري- الأمني كان يمسك بمفاصلها علويون، وبالتأكيد كان هذا مبنياً على دراسة متأنية من مركز صنع القرار في النظام السوري. وهناك منظر آخر عاشه سكان دمشق، في فترة 2012-2018 عندما كان يتم قصف الغوطة الشرقية بالمدفعية من جبل قاسيون حيث توجد مواقع عسكرية للحرس الجمهوري، وحالة متفردة عاشها سكان مدن إدلب وجسر الشغور وأريحا عندما تم قصف سوق الخضرة بالطيران مراراً وهو في حالة ازدحام، ثم حالة التعفيش للمدن والبلدات بعد السيطرة عليها، حيث كان هذا يمارس أساساً من الجيش، وهناك حالات ملموسة جرت في كسب عام 2014 وديرالزور عام 2017، وفي عام2017 رأى سكان دمشق كيف كانت الشاحنات العسكرية تحمل البرادات والغسالات والأدوات المنزلية وهي آتية من الغوطة الغربية.
ويمكن تكميل ذلك وبصورة موازية، عندما يفتح سجل ماجرى في الأفرع الأمنية، حيث قتل ما يقدر بعشرات الآلاف بالتعذيب أوبحالات التجويع أوالإهمال الصحي، هذا غير الإعدامات المنهجية للمعتقلين، لذلك من لم يخرجوا من السجون في ديسكبر/ كانون الأول 2024 بعد سقوط النظام يقدر عددهم بحوالي المئة وعشرة آلاف، فيما اعتقالات 1979- 1985 لم يخرج سبعة آلاف بعد تبييض السجون عام 2005، وهؤلاء هم المفقودون في السجون السورية، ومؤكد أن كلهم في عداد الموتى.
في عام 2013 قال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون العبارة التالية: “لايوجد نظام فعل بشعبه مافعله النظام السوري”. يمكن أن تدل هذه العبارة بشكل وصفي على وحشية النظام السوري، ولكن هذا النظام كان له قاعدة اجتماعية قوية استمرت معه حتى آخر لحظة من عمره تضم نسبة كبيرة من العلويين والمسيحيين =والإسماعيليين والدروز وتجار وصناعيي المدن الكبرى من السنة وغالبية الفئات الوسطى من السنة في المدن الكبرى، وكان ملفتاً أن نسبة تأييد النظام بين الكرد لاتكاد تذكر.
هذه القاعدة الاجتماعية للنظام السوري السابق، وهي عابرة للطوائف والأديان والطبقات، لم تبدِ اعتراضاً على مافعله النظام طوال فترة 2011-2024 بل كان الكثير من الأفراد الموالين للنظام يقدمون تبريرات لكل ما فعل أو يموهون الأمور، وفي حالات كانت مجاميع من القاعدة الاجتماعية للنظام، وتحت إشرافه أو بالتغاضي عنه، تقوم بمجازر ضد قرى أوبلدات جارة لهم كما جرى في بلدة الحولة بشهر أيار/ مايو 2012، وكانت حمص وريفها حالة متفردة، وهي المكان السوري الوحيد الذي جرى فيه التقاتل الأهلي، فيما لم يجري هذا في مدن الساحل، وعلى الأرجح أن هذا هو سبب التوتر الحالي لحمص وريفها بعد سقوط النظام.
يعطي كل ماسبق صورة عن خنادق نفسية تفصل بين السوريين، تنتج مفاعلاتها أفكاراً سياسية وسياسات وممارسات، ظهرت في زمن المحرقة السورية 2011-2024، و”الناس معادن” و”المعادن تعرف عبر النار”. يمكن هنا دراسة هذه الخنادق، فالنظام السوري، وهو من أرباب ” لعبة تخويف الأقليات”، قد لعب بشدة على الوتر العلوي- السني، وحتى على لعبة تخويف الأقليات المسيحية من “الوجش السني”، ويمكن القول بأنه قد نجح إلى حد بعيد في هاتين الحالتين، حتى أحيانا بين الكثير من المعارضين لنظام الأسد. هنا، لايمكن تفسير الخندق النفسي بين الموالي السني لنظام بشار الأسد وبين المعارض له من الإسلاميين واليساريين بأنه أكثر من خندق حفرته المصالح ولم تحفره مخاوف ورهابات.
أيضاً، توجد خنادق نفسية سورية عديدة منها خندق نفسي عربي- كردي ، ولكنه لايوجد في الجسم الاجتماعي حيث يختلط العرب والكرد ، في مدن حلب والحسكة والقامشلي أوحي ركن الدين بدمشق، وإنما طرفا هذا الخندق هم الشوفينيون القوميون في الطرفين، وغالباً من المثقفين والمتأدلجين، وليس عند سواد الناس، فيما لايوجد هذا الخندق النفسي عند اليساريين العرب أوعند اليسار الكردي، أوعند حزب مثل الاتحاد الديمقراطي- PYD ولاعند حالة وطنية كردية سورية مثل المرحوم حميد درويش، ففي سوريا يعيش العرب والكرد في حالة أفضل من حالات يعيشها الكرد في العراق وتركيا وإيران، والمظالم التي قامت بها الأنظمة السورية منذ عام 1958 ضد الكرد، على الصعد القومية والثقافية والسياسية والإدارية، تعاكسها العلاقات الاجتماعية.
ولكن، وبالمجمل، هذه الخنادق النفسية السورية المذكورة، ومنها قديم مثل الخندق النفسي بين مدن دمشق وحلب وديرالزور وأريافها، كانت كشًافاً لمدى هشاشة الحالة الوطنية السورية منذ جلاء الفرنسيين عام 1946، وهي تدل على انهيار الدولة الوطنية السورية التي قامت آنذاك، أوعلى تداعيها، وعلى الحاجة إلى بناء دولة وطنية سورية جديدة، وإذا ظهرت هذه الهشاشة في محرقة 2011-2024 فهذا يعني أنها لم تكن بنت تلك السنين، بل كانت كامنة وبقوة قبلها، وإلا لما كانت سوريا تفرز كل هذا الحطب الداخلي لمحرقتها الذي أتت دول من الإقليم والعالم من أجل أن تطبخ طبخاتها على نارها.