حسين جمو
مع نهاية الولاية الأولى لدونالد ترامب، كانت الجائزة الجيوسياسية الكبرى التي لم تتحقق هي إقامة علاقات طبيعية بين السعودية وإسرائيل. وقد شكلت هذه الفرضية محوراً رئيسياً للسياسات الإقليمية في السنوات الأخيرة، سواء من خلال دفعها إلى الأمام عبر مشاريع كالممر التجاري الهندي-الأوروبي، أو عبر محاولة تقويضها كما حدث في هجوم حماس في 7 أكتوبر.
وبعد لقاء الرئيس الأميركي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الخامس من فبراير/شباط، برز احتمال إعادة تل أبيب النظر في «الجائزة الكبرى» من وجهة النظر الإسرائيلية، أي تطبيع العلاقات مع السعودية. فقد فتحت خطة ترامب تهجير سكان غزة الباب أمام طموحات إسرائيلية أكبر من التطبيع مع السعودية، وهو التخلص من غزة إلى الأبد وعلى نمط يتجاوز حتى التهجير الإجرامي الذي أُقر على هامش معاهدة لوزان عام 1923. فقد كانت الأخيرة على الأقل تبادلاً للسكان، أما سيناريو غزة المطروح فهو نمط تركي تم استخدامه لأول مرة في مذبحة وادي زيلان عام 1930، ثم تكررت في ديرسم عام 1937، وفي أرياف كردستان خلال مطلع تسعينيات القرن الماضي. كذلك نموذج الأسلحة الكيماوية في حلبجة وحملة الأنفال العراقية ضد الكرد. وإذا أردنا حصر عمليات التطهير العرقي والتهجير الجماعي في المنطقة، فالشرق الأوسط مثال على استمرارية الهمجية في السياسات المعاصرة الأكثر حداثة.
إذا لم يتراجع ترامب عن مخطط تهجير سكان غزة وتحويلها إلى منتجعات متخيلة، فعودة الحرب بين إسرائيل وحماس مسألة وقت حتى لو لم يتحقق التهجير والمنتجع المتخيل.
دولة فلسطينية بعد 7 أكتوبر؟!
تخلى نتانياهو عن الحذر المعتاد في الحديث عن السعودية، حيث صرح بأن المملكة تمتلك أراضٍ واسعة تكفي لإقامة دولة فلسطينية، وهو تجرؤ – وليس مجرد جرأة – أثار استياء السعوديين الذين يرون أن للتطبيع ثمناً ذو بعد عربي إسلامي إلى جانب المنافع الوطنية، وهو إقامة دولة فلسطينية.
وعلى الرغم من حرصه في السابق على إبقاء الباب مفتوحاً أمام علاقات محتملة، جاءت تصريحات نتانياهو بعد لقاء ترامب لتعكس ملامح تحوّل جذري، إذ أكد رفضه إقامة دولة فلسطينية ثمناً للتطبيع مع السعودية، وأن إسرائيل لن تبرم أي اتفاق لا يأخذ في الاعتبار مخاطر تهدد أمنها. وسخر من الفكرة قائلاً: «دولة فلسطينية بعد 7 أكتوبر؟!»
بهذا الموقف، يرسي نتانياهو قاعدة جديدة مع السعودية تقوم على مبدأ «علاقات مقابل علاقات» وليس «علاقات مقابل دولة فلسطينية».
إذا تمسكت تل أبيب بهذه القاعدة، فقد يشهد الشرق الأوسط إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية الهشة أصلاً، مما قد يؤدي إلى خروج محتمل للسعودية من التحالف «المفترض» المشترك مع إسرائيل، وهو تصور لا يقل غرابة من حيث وظيفته المفترضة: منافسة المحور التركي-القطري في تقاسم الأراضي التي أخلتها إيران في الشرق الأوسط.
في كل الأحوال، لا يمكن إنكار المساهمة الإسرائيلية القيادية في هزيمة ومحاصرة «الشيعية السياسية» الإيرانية في المنطقة، وهو أمر أدى تلقائياً إلى تمكين «السنية السياسية»، وبدون المساهمة الإسرائيلية في هذا الصراع كان من الممكن أن يكون الإقليم كاملاً تحت هيمنة إيران وتركيا، وهما قوتان إقليميتان تتنافسان على التوزيع وليس على الامتلاك الأحادي. هذا التفصيل أساسي لفهم أين يقف حدود التنافس بين البلدين تاريخياً.
طالما أن الأمر سار نحو تحجيم النفوذ الإيراني على أيدي إسرائيل، فإن الفراغ الناجم عن تحرك القوى الجديدة (في سوريا مثالاً) يقلق تصورات الأمان اليهودي. إن انسياق نتانياهو وراء خطة ترامب من المرجح أن يؤدي إلى تأخر التطبيع الكبير مع العرب، ودفع السعودية إلى موقع أكثر وسطية بين المحاور المتنافسة، وهو ما نشهده في سوريا حيث تظهر المملكة كمساهم مستقل للاستقرار بدون أن تكون ضمن خط مشترك تركي أو إسرائيلي.
مثل هذا التحول في موقف السعودية، قد يوقف عملية اندماج إسرائيل في المنطقة، أي أن تصبح دولة محلية شرق أوسطية، وهو ما بدت أنها قريبة من تحقيقه بعد إضعافها لمحور إيران في غزة ولبنان وسوريا. في المقابل، ستستفيد تركيا من التموضع السعودي الوسطي ويمنحها أفضلية تجاه تل أبيب.
الخيار الإسرائيلي أمام تراجع التطبيع
هناك خيارات إسرائيلية أمام هذه الاحتمالات – بالتحديد احتمال التوترات مع الرياض – وهو تعزيز وجودها في مناطق التنافس الإقليمي، خصوصاً في سوريا، والسعي إلى توثيق علاقاتها مع لاعبين أصغر، في ظل غياب آفاق التطبيع مع الرياض.
ومن اللافت أن تراجع فرص التطبيع الفوري بين البلدين يعود إلى افتقار نتانياهو المعرفة في «أنماط الشخصيات في الشرق الأوسط»، حيث لا يمكن مخاطبة السعوديين بالطريقة التي تحدث وفقها نتانياهو بأن يقيموا للفلسطينيين دولة على أراضيهم إذا كانوا يحرصون فعلاً على مصالحهم، والأكثر من ذلك لا يمكن لنتانياهو أن يتحدث عن السعودية وكأنه دونالد ترامب!
من زاوية أخرى، قد يؤدي التحول السعودي نحو الوسطية بين المحاور، إلى انسحاب إسرائيل من الصراع السني-الشيعي، مما قد يعيد التوازن العسكري في حال قررت إيران تجاوز شعار «تحرير فلسطين» والتركيز بدلاً من ذلك على الصراعات فقط داخل الدول المسلمة.
لا يمكن استبعاد هذا الاحتمال بالقول إنه مستحيل. قد تصل إيران إلى صيغة تضمن فيها عدم التورط في أي نشاط يهدد وجود إسرائيل. وإذا ما حدث ذلك، قد تنأى إسرائيل بنفسها عن دعم التعبيرات السنية في مواجهة إيران، وهذا رهن بتحول فكري في طهران يدفعها إلى البحث عن عدو جديد بدلاً من إسرائيل لإعادة إنتاج شرعية نظامها السياسي، وأن تبني إسرائيل تصورات أمنية كاملة لمواجهة «أمة غاضبة» تحيط بها ولا تدعمها أو تمولها إيران!
في ظل هذه المتغيرات، تبقى الأمور في حالة سيولة. لم تتبلور بعد معادلة يمكن البناء عليها، وسيظل الغموض قائماً حتى تتضح طبيعة العلاقات السعودية-الإسرائيلية وكذلك ما إذا كانت إيران ستعيد النظر في تعريفها لدولة إسرائيل.
على هذا الأساس، قد تظهر ملامح جيوسياسية جديدة، يكون الكرد من المستفيدين منها، بعد أن تحرروا جزئياً من وضعية «الصندوق المغلق»، وهو تعبير صاغه طلعت باشا تعليقاً على ما ستفعله حكومة الاتحاد والترقي في الأناضول وشرقها، فقال إن هذه المناطق ستكون صندوقنا المغلق.
تركيا وكردستان.. توافق أم مواجهة؟
الخيارات السياسية الكردية غير مضمونة النتائج والعوائد وتخضع للاحتمالات المتعارضة، فهي – أي كردستان أو جغرافيا القضية الكردية – جزء من الشرق الأوسط المضطرب وليست الجزء المقرر أن يربح بكل الأحوال، وما زالت حواضر كردية مهمة ومركزية مثل عفرين، تحت الاحتلال التركي المباشر.
في هذا السياق، تركيا وكردستان أمام خيارين:
- التكيف مع الواقع الجديد والاستجابة لمبادرة سلام عادلة، بما يتيح للطرفين انطلاقة سياسية مشتركة تمتد جنوباً إلى البلاد الشامية وصولاً إلى عربستان (وهي منطقة شبه الجزيرة العربية في الثقافة الكردية)، يبدأ ذلك من إعادة بناء هوية الجمهورية.
- المواجهة واستمرار الصراع، مما يدفع الكرد إلى عدم رفض التحالف المعروض من جانب إسرائيل.
التناقضات التركية-الإسرائيلية ليست وجودية، لكنها تحمل مقداراً كبيراً من الأذى المتبادل، وهي مرشحة لتشكيل معالم الاستراتيجيات الإقليمية في حوض ما بين النهرين.
تقف كردستان اليوم في وضع تاريخي مشابه لما كانت عليه بين أعوام 1500 و1520، عندما حسمت نتيجة الصدام الصفوي-العثماني في معركة جالديران عام 1514. حينها، أدى تحالف أمراء كردستان مع السلطان سليم الأول إلى كسر الحدود الجغرافية للإمبراطورية العثمانية، التي كانت محصورة لقرنين عند نهر الفرات، ومنحها القدرة على التوسع شرقاً ثم جنوباً. لم تكن القاعدة الاجتماعية للتوسع العثماني جنوباً في الأناضول فقط، بل بكتلة سياسية اجتماعية مشتركة من الأناضول إلى كردستان.
سيكون البديل عن الاتفاق التركي الكردي، الجريء والعادل، خسائر كبيرة جديدة تحيل المنطقة إلى ساحة حرب نحو قرن آخر، وتفتح ثغرات متبادلة للاستنزاف مجدداً في كردستان والأناضول معاً.