الروائي القتيل صباح الدين علي وملحمة الهروب من الجمهورية
من قصة «صوت» كان الظهور الأول لأغنية «ليلم ليه» عام 1941
حسين جمو
كان اسم صباح الدين علي عابراً في بعض الأوراق التي قرأتها عن عصمت إينونو، لكنني توقفت عنده. شيء في وقع الاسم جعلني أفكر أنه ينتمي إلى تلك العائلات البلغارية المسيحية التي دفعت «ضريبة الدم» للجيش الإنكشاري العثماني! صباح الدين علي لم يكن مسيحياً، بل تركياً مسلماً، ولد عام 1907 في بلغاريا وهاجرت عائلته إلى إسطنبول عام 1921 بعد أن دمرت الحرب اليونانية-العثمانية بيوتهم وجعلتهم لاجئين.
ما الذي جرى بينه وبين عصمت؟ وكيف قُتل هذا الروائي الذي اشتهر أكثر بعد عام 2000 برواية لا يمكن أن تكون أفضل ما كتبه، بل لأن جيلاً جديداً وجد في كلماته صدى لمشاعره التي عجز عن شرحها! رواية «مادونا صاحبة معطف الفرو».
قرأتُ سيرته المتفرقة، وتتبعتُ أرشيف بعض الصحف التركية يوم مقتله، وما نُشر عنه في اليوم التالي في ربيع 1948. تذكرتُ أن هذا الاسم ليس غريباً على رفوف مكتبتي. وجدت له مجموعتين قصصيتين، فقرأتهما بالتتابع بدون انقطاع. قصة «صوت» مفاجئة، وهي عنوان إحدى مجموعاته المترجمة إلى العربية (دار موزاييك)، ومن هذه القصة كان الظهور الأول لأغنية «ليلم ليه» عام 1941.
تبدأ قصة هذه الأغنية من محطة حافلات ريفية، حيث ينتظر الركاب ساعات طويلة، فيسمع راوي القصة لحناً بديعاً من آلة الساز وصوتاً رائعاً يؤدي أغنية تخطف الألباب. يقرر الراوي مساعدة الشاب القادم من سيواس، ويدعى علي، «علي سيواسلي»، لتقديم موهبته في العاصمة، فيؤمّن له لقاءات مع منظمي مسابقات فنية.
لكن المدينة لم ترحب به.
يحاول هذا الشاب القروي (ذو العزف الرائع في استراحة الحافلات) تحقيق النجاح، فيفشل في تجاوز الاختبارات الأولية بعد إهانات وتمييز طبقي ضده. تميل اللجنة حتى قبل سماع الأداء إلى شاب تركي أشقر يبدو عليه أنه «ابن نعمة»، ويتم تجاهل علي سيواسي. يشعر الشاب بإهانة بالغة وكذلك بخجل جارح، لأنه أحرج من آمنوا به وبقدرته وتوقع منه إدهاش اللجنة، لا إثارة احتقارهم.
كانت أحلام علي بسيطة: العزف والغناء، إضافته الجبارة في هذه الحياة. لم يكن يحلم بكل هذا لولا ظهور صاحبه الجديد عند حافلات السفر. وللحق، فقد كان علي مبدعاً في الأناضول وعلى الطرق الريفية، لكنه فقد موهبته في المدينة. لقد غدرت به.
انهار حلمه في لحظة. لم يكن مجرد رفض، بل إذلالٌ. قرر العودة إلى قريته، لكن لم يكن معه ما يكفي من المال. فباع الشيء الوحيد الذي منحه معنىً في حياته: الساز.
كتب صباح الدين علي كلمات الأغنية في قصته عام 1941 ونشرها في صحيفة أسبوعية، ثم جمعها في مجموعة قصصية باسم «صوت». وغناها زولفو ليوانلي في الستينيات كأغنية نضالية، ثم أعادها إبراهيم تاتليسز في التسعينيات كأغنية للمراهقين، فابتعدت عن أصولها، وكأنها تجربة في فلسفة «ما بعد البنيوية» في الأدب.
علي سيواسي لم يكن مجرد شخصية خيالية، كان رمزاً لكل فلاح طرده النظام الجديد، لكل موهبة سحقها تمييز المدن ضد الريف، لكل روح رُفضت لأنها لم تأتِ من النخبة.
أصبح «علي سيواسي» أيقونة اجتماعية أناضولية أسس لها صباح الدين علي، وهو يمثل كل الشرق العثماني/ كردستان والأناضول أمام ظاهرة «تقدمية المدن» و«رجعية الأرياف»، التي التصقت بالسياسة حتى نهاية السبعينيات. كأن هذه الشخصية تجسيد لصدمة المجتمع بالجمهورية وتحيزها القيمي المضاد للذات. فيؤسس لقطيعة مع المدينة – النخبة. وبما أنه أصبح ظاهرة مستمرة، فإنه يظهر بشكل جديد في السبعينيات، كظاهرة وليس كشخصية اعتبارية، فيصبح علي من كوادر اليسار التركي، وهو ريفي انتقل للإقامة في المدينة، فيواجه ريفياً آخر أناضولياً من اليمين المتطرف (الذئاب الرمادية). لقد أنتج الريف الأناضولي ظاهرتين متطرفتين أفسدتا الحياة السياسية في المجتمع: اليسار واليمين، فكان «علي في مواجهة مهمت».
«مادونا صاحبة معطف الفرو» رواية من ترجمة جهاد الأماسي، وهي درة تاج صباح الدين علي.
قرأتُ الرواية، ولم تكن ممتعة بالنسبة لي، لكن شخصية «رائف أفندي» المستسلمة للزوجة والأصهار، والغامضة في فترة الشباب، مثيرة للفضول. الغرابة في تعلقه بصورة فتاة على لوحة في برلين، ثم تخيله أن هذه الفتاة – اللوحة قد تجسدت في فتاة تمتهن الرقص وحياة الليل، فيعشقها من طرف واحد.
لم تشتهر روايته الأخرى الأكثر شهرة، وهي على قائمة مشاريع القراءة لدي الآن، عنوانها «الشيطان في أعماقنا».
كان الرئيس عصمت إينونو، المعروف بعدم تسامحه مع خصومه خاصة الكتّاب، يكره صباح الدين، فلاحقته أجهزة السلطة بكل قوتها في أشعاره وقصصه. ولاحقه عصمت حتى في زمن مصطفى كمال، فسُجن في مطلع الثلاثينيات لأنه نشر قصيدة فُهِمَ منها هجاء لمصطفى كمال، ثم أُطلق سراحه بعد عام، فرفضت كل الدوائر توظيفه، إلى أن طلب منه وزير الثقافة – بإيعاز من عصمت- أن يقدم برهاناً على أنه تغير، فكتب – في سبيل الخبز – قصيدة مدح في مصطفى كمال.. ثم نال الوظيفة لفترة قصيرة قبل أن يطرد مجدداً.
في زمن إينونو، أصبح صباح الدين وعزيز نيسين وناظم حكمت أصدقاء. تعاونوا في إصدار مجلات تحمل لقب «باشا»، مثل «بقرة باشا» و«معلوم باشا»، فلاحقه عصمت باشا مدعياً عبر أجهزته أنه هو المقصود من السخرية. سُجن صباح الدين وضاقت به الحياة بعد روايته «الشيطان في أعماقنا»، وتعرض للتشهير من أحد أبرز منظري القومية الطورانية في ذلك الوقت، وهو نيهال آتسيز، أستاذ ألب أصلان توركيش.
قرر صباح الدين علي القطيعة مع الجمهورية إلى الأبد، دولةً ومؤسساتٍ وشخصياتٍ، فقرر إنهاء انتمائه لتركيا وسلك الطريق نحو بلغاريا سيراً على الأقدام، متجهاً إلى بلد وُلِدَ فيه ولا يعرفه. كان اليأس قد بلغ به هذا الحد.

القاتل «الرسمي» لصباح الدين هو علي أرتكين، رفيق زنزانته الذي قدم نفسه له كمهرب، لتنتهي مسيرة صباح الدين عن عمر يناهز 41 عاماً. وقد برر أرتكين جريمته بـ «الواجب الوطني». حُكم عليه بالسجن 4 سنوات، وأُطلق سراحه بعد بضعة أسابيع مستفيداً من العفو. وقيل إن الدولة قتلته تحت التعذيب، خاصة أن جثته لم يعثر عليها إلا بعد عدة أشهر من وفاته، وتطوع أرتكين لتبني الجريمة.
لصباح الدين علي ابنة وحيدة تعد اليوم علامة في عالم الموسيقى التركية، هي عازفة البيانو والأستاذة الجامعية فيليز علي، البالغة من العمر 88 عاماً.

انتهت حياة صباح الدين كحياة معظم شخصياته القصصية: قُتل في ربيع 1948 وهو يحاول العودة. لم يمت ميتة رائف أفندي على سريره وهو يستذكر شريط حياته حيث طارده رجال «الرجل الثاني» في الجمهورية حتى الموت. تشكل قصته استثناء أدبياً-سياسياً، كان تركياً يهرب مذعوراً من الجمهورية.. فما الذي رآه فيها وأرعبته؟