ألمانيا.. مقاربات تجاه الأزمات السياسية والاقتصادية
المركز الكردي للدراسات
أدت الخلافات بين الأحزاب الثلاثة المشكلة لحكومة ائتلاف «إشارة المرور» في ألمانيا إلى انهيارها بعد إعلان المستشار أولاف شولتس بشكل رسمي إنه سيطلب في 16 ديسمبر/كانون الأول من البرلمان التصويت على منح الحكومة الانتقالية الحالية الثقة لإدارة شؤون البلاد إلى يوم 23 فبراير/شباط 2025 تاريخ إجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة. وتضم حكومة «إشارة المرور» التي تشكلت في 7 ديسمبر/كانون الأول 2021 كل من الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة المستشار شولتس، والحزب الديمقراطي الليبرالي الحر بقيادة وزير المالية كريستيان ليندنر، وحزب الخضر بقيادة وزير الاقتصاد روبرت هابيك. وجاء انهيار التحالف الحكومي على إثر خلافات حادة ووجهات نظر مختلفة في طريقة إدارة الملف الاقتصادي بين كل من ليندنر وشولتش، وهو ما أدى إلى انسحاب ليندنر وحزبه الديمقراطي الليبرالي الحر من التحالف، وبالتالي فقدان الحكومة للأغلبية والاضطرار إلى طلب الثقة من البرلمان لتسيير الأمور لحين موعد إجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة.
أزمة الاقتصاد وفرملة الديون
شكّل الخلاف على الموافقة على الميزانية العامة للعام 2025 جوهر المشكلة بين أطراف التحالف الحكومي. ورفض وزير المالية ليندنر الخروج عن ما أسماها «المبادئ الليبرالية» لحزبه والرضوخ لسياسة شريكيه في التحالف المتمثلة باللجوء إلى المزيد من الاقتراض، وبالتالي تعليق العمل بفرملة الديون بغية سد العجز الكبير في الميزانية، والناتج عن الأزمة التي يمر بها الاقتصاد الألماني جراء تعرضه في السنوات الماضية لهزّات كبيرة مثل تداعيات جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا والأزمة الناتجة عن تدفق ملايين اللاجئين وتراجع زخم تصدير وقوة منافسة البضائع الألمانية في السوق العالمية، بالإضافة إلى اضطرار الدولة لبناء وتأهيل الجيش الألماني وتخصيص صندوق بقيمة 100 مليار يورو (قد يتطلب 50 مليار يورو إضافي)، في ظل ضرورة إجراء عمليات صيانة وترميم عاجلة للبنية التحتية في البلاد، من جسور وطرق ومدارس ومستشفيات ووحدات سكنية وتطوير وتحديث القطاع الصناعي ليكون قادراً على المنافسة على الصعيد العالمي. وتقول بعض التقديرات إن ألمانيا تحتاج إلى 780 مليار يورو حتى عام 2030، وإنه من الصعب جداً تأمين هذه المبالغ في حال بقاء الاقتصاد الألماني على وضعه الراهن، وإن الحكومة ستضطر إلى إجراءات تقشفية وتخفيض شديد في الإنفاق بغية تأمين هذه المبالغ.
وتمسّك ليندنر بقراره القاضي برفض سد العجز عبر الاقتراض وتعليق العمل بفرملة الديون، متسلحاً بالآلية التي ينص عليها الدستور والتي تقول إنه لا يجوز تخطي قاعدة فرملة الديون ولا يجب أن يتجاوز العجز للميزانية العامة نسبة 0,35% من الناتج المحلي. بينما كان المستشار شولتس يريد تعليق العمل بهذه القاعدة واللجوء إلى المزيد من الاقتراض وإعلان حالة طوارئ، وبالتالي كسر قاعدة فرملة الديون التي وضعتها حكومة آنجيلا ميركل عام 2009، في محاولة للحد من الاقتراض الحكومي الكثيف بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008.
وبالضد من خطط شولتس، كان ليندنر يهدف إلى القيام بإصلاحات اقتصادية واسعة وعاجلة لتنشيط الاقتصاد وتحديثه دون إرهاق القطاع الصناعي وأصحاب المصانع والشركات بفرض المزيد من الضرائب والالتزامات المالية عليهم، بل على العكس من ذلك، تنفيذ حزمة «ليبرالية» من الإصلاحات تتمحور حول تخفيض الضرائب على الصناعيين وأصحاب الشركات والعمال وصغار الكسبة المدرجين ضمن الطبقة الوسطى، وتبسيط النظام الضريبي، والحد من البيروقراطية وتدخل الدولة في الاقتصاد، والذي زاد بشكل كبير في فترة تولي روبرت هابيك من حزب الخضر لحقيبة الاقتصاد، والذي أرهق قطاع الصناعة وعموم المواطنين بالقوانين التي أصدرها بغرض تشجيع الطاقة المتجددة والتقليل من الاعتماد على الغاز. وأثّرت القوانين والإجراءات التي مررها وزير حزب الخضر على شعبية الحزب الديمقراطي الليبرالي الحر الذي اتهمه ناخبوه بالتخلي عن مبادئه الليبرالية والتنازل لحزب الخضر رغبة منه البقاء في السلطة، وهو ما انعكس على التراجع الواضح في شعبية الحزب التي انخفضت من 11,04% في الانتخابات البرلمانية عام 2021 إلى نسبة متوقعة هي 4% في الانتخابات المقبلة في فبراير/شباط 2025، بحسب آخر استطلاعات الرأي (أجري في 19/11/2024).
مرحلة جديدة من الاضطراب والتوتر
بعد أن تأكد إجراء انتخابات مبكرة في فبراير/شباط 2025، بات الترقب والتوجس هو السائد في الساحتين السياسية والإعلامية في ألمانيا. وبغض النظر عن هوية وتوجه الحكومة القادمة، من شبه المؤكد أن المباحثات بين الأحزاب المختلفة لتشكيل حكومة ائتلافية سوف تستغرق عدة أشهر. وهذا يعني المزيد من الاضطراب والتوتر، خاصة في قطاعات الصناعة والمال والاستثمارات. ويشير آخر استطلاع للرأي إلى أن الإتحاد المسيحي الديمقراطي سيحصل على نسبة 32% وحزب البديل اليميني على 19%، والحزب الاشتراكي الديمقراطي على 16% وحزب الخضر على 10% وتحالف سارا فاغنكنيشت على 8%، وكل من الحزب الديمقراطي الليبرالي الحر وحزب اليسار على 4% (لن يتمكنا من الدخول للبرلمان بسبب حاجز 5%). وبحسب استطلاعات الرأي، فإن الحكومة المقبلة على الأغلب ستكون تحالفاً بين الإتحاد المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر، بسبب رفض حزب الإتحاد المسيحي وزعيمه فريدريش ميرتس التحالف مع كل من حزب البديل وتحالف سارا فاغنكنيشت، الأقرب لحزبه في الأجندة والبرامج وفي تصورات حل المشاكل الاقتصادية والسياسية الحالية.
ونظراً لرفض الحزب الأكثر شعبية، وهو الإتحاد المسيحي الديمقراطي، التعاون مع حزب البديل وتحالف سارا فاغنكنيشت، فإن حالة من الارتياح تسود أوساط كل من الحزب الاشتراكي الديمقراطي (حزب المستشار شولتس) وحزب الخضر (حزب وزير الاقتصاد هابيك) لمعرفتهما بأنهما سيكونان جزءاً من الحكومة المقبلة بغض النظر عن تراجع شعبيتهما جراء الأداء السيء لهما في حكومة «إشارة المرور» الحالية (انخفضت شعبية الحزب الاشتراكي الديمقراطي من 25,7% في انتخابات 2021 إلى 16% بحسب آخر استطلاع للرأي لانتخابات 2025، بينما حاز حزب الخضر على 14,7 في انتخابات 2021، وتعطيه استطلاعات الرأي توقعاً لا يتجاوز 10% في انتخابات 2025).
وينشط كل من حزبي البديل وتحالف سارا فاغنكنيشت في مواقع التواصل الاجتماعي لشرح نتائج وتداعيات تحالف «الأحزاب القديمة» و«الأوليغارشية الحاكمة»، والتي انعدمت الفروقات في البرامج السياسية بينها وزالت اختلافاتها العقائدية، وأصبح تحالفها على أساس مصالحي واضح من بين أهدافه تطويق حزب البديل وتحالف فاغنكنيشت ومنعهما من المشاركة في الحكومة وضمان مواصلة السياسات المتبعة حالياً والتي أدت، بحسب الآلة الإعلامية لحزب البديل وتحالف سارا فاغنكيشت، إلى تراجع الاقتصاد وتردي مستوى المعيشة وتزايد حالة الفقر، بالإضافة إلى تدفق المهاجرين وما نتج عن مشاكل جرّاء عملية الاندماج وظهور التطرف الإسلامي والرفض للقيم الألمانية. ومن الواضح أن مثل هذه الاتهامات تؤثر بشكل كبير في الرأي العام، ويمكن عدها من بين أهم الأسباب التي تقف وراء تراجع شعبية الأحزاب التقليدية.
وينعكس هذا المشهد السياسي المضطرب على قطاع الاقتصاد والصناعات. وتزايدت الهواجس بسبب فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث تتخوف ألمانيا من ركود اقتصادي أكبر وأكثر تأزماً في حال تنفيذ ترامب وعوده بفرض رسوم جمركية تصل إلى 20% على البضائع والسلع المستوردة من القارة الأوروبية. وتذهب التقديرات بأن الصادرات الألمانية إلى السوق الأميركية، والتي تبلغ قيمتها السنوية 170 مليار دولار، ستتضرر كثيراً من الرسوم الضرائبية التي ينوي ترامب فرضها على السلع الأوروبية. وهذا يعني بكلام آخر أن الكثير من أصحاب المصانع ورؤوس الأموال قد يفكرون في الهجرة من ألمانيا ونقل مصانعهم إلى دول أخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، للتخلص من القيود والالتزامات الداخلية والخارجية التي أرهقتهم وخفّضت من نسبة الربح التي يحققونها.
تبدو أغلب الملفات العالقة في ألمانيا مزمنة وعصية على الحل. ويعود السبب إلى ضعف الحكومات الائتلافية وتشابه خطط الأحزاب المشكلة لها وعدم رغبتها في التصدي بشكل جذري للقضايا والتحديات السياسية والاقتصادية في البلاد. وتخبرنا السنوات الماضية بتفادي الحكومات الائتلافية اجتراع حلول جذرية دائمة ولجوئها بدل ذلك إلى نوع من إدارة الأزمة وترك الملفات الكبيرة للحكومات المقبلة. وبدون حل المشاكل الاقتصادية وتحديث البنية التحتية وتحسين الوضع المعيشي للمواطنين ومعالجة ملف اللجوء والهجرة، وكذلك محاربة الفساد وفتح ملف معالجة جائحة كورونا وتحديد استراتيجية وطنية واضحة من الحرب الدائرة في أوكرانيا، ستبقى الأزمات تتطور وتتفاقم، وستشهد الأحزاب التقليدية تراجعاً مستمراً في شعبيتها بشكل واضح لصالح حزب البديل اليميني الذي يتقدم ويستحوذ على المزيد من الأصوات الجديدة الناقمة والغاضبة بعد كل عملية انتخابية.