المفتي الأخير لكردستان إيران
الكتاب: المفتي الأخير لكردستان إيران؛ التداعيات العرقية والدينية في منطقة الشرق الأوسط الكبير
الكاتب: علي عزتيار
مراجعة: محمد شمدين
إصدار: (Palgrave Macmillan) عام 2016؛ الصفحات: 249
تمهيد
علي عزتيار، محامٍ ودبلوماسي أميركي وعضو في مجلس المحيط الهادئ «US Agency for International Development». وقبل انضمامه إلى الخدمة الخارجية في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، مارس القانون في العديد من الشركات الدولية البارزة وشغل منصب المدير التنفيذي لمركز ريادة الأعمال والتنمية في الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا في بيركلي.
والكاتب هو من أصل كردي إيراني نشأ في الغرب ويقيم في باكستان. ورغم أنه لا يخبرنا عن نفسه وعلاقته فيما خصّ دراسته موضوع الكتاب الكثير، لكنه يبدو أنه طوّر اهتماماً مركّزاً بمفتي زاده وحالة الكرد في إيران خلال سنوات رئاسة محمد خاتمي (1997-2005)، عندما أمضى بعض الوقت في إيران كمتدرب في شركة استشارية خاصة في طهران.
يستند الفصل الأول، الذي يرسم السياق التاريخي لظهور الإسلام السياسي والقومية في كردستان، على الأدبيات الموجودة باللغة الإنكليزية. أما بقية الكتاب، فكُتب بالاستناد على مصادر مباشرة؛ إذ يستند إلى حد كبير على محادثات مطولة باللغتين الفارسية أو الكردية مع أقارب وزملاء سابقين لمفتي زاده، ومقابلات هاتفية مع بعض المصادر الرئيسة، وأيضاً قراءة رسائل مفتي زاده من السجن، والتي تحتفظ بها مجموعة «مكتب القرآن». يقدم المؤلف صورة متعاطفة، ولكنها نقدية كذلك، لمفتي زاده كمفكر مسلم وسياسٍ هاوٍ، ويشكل تأكيده على الإسلام والمخاوف الإسلامية في التاريخ الاجتماعي لكردستان تصحيحاً قيّماً للسرديات السائدة التي يظهر فيها الإسلام بشكل أساسي كعامل مثبّط في الصراعات الاجتماعية والسياسية.
مصطلح كردستان
بداية، لابد من الإشارة إلى أنه قد يزعم البعض أن تاريخ كردستان الحديث أكثر تعقيداً بأربع مرات من تاريخ جيرانها، ذلك أنه رغم أوجه التشابه القبلية والثقافية واللغوية المتقاطعة الموجودة في جميع المناطق التي يعيش فيها الكرد، فإن معظم الكرد منفصلون على طول حدود أربع دول قومية متميزة في تاريخها المعقد والخاص. وفي حين أن معظم التحليل في هذا الكتاب سوف يركز على كردستان التي عاش فيها أحمد مفتي زاده، وبشكل رئيس كردستان الإيرانية، فإن كلمة «كردستان» المستخدمة تشير إلى المناطق التي يشكل فيها الكرد أغلبية السكان؛ فكردستان الإيرانية هي الجزء الإيراني الذي يشكل فيه الكرد أغلبية السكان. ولا يحمل استخدام كلمة كردستان في الكتاب أي رأي سياسي. وبتعبير آخر: رغم الدلالات السياسية المرتبطة بالكلمة، فإن كلمة كردستان هي ببساطة الطريقة الأكثر ملاءمة لوصف تلك المناطق.
ظاهرة مفتي زاده
كان أحمد مفتي زاده نتاجاً لعصر مثير للاهتمام في تاريخ إيران الحديثة. لقد ترك بصمته على ذلك التاريخ. وكما نقرأ في هذا الكتاب، ولد مفتي زادة في عائلة لها مكانتها. وكان جده عُيّن من قبل ناصر الدين شاه قاجار (1842-1897) مفتياً لكردستان القاجارية، وهو اللقب الذي خوَّله أن يكون الشخصية الدينية السنية الأكثر علماً لتفسير قوانين الشريعة الإسلامية. واستناداً إلى «الأدلة القصصية»، فإن وزراء الشاه جهدوا للعثور على رجل دين سني متعلّم ليتشاور معه الشاه في مسألة دينية حساسة (ص 55). وجد رجاله في عبد الله ديشي، جد أحمد مفتي زاده، الشخص المناسب لهذه المهمّة.
بعد لقائه بالشاه وغيره من علماء الدين، كانت المعرفة الدينية الواسعة لديشي مثيرة للإعجاب، لدرجة أن «ناصر الدين شاه أطلق عليه لقب مفتي أهل السنة في إيران. ومنذ ذلك الحين (حوالي عام 1895)، أصبح عبد الله ديشي معروفاً باسم الملا عبد الله مفتي. وأصبح أول مفتي رسمي لأهل السنة في إيران» (ص 56).
أصبح المفتي في سنندج (سنه) موضع احترام الناس وتقديرهم. وترأس ابن الملا عبد الله، أي والد أحمد مفتي زاده، المؤسسة بعد والده. «لقد أصبح مولانا محمود [والد أحمد]، الذي أصبح المفتي الأطول خدمة في تاريخ الإسلام السُنّي في إيران وكردستان عموماً، قائداً لدار الإحسان [المسجد] خلال جهود التحديث الطموحة التي بذلتها سلالة بهلوي» (ص 59).
في هذا الكتاب الموزّع على ثلاثة أجزاء متميزة يظهر الترابط بين الأجزاء بوضوح:
السنة والشيعة والكرد: تاريخ موجز للإسلام السياسي في كردستان
يقدم الجزء الأول من هذا الكتاب السياق التاريخي الذي تتطور منه أحداث السيرة الذاتية. ومن خلال هذا المسح الموجز للشرق الأوسط في القرن العشرين، يُقترح إطار عمل لفهم ظهور الإسلام السياسي في كردستان في الماضي والحاضر واحتمالية ظهوره في المستقبل.
«إن الدور الذي لعبه الإسلام في الحركات السياسية الكردية تاريخياً متناقض، بل ومتناقض على نحو ظاهر. فهو يتحدد من خلال الافتقار النسبي إلى التدين (التقليدي) الأرثوذكسي بين السكان، ومن خلال الدور الأساسي للزعامة والرمزية الإسلامية الاسمية. وأشار أحد المعلقين إلى التيارات السياسية في كردستان خلال النصف الأول من القرن العشرين باعتبارها دينية علمانية ـ وهي طريقة غريبة، وإن كانت مناسبة، لوصف العلاقة بين هذه الحركات والإسلام» (ص11).
يحتوي القسم الأول مقدمة لنشأة القومية الكردية وعلاقتها بأشكال أخرى من القوميات والإسلامية، ويغطي عدداً من الحركات الكردية المهمة ويستخلص منها استنتاجات، ويؤدي إلى القسم الخاص بالسيرة الذاتية:
«لقد انتشرت التعبيرات العلنية عن القومية الكردية على نطاق واسع خلال عام 1945، وعلى خلفية شعور جديد بالهوية استحوذ على المنطقة، ألقى أحد الشخصيات البارزة من مدينة مهاباد خطاباً مؤثراً في نوفمبر من ذلك العام. وفي خطابه في المركز الثقافي بمهاباد، أعلن أن الحزب الديمقراطي الكردستاني حل محل (جمعية كومالاي جياناواي كردستان) حزب إحياء كردستان، وفي يناير من عام 1946، بعد طرد بقايا الجهاز البيروقراطي الحكومي المركزي من مهاباد، أعلن قاضي محمد تأسيس جمهورية مهاباد. لقد أسس محمد دولة قومية كردية مستقلة لأول مرة في التاريخ».
السجن في ظل النظام البهلويّ والفترة التي سبقت عام 1979
يقدّم الجزء الثاني، الذي يشكل الجزء الأكبر من الكتاب، صورة أوضح لسيرة مفتي زادة الذاتية، ذلك أنه بالإضافة إلى القيمة التاريخية التي يطرحها الكاتب، فإن السيرة الذاتية هي مثال لحركة إسلامية يمكن أن تكون غير عنيفة بشكل صريح وتقدمية للغاية في قيمها الاجتماعية، على الرغم من أنها كانت «أرثوذكسية» دينياً.
كان أحمد مفتي زاده مثالاً للشخصية الكردية الدينية التي استجابت في الوقت نفسه لفكرة التجانس الثقافي وتجانس الفكر الإسلامي في بقية إيران ولو بدرجة أقل، وكل ذلك في سبيل تغريب الثقافة. ويؤكد مفهوم الشخصية الكرديّة الدينية «الكردايتية الدينية» أن الدين كان جانباً تكوينياً في إلهام المساعي الفردية أو الحركات المنظمة من أجل تحصيل الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية للكرد؛ وهو ما يميزه عن الحركات أو الأحزاب السياسية الأخرى التي تُعرَّف أيديولوجياتها بمصطلحات غير دينية. ولذلك، ينبغي التركيز على بعض العواقب الثقافية لتحديث الشاه محمد رضا بهلوي الذي اشتد خلال الستينيات والسبعينيات، والتركيز تالياً على طبيعة ثورة 1979. لقد اختلفت المواقف السياسية لمولانا محمود عن المواقف السياسية التي تبناها ابنه أحمد من بعده بسبب سياقين تاريخيين مختلفين. فقد تزامنت فترة الأخير مع تحولات ثقافية وفكرية عميقة عصفت بإيران، فيما حاول الأول (مولانا محمود) إقامة علاقة محايدة وودية مع الحكومة المركزية فيما يتصل بالأمور الدينية، ولم يكن يرى نفسه مشاركاً نشطاً في الأمور السياسية. ولا توجد أمثلة بارزة من شأنها أن تثبت أنه كان عضواً مسيّساً في هيئة العلماء.
«[…] ولكن هناك عدداً من الأمثلة من حياته تثبت أنه كان يتمتع ببعض الفطنة السياسية والمشاعر القومية. وكان هذا نتيجة لوعيه الثقافي الكردي، ورأيه بأن سلطة المفتي دينية في المقام الأول وليست مستمدة بالكامل من الحاكم» (ص 59).
تعود الأنشطة السياسية لأحمد مفتي زاده إلى أوائل الستينيات على الأقل عندما احتُجز مع ناشطين كُرد آخرين لفترة. وفي هذه السنوات، نأى بنفسه عن مؤسسة الإفتاء لأنها كانت «تستمد شرعيتها من الشاه» (69). ومع ذلك، يبدو أن هناك أسباباً فكرية أيضاً، فقد انجذب إلى أفكار الإسلام السياسي لسيد قطب وجماعة الإخوان المسلمين، بينما دافع عن الجوانب «العلمية» للقرآن، كما دعم التفسير الوهابي للسنة. ولهذا السبب، «توقف عن كونه أحد الملالي، واستبدل لباسه الديني ببدلات غربيّة وانتهج حياةً بسيطة» (69). وفقاً للروايات الشفوية، حدثت قطيعة إيديولوجية وتنظيمية كبرى مع ناشطين آخرين من حركة الكردايتية (العلمانية) بحلول منتصف السبعينيات. بالتالي، نأى مفتي زاده بنفسه عن الناشطين الكرد الآخرين الذين مالوا صراحةً إلى اليسار، وأصبح أكثر صراحةً ضد النظام البهلوي. ويتجلى هذا في خطابه في جنازة الشاعرة سوار إلخاني زاده، القريبة من عائلة زوجة مفتي زاده (ص108). وفي الوقت نفسه، أظهر إسلاميته السياسية الناشئة في انتقاده لأتباع الديانة البهائية. في نظر أتباع المذاهب الأخرى في إيران، تلقى البهائيون تأييداً من النظام البهلوي على حساب الآخرين. علاوة على ذلك، أصبح أكثر انتقاداً لليسار والماركسية، ما أدى إلى إبعاده بشكل حاسم عن الناشطين الكرد الآخرين الذين شاركهم الأفكار والتنظيم في أوائل الستينيات، حيث كان حينها ومن دون أي شك، لأحمد مفتي زاده نشاط سياسي قومي.
وبحلول منتصف السبعينيات، فإن انتقاده للأفكار اليسارية «كانت يرقى إلى موقف عدائي». في الواقع، كان لفترة السجن في عام 1964 تأثيرها المباشر على شخصية مفتي زاده السياسية، في حين أن وفاة زوجته في عام 1971 غيرته روحياً، كما انعكس ذلك في أسلوب حياته المتواضع والمتدين.
وباعتباره مفكراً دينياً، كان موقعه الاجتماعي مهماً أيضاً من الناحية الفكرية والعملية. لقد تأثرت سنندج/سنه، المركز الإقليمي في كردستان، أكثر من أي مدينة كردية أخرى في إيران بالتغريب من خلال وسائل الاتصال الجديدة: التلفزيون والإذاعة، والتي أصبحت برامجها تدريجياً أكثر تغريباً. والواقع، أن التطور التكنولوجي الحاسم الذي جعل مفتي زاده اسماً معروفاً، على الأقل في سنندج، كانت القناة التلفزيونية الناطقة باللغة الكردية في شهر رمضان عام 1976 عندما تقرر بث برنامج حول المسائل الدينية في المساء طوال شهر رمضان تستضيف مفتي زاده، و«لم يكن هناك شك فيمن سيكون الشخص الأكثر ملاءمة لتقديم هذا البرنامج» (ص 107).
وفيما يتعلق بوجود حياة دينية نشطة في كردستان، إلى جوار المكونات الفكرية والسياسية المختلفة، من المهم أن نتذكر أن آية الله محمد مردوخ (1880-1975)، الشهير بتاريخه للكرد وكردستان، كان يمثّل سلطة دينية أخرى أكثر بروزاً حافظت على مكانة الدين في الحياة العامة بعدة طرق، بما في ذلك كتاباته الغزيرة. ومن سنندج أيضاً، ساهم في المناقشات الدينية من خلال الانخراط في جدال مع الفكر الديني الشيعي، فكتب كتيباً في أوائل الستينيات ادعى فيه بطلان مفهوم «السيّد الشيعي». وكان هناك آخرون، مثل الشيخ عز الدين الحسيني (1922- 2011)، إمام الجمعة في مهاباد في عام 1979 والمتحدث المستقبلي باسم بعثة التفاوض الكردية في عام 1979.
بدأت الأنشطة السياسية التي قام بها الشيخ عزالدين الحسيني مع تأسيس الجمهورية الكردية 1946، حيث أعطى الأولوية للقومية على الدين. وربما يكون حسيني، وليس مفتي زاده، هو الذي يدعم بشكل أفضل حجة آخر مفتي لكردستان حول النفور التاريخي المفترض للكرد من الإسلام السياسي أو التطرف الإسلامي. ورغم أن الإسلام السياسي الذي تبنّاه مفتي زاده لم يؤيّد صراحة التطرف أو العنف، فإن أسلمة سياساته لا يمكن الشك فيها. فضلاً عن ذلك، فإن تجنب العنف يُختبر بشكل أفضل في الممارسة العملية. لم تكن حركة أحمد مفتي زاده، وهي مدرسة القرآن (الكردية)، مؤسسة غير سياسية أو مسالمة للغاية. على سبيل المثال، ساهم التوتر بين مفتي زاده وصفدري، ممثل الخميني في كردستان، في ما يُعرف بحرب سنندج الدموية في مارس/آذار 1979 بعد أربعة أسابيع فقط من انتصار الثورة. وبعد بضعة أشهر، أدى التوتر المتزايد بين المكتب والقوى السياسية والاجتماعية الأخرى في مدينة مريوان إلى اشتباك دموي في 14 يوليو/تموز 1979. إن تجربة مفتي زاده ومردوخ وظهور مدرسة القرآن (مكتب قرآن) في عام 1979، تثبت أن نمو الحركات الدينية، وإن كان أقل بروزاً من الحركات الاجتماعية الأخرى، كان مرتبطاً بشكل وثيق بتحديث إيران. في الواقع، كانت فكرة مدرسة القرآن نتيجة لفكر مفتي زاده الديني الذي وضع الكتاب المقدس في مركز الحياة الاجتماعية. وبحلول منتصف السبعينيات، أصبح ناقداً لرجال الدين والطرق السطحية لتفسير القرآن وأقوال النبي والدين الذي أصبح، في نظره، «فارغاً» في نظر الناس (ص 101). وبالتالي، فمن الصحيح القول إن «الإسلامية الشعبوية التي تبناها علي شريعتي [أحد المنظرين المؤثرين للثورة الإسلامية والذي توفي عام 1977] أثرت على طريقة تفكير مفتي زاده، وكذلك شخصية وأفكار مهدي بازركان أثرت أيضاً بمفتي زاده» (ص 101). ومن المهم ملاحظة أن الممارسات الدينية تراجعت مع تزايد تبلور آراء الجيل الحضري الجديد المتعلم في المجتمع الكردي. غير أن علمانية البهلوية لم ترضِ الجميع، خاصة الجيل الأكبر سناً الذي استمر في تبنّي الممارسات الدينية بنشاط أكبر نحو نهاية السبعينيات. ففي المراكز الحضرية، حيث أظهرت المعتقدات الدينية علامات تراجع، تجسّدت في تبني عادات وأساليب حياة جديدة، فيما أصبح السكان منجذبين تدريجياً مرة أخرى إلى الممارسات الدينية التي شملت الحج والاحتفالات الأخرى.
إن الأفكار الدينية والسياسية التي تبناها مفتي زاده في سبعينيات القرن العشرين كانت تشبه إلى حد ما أفكار جماعة الإخوان المسلمين، على سبيل المثال، في التأكيد على الشورى باعتبارها الشكل الإسلامي للديمقراطية. ولكن أفكاره خضعت لتغييرات كبيرة استجابة للوضع السياسي. ويبدو أن فكره الديني بلغ أوج تطوره في سنوات السجن في ظل الجمهورية الإسلامية، مستلهماً من تجربة الثورة الإسلامية وعدم الرضا عن مسارها. والفصل الذي يتناول رسائل مفتي زاده في السجن إلى الأقارب والأتباع هو الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في هذا الكتاب. وتشمل الموضوعات الرئيسية في هذه الرسائل وجهة نظره في القرآن باعتباره نصاً حياً، وأن ليس له معنى ثابتاً واحداً في كل العصور، ولكنه يحتاج إلى تفسير وفقاً للظروف المتغيرة؛ ونظام الشورى للحكم؛ والحاجة إلى فصل الدين عن السياسة؛ واللاعنف في الإسلام؛ وسواها من مسائل جدليّة كالرسائل التي كتبها مفتي زاده في السجن التي تؤكد على ضرورة تمكين المرأة والتسامح مع الآراء المتباينة. كما تضع الرسائل الروحانية الإسلامية فوق الدراسة التفصيلية للفرائض الدينية (الفقه) وتحضّ على احترام الديانات الأخرى وترفض كل أشكال الإكراه في الدين. كما يشير إلى أنه ينبغي للمرأة أن تشارك على قدم المساواة في صنع القرار السياسي وأن تتمتع بنفس الحق في الطلاق الذي يتمتع به الرجل. وفي الرقصات التقليدية الكردية، يمكن للمرأة أن ترقص مع الرجل. وفي حين بدا مفتي زاده في لقائه مع يوسف ندا عام 1980، المفوض السابق للعلاقات الدولية في جماعة الإخوان المسلمين، وكأنه مليء بالحقد تجاه منافسيه اليساريين، فإن رسائل السجن تظهره رجلاً يرفض الحكم على الآخرين ولا يوجه حتى كلمة قاسية إلى جلاديه.
لقد نجحت حركة مدرسة القرآن، على الرغم من عدة موجات من الاعتقالات الجماعية التي طالت أعضائها، في البقاء كجماعة إسلامية كردية متميزة يجمعها التبجيل والاحترام لمفتي زاده، فضلاً عن الرؤية الهادئة للروحانية الإسلامية. ولكن بعض أقرب رفاقه السابقين نأوا بأنفسهم عن الجماعة:
«كان أكبر عيب في مفتي زاده هو رغبته العميقة في أن يكون الإسلام ليبرالياً وديمقراطياً وموحداً (…) كان يحاول تحريف العقيدة الإسلامية لجعلها على هذا النحو، ولكن (…) لم يكن هذان المثلان متوافقين بالطريقة التي أرادها لها … كان يحاول بكل ما في وسعه أن يجادل في الأجزاء المريرة من القرآن [مثل بتر الأطراف كعقاب للسرقة]. كانت أركان الإسلام الأربعة اليوم مقيدة للغاية بالنسبة لمفتي زاده (…) كان أكبر من أن يوضع في إطار الإسلام. لكنه كان يحاول أن يضع نفسه في هذا الإطار، ويحاول تمديد الإطار، ولكن في النهاية كان جامداً للغاية» (ص 187-188).
التداعيات العرقية والدينية في منطقة الشرق الأوسط الكبير
وأخيراً، فإن الجزء الثالث من الكتاب يتطلع إلى المستقبل من خلال تطبيق الاستنتاجات المستخلصة في الجزأين الأولين من الكتاب، ويشرح كيف أن التطور السياسي لكردستان يؤثر على التيارات السياسية التي تهيمن على مجتمع الشرق الأوسط اليوم.
يقدّم عزتيار حجة سياسية مطوّلة لإقناع صناع القرار في الغرب، خاصة الولايات المتحدة، بقبول فكرة أن الكرد هم «حلفاء الغرب الطبيعيون» في الدور الذي سيلعبونه في المنطقة مستقبلاً. وفي هذا الفصل، ندرس لماذا تُشكل كردستان أهمية أساسية لمعالجة طائفة من الأسئلة، مثل: من هم الحلفاء الذين ستتخذهم هذه الدول؟ هل العداء لأميركا في هذه الأماكن لا رجعة فيه؟ ماذا يعني وجود دولة إسلامية دائمة بالنسبة للمنطقة الأوسع نطاقاً والجهات الفاعلة فيها، والتي تمتد إلى الصين؟ ما هو إرث الدولة الإسلامية في أذهان المسلمين المهمّشين على مدى مئة عام القادمة في أماكن مثل باكستان وماليزيا، حتى لو تم تدمير الدولة الإسلامية؟ أين يمكن لأميركا أن تنقذ بعضاً من نفوذها، وعلى الأقل، تضمن سلامة مواطنيها؟ ستكون هذه هي الأسئلة التي ستحدد السياسة الخارجية في العقود القادمة. في هذا النص، نلحظ أيضاً لماذا تعدّ كردستان ضرورية لمعالجة كل هذه الأسئلة. (ص 6).
يجيب الكتاب على هذه الأسئلة من خلال سرد تاريخي لنفور الكرد المفترض من التطرف الإسلامي. وهو، أي التطرّف، يمثل الآخر الذي يقلق الغرب. وفي الوقت نفسه، فإن ترشيح الكرد كحلفاء طبيعيين للغرب ينبع من أطروحات الكتاب حول «القيم الاجتماعية المشتركة والعلاقات المشتركة» في فضاء العلاقات الدولية.
إن «القيم الاجتماعية المشتركة بين الكرد والغرب» تعني أن الكرد «يظلون شريكاً ثابتاً على المدى الطويل [للغرب] في الشرق الأوسط»، في حين أن العلاقات المشتركة، استناداً إلى الأدلة التاريخية، «تميل إلى تكوين حلفاء ثابتين»، على سبيل المثال بنفس الطريقة التي تشكل بها «تحالف سوريا مع إيران أثناء الحرب الإيرانية العراقية» (ص 211).
ومن جانب آخر، فإن المفهوم التاريخي للإسلام السياسي في الكتاب يقوم على فرضية تدهور العلاقة بين الإسلام السياسي والهوية الكردية، كما تم شرحه أعلاه. لذلك، فإن «عدم رغبة كردستان في الإسلام السياسي أمر ذو قيمة خاصة في هذا العصر حيث تُعَد الأيديولوجية الدينية المتطرفة سبباً رئيسياً لعدم الاستقرار في المنطقة، وربما في العالم» (ص 212). وبالتالي، فإنه «من غير المرجح أن تتطور لحظات سياسية مهمة قائمة على الإسلام في كردستان اليوم أو في وقت قريب. وتشكل قصة أحمد مفتي زاده جزءاً من التطور الأيديولوجي في كردستان الذي يؤسس لحدود الإسلام السياسي في المجتمع الكردي» (ص 212).
تسعى هذه الدراسة إلى إثبات كيف أن عدم رغبة الكرد المفترضة في التأسلم السياسي تؤهلهم ليكونوا حلفاء طبيعيين للغرب والقوى الغربية. وبتركيزه على شخصية أحمد مفتي زاده، يستند الكتاب إلى فرضيتين: العلاقة المتدهورة طوال القرن العشرين بين الهوية الكردية والإسلام السياسي، والطبيعة ضعيفة الأثر للعلاقة بين الإسلامية الإيرانية والإسلامية الكردية.
لا يزال مفتي زاده حتى يومنا هذا شخصية مثيرة للجدال في كردستان، حيث يعتبره البعض خائناً لتأييده الأولي للجمهورية الإسلامية، ويعتبره آخرون سياسياً هاوياً ساذجاً ولكن حسن النية. ويشير عزتيار إلى أن فشل مفتي زاده يعني هزيمة الإسلام السياسي كبديل موثوق به في كردستان الإيرانية. ولكنه يلاحظ أيضاً أن مفتي زاده لا يزال رمزاً ليس فقط لمدرسة القرآن غير السياسية، بل وأيضاً للإسلاميين السياسيين الأكثر تصريحاً بميولهم الإسلامية في إيران والعراق. وإلى هذه الملاحظات، يمكننا أن نضيف أن مفتي زاده اكتسب بعد وفاته سمعة معينة بين الناشطين المسلمين في كردستان تركيا أيضاً بسبب مذكرات يعقوب أصلان (2014)، وهو ناشط إسلامي فرّ من تركيا بعد انقلاب عام 1980، حيث أمضى أصلان بعض الوقت مع الجماعات الثورية الإيرانية والمجاهدين الأفغان، لكنه سرعان ما خاب أمله في كليهما ووجد أخيراً بيئة أكثر ملاءمة مع مجموعة مدرسة القرآن.
إن كتاب عزتيار يشكّل مساهمة مفيدة في الأدبيات التي تناولت مكانة الدين في المجتمع الكردي والتطورات في كردستان الإيرانية في ظل حكم رضا بهلوي ونجله محمد، وكذلك الجمهورية الإسلامية. وهو يثبت بشكل مقنع أن أحمد مفتي زاده يستحق أن نتذكره باعتباره أحد أهم المفكرين الكرد المسلمين وأكثرهم أصالة في القرن الماضي.
*محمد شمدين: باحث ومترجم وحاصل على ماجستير في العلاقات الدولية