هل تبالغ أنقرة في توقعاتها بوصول ترامب للحكم؟

المركز الكردي للدراسات
جمعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره الأميركي المنتخب دونالد ترامب، علاقة شخصية قوية في الماضي. وأعطى ترامب رقمه الخاص لأردوغان للتواصل المباشر معه دون الحاجة إلى المرور ببيروقراطية البيت الأبيض، في خطوة أقلقت مستشاريه حينها، خاصة أن الرئيس التركي لا يجيد التحدّث بالإنكليزية، والمكالمة المباشرة ستحول دون تدوين المحاضر والملاحظات.
لكن رغم ذلك، شهدت تركيا تدهوراً في علاقتها مع الولايات المتحدة في فترة ترامب الأولى التي تم خلالها فرض عقوبات أميركية على أنقرة على خلفية شراء الأخيرة لأنظمة صواريخ «إس-400» من روسيا، وصولاً إلى الرسالة الشهيرة التي أرسلها ترامب إلى نظيره التركي ناصحاً إياه بعدم التشدد في مواقفه تجاه الكرد في شمال وشرق سوريا.
تقصّد ترامب إهانة أردوغان مرتين على العلن، الأولى حينما هدده بتدمير اقتصاد بلاده في حال تعنّته في موقفه بشأن احتجاز الراهب الأميركي برونسون، وهو ما أجبر أنقرة على إطلاق سراحه بشكل فوري، والثانية حينما نصحه «بألّا يكون أحمقاً»، ما دفع أردوغان للاكتفاء بما احتله من مناطق إثر عمليته العسكرية عام 2019 برأس العين /سري كانيه وتل أبيض.
شهد عهد بايدن بين عامي 2020-2024 توتراً ملحوظاً في العلاقات التركية-الأميركية من جهة، وتوتراً شخصياً بين الرئيسين من جهة أخرى، إذ تجنّب الرئيس الأميركي الظهور مع أردوغان في صورة واحدة، ولم يدعه لزيارة البيت الأبيض للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين أنقرة وواشنطن. كما أن أول اتصال بين الرئيسين جرى بعد أربعة أشهر من وصول بايدن إلى السلطة، فقط ليخبر الرئيس التركي نيّته الاعتراف بالإبادة الجماعية الأرمنية.
بالنسبة لأردوغان، تبدو العلاقة الشخصية مع ترامب أكثر أهمية من المصالح الاستراتيجية لبلاده، وسط العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت تركيا ستستفيد من انتخاب ترامب على المدى الطويل. يُتوقع أن تكون العلاقات بين ترامب وأردوغان أكثر دفئاً مقارنة مع بايدن، غير أن هذا لا يعني بالضرورة أن تستفيد تركيا من هذه العلاقة في قضايا أساسية مثل الاقتصاد أو السياسة الإقليمية.
وبالمثل، يعوّل أردوغان خلال الفترة القادمة على العلاقة التجارية الجيدة التي تجمع صهره بيرات آلبيراك بصهر ترامب جاريد كوشنير، وهو ما يفسّر التسريبات التي ظهرت في عدد من وسائل الإعلام التركية حول إمكانية عودة آلبيراك، الذي استقال بشكل مفاجئ من وزارة الخزانة والمالية التركي، إلى العمل السياسي النشط، لكن كمستشار لأردوغان هذه المرة.
حماس على خط العلاقة التركية- الأميركية

قد يكون الموقف تجاه إسرائيل أحد أبرز نقاط التوتر المحتملة بين ترامب وأردوغان، فالأخير الذي يحاول لعب دور رئيسي منذ أزمة غزة، دون جدوى حتى الآن من خلال الدفاع عن حركة حماس، قد يصطدم بموقف ترامب المتشدد في الدعم لإسرائيل والمتشدد ضد حركة حماس وغيرها من الحركات الإسلامية المدعومة من قبل كل من تركيا وإيران، والتي يعتبرها، كما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، منظمات إرهابية.
ورغم العلاقة القوية بين أردوغان وترامب، إلا أنها لا ترتقي إلى مستوى العلاقة الوثيقة التي تجمع الرئيس الأميركي برئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يبدو غير واثق من إمكانية الاعتماد على أنقرة في تشكيل العلاقة مع العالم الإسلامي، ما يعزز من رغبته الشديدة في تطبيع العلاقات مع الرياض.
سيصعّد ذلك حملات أردوغان الكلامية ضد نتانياهو والموجّهة إلى حد كبير للداخل التركي والمرتبطة بحسابات الربح والخسارة الانتخابية. وصحيح أن ترامب شخصية استثنائية غير مؤسساتية من ناحية الإدارة، إلا أن الديناميكيات السياسية داخل الكونغرس تبدو كافية لتوجيه السياسة الأميركية ضد تركيا في حال استمرار أنقرة نهجها الاستعراضي ضد إسرائيل، خاصة أن مجلسي النواب والشيوخ يتكونان غالباً من أعضاء غير ودودين لأنقرة مقابل التصاقهم بإسرائيل وشخصياتها اليمينية.
تشير التقارير التي تتحدث عن ضغوط أميركية على الدوحة من أجل إبعاد قادة «حماس» عن أراضيها، إلى سياسات أميركية أكثر تشدداً حيال «حماس» والتنظيمات الشبيهة بها على خلفية المشروع السياسي الذي يعدّ في المنطقة واقتناع نتانياهو بعدم جدوى سياسات الاحتواء السابقة التي قامت على أرضية الحاجة إلى «حماس» كوسيلة فاعلة لشق الصف الفلسطيني ووأد مشروع إقامة الدولة الفلسطينية.
يؤثر هذا التغير في الأهداف التركية الرامية إلى لعب أدوار إقليمية عبر «حماس»، كما يدفن تطلعات أردوغان إلى تقديم نفسه كبديل محتمل للدوحة، التي أعلنت نيّتها الانسحاب من جهود الوساطة بين الحركة وإسرائيل.
خفض التوتر مع روسيا

يواجه حلف الناتو هو الآخر تهديدات جديدة، في ظل التوقعات بتراجع دوره وتعرضه إلى انقسامات، خاصة بشأن ملف دعم أوكرانيا، ما سيؤدي إلى حدوث تصدّعات داخل الحلف.
كان الحلف البوابة الأبرز للتحسن المحدود للعلاقات التركية- الأميركية في عهد بايدن من خلال سماح أنقرة لكل من فنلندا والسويد بعضويته مقابل رفع الكونغرس الأميركي حظر بيع مقاتلات «إف-16» وقطع الغيار الخاصة بها لتركيا حتى تتمكن الأخيرة من تطوير وترميم أسطولها الجوي، خاصةً بعد انكسار معادلة التوازن مع اليونان التي نجحت في الحصول على «إف-35».
بالمقابل، فإن سياسات ترامب القائمة على تفضيل التنسيق العسكري من خلال العلاقات الثنائية، شخصية كانت أم على مستوى الدول بعيداً عن الأحلاف العسكرية الجماعية، ستحرم أنقرة من إمكانية المناورة في علاقاتها مع واشنطن عبر البوابة الأطلسية، على عكس علاقاتها مع الإتحاد الأوربي، الذي سيجد نفسه أكثر حاجة للدور العسكري التركي داخل الحلف وخارجه نتيجة سياسات ترامب الأطلسية المتوقعة.
أما العلاقة المستقرة، أو تراجع حدة التوتر بين واشنطن وموسكو، فسيحرم أنقرة من موقعها الوسيط بين القوّتين العالميتين، وهي التي لعبت أدواراً استراتيجية في العديد من الملفات المتعلّقة بشكل مباشر بالحرب الروسية- الأوكرانية نتيجة لانسداد القنوات الدبلوماسية بين موسكو والعواصم الغربية، وعلى رأسها واشنطن، كما الحال بالنسبة لصفقات تبادل الأسرى وممر الحبوب في البحر الأسود واتفاقيات نقل وتوزيع الغاز الروسي وغيرها. ستؤدي إمكانية التواصل المباشر بين ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين إلى تراجع مكانة أردوغان كجسر للعبور بين الشرق والغرب، وستقوي الرئيس الروسي وأوراقه في التفاوض في الملفات الدولية مع نظيره الأميركي بشكل مباشر.
التركيز على مواجهة الصين

تبدو الصين من أكبر الخاسرين بفوز ترامب، الذي يبدي مواقف أكثر تشدداً تجاه بكين مقارنة مع الديمقراطيين. وتلعب خلفيّته الاقتصادية كرجل أعمال أميركي دوراً كبيراً في تقييمه للخطر الصيني المفترض، كونه الأكثر إدراكاً دون باقي السياسيين بمخاطر التمدد التجاري الصيني وتأثيره على اقتصاد بلاده.
من المتوقع زيادة الإنفاق العسكري الأميركي، مع تركيز خاص على تعزيز الأسطول البحري الأميركي لمواجهة التحديات الصينية، لا سيما في تايوان، وهو ما يبدد فرضيات القطيعة بين ترامب وحلف الناتو ويزيد من احتمالات التضييق على الدول التي تتعامل مع بكين والمنظمات والمشاريع التجارية التي تنضوي الصين فيها مثل «بريكس» و«الحزام والطريق».
الوجود الأميركي من سوريا

مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يتزايد الحديث عن انسحاب القوات الأميركية من سوريا. وفي حين استندت وسائل الإعلام العربية والتركية المقرّبة من أردوغان على موقف ترامب السابق من وجود القوات الأميركية في سوريا، والذي تراجع عنه لاحقاً، وحديث لكينيدي جونيور عن نية ترامب بالخروج من سوريا في تلك الفترة، ذهبت وسائل إعلام أجنبية إلى تأكيد هذا الاحتمال على قاعدة نية الرئيس الأميركي الجديد مواجهة الصين وتركيز كل قواه على هذه الحرب.
لكن أغفلت معظم هذه التحليلات التغيّرات الجيوسياسية التي طرأت على المنطقة والنظرة الأميركية لها بعد هجوم حركة حماس على إسرائيل والحرب الإسرائيلية على غزة وجنوب لبنان والضربات المتلاحقة في سوريا والرد، والرد على الرد، بين تل أبيب وطهران.
يتوقع أردوغان أن يناقش مع ترامب انسحاب القوات الأمريكية من سوريا. وهو يفتخر بأن ترامب لا يتهرب من الحديث معه كما فعل بايدن، بل يستجيب لاتصالاته على الفور. يأمل أردوغان تكرار التعامل مع نسخة ترامب الأولى للسماح لأنقرة بالسيطرة على شمال سوريا.
من ناحية أخرى، قد تكون الولايات المتحدة، في ظل إدارة ترامب، أكثر استعداداً لمهاجمة إيران في حال استمرت في برنامجها النووي، وهو ما عبّر عنه بصراحة حينما أكد على رغبته في رؤية إيران أكثر تطوراً لكن من دون السلاح النووي.
وبينما تبدو إسرائيل، ومن خلفها إدارة ترامب، أكثر حرصاً من أي وقت مضى على إنهاء الخطر الإيراني المفترض وألا يتكرر سيناريو تهديد 7 أكتوبر/تشرين الأول الوجودي كما يسمّيه نتانياهو، فإن هذه المواجهة الصعبة تفترض بالدرجة الأولى حفاظ الولايات المتّحدة على قواعدها العسكرية المنتشرة في سوريا على الخط الواصل بين طهران وجنوب لبنان والمواجهة للميليشات في كل من العراق والبادية السورية، ما يتناقض إلى حد كبير مع مقولات الانسحاب من الساحة السورية.
بالنظر إلى القاعدة العامة التي تفترض على أي دولة، حين إقدامها على شن حرب واسعة، أن تقوم بزيادة عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم، فإن ترامب قد يسعى في هذه الحالة إلى تقوية علاقات بلاده بموسكو التي لا تنظر بعين الارتياح إلى النفوذ الإيراني في سوريا، من جهة، وتبدو الأقدر على ملئ أي فراغ ناتج عن انكفاء إيراني أو انسحاب أميركي من سوريا نظراً لعلاقتها القوية مع دمشق والمقبولة مع الإدارة الذاتية و«قسد»، من جهة أخرى. ويتفوق هذا الخيار على الآخر التركي، الذي يعد عدواً مشتركاً لكل من دمشق والإدارة الذاتية.
وتزيد العلاقة الجيدة بين ترامب وبوتين احتمال أن تتوصل واشنطن وموسكو لصيغة مشابهة لاتفاق 2017، الذي تضمن إبعاد حزب الله والقوات الموالية لإيران عن حدود الجولان، خاصة أن تسوية الصراع الأوكراني قد تمهّد لتسوية وحلول مشتركة في سوريا أيضاً.
يتعارض استمرار الوضع بالغ الحساسية في الملف الإيراني وارتفاع منسوب احتمالات التصعيد العسكري الأميركي والإسرائيلي ضد المنشآت النووية الإيرانية، مع فكرة الانسحاب الأميركي، من جهة، وتسليم المنطقة إلى تركيا غير الموثوقة إسرائيلياً، من جهة أخرى.
إضافة إلى كل ما سبق، فإن أي خطوة تجاه سحب الدعم الأميركي في سوريا سيصطدم بمقاومة من «القيادة المركزية الأميركية» ((CENTCOM المقتنعة بضرورة الاحتفاظ بقوات، ولو محدودة، لمواجهة تهديدات تنظيم داعش والميليشيات الإيرانية.
وكما الحال في ولايته الأولى، فإن ترامب قد يجد صعوبة في اتخاذ قرارات سريعة بشأن سحب القوات بسبب البيروقراطية الأميركية، وخاصة من وزارة الدفاع التي عادةً ما تبطئ مثل هذه القرارات. ورغم حب ترامب القفز فوق المؤسسات وامتلاكه صلاحيات قوية، إلا أن هذه الصلاحيات تعتمد أيضاً على آليات موازنة القوة والفصل بين السلطات، ما يجعل من الصعب على الرئيس الأميركي تحقيق سيطرة مطلقة على البيروقراطية الأميركية المتجذرة.
قد تؤدي فترة حكم ترامب إلى ازدياد التوترات العالمية، خاصة في الشرق الأوسط وآسيا. في الوقت نفسه، قد يشهد العالم زيادة في السياسات الحمائية والتجارية التي قد تؤدي إلى تغييرات جذرية في شكل العلاقات الدولية. لكن الأهم، أن طبيعة العلاقة الشخصية مع أردوغان لا تعني بالضرورة أن تصب الأمور لصالح أنقرة كما يتم تسويقها تركياً. كما أن ديناميكيات المنطقة تدفع باتجاه الإبقاء على القوات الأميركية لفترة أطول.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد