حاييم وايزمان يكتب عام 1942: لماذا فشل الاستيطان اليهودي في الأرجنتين.. وألاسكا؟!
الحركة الصهيونية: بريطانيا شريكة هتلر في الإبادة
تعليق- حسين جمو
ألقى الأكاديمي والمسؤول الصهيوني حاييم وايزمان (27 نوفمبر/تشرين الثاني 1874 – 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1952) خطاباً في رابطة ما وراء البحار بالعاصمة البريطانية لندن في 8 أبريل/نيسان 1941. ونشرت مجلة «فورين أفيرز» خطابه في عدد يناير/كانون الثاني 1942.
بعد سنوات قليلة من نشر هذا المقال، سيصبح وايزمان أول رئيس لدولة إسرائيل عام 1949. وهذا يضفي أهمية إلى رؤية هذا السياسي اليهودي المعتدل في هذه المقالة حين كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها والكفة كانت تميل إلى دول المحور والنازية، ومقارنة مع الأحداث التي تشهدها فلسطين وإسرائيل اليوم. لم تكن الحركة الصهيوينة ربيبة الانتداب البريطاني المدللة، بل لدى هذه الحركة سرديتها ووقائعها التي تتحدث فيها عن مقاومة الخطط البريطانية التي تخلت عن وعد بلفور نهائياً عام 1939 على حد تعبير بنيامين نتنياهو، الذي يعتبر أن بريطانيا لم تكتف بذلك، فهي شريكة هتلر في إبادة اليهود في أوروبا عبر رضوخها لأعداء اليهود وتنصلها من التزاماتها. ويعتقد نتنياهو أن قرار تقسيم فلسطين (يسميها أرض إسرائيل) أساساً كان نفضاً لليد الدولية من قضية الوطن القومي لليهود، وذلك بتركها فريسة للجيوش العربية التي بالفعل سرعان ما تجمعت وهاجمت القوات اليهودية عقب قرار التقسيم. يعتقد القادة الصهاينة أن بريطانيا تركت اليهود للإبادة على أيدي العرب، لكن القوات اليهودية تمكنت من الصمود في “حرب الاستقلال”، أي النكبة الفلسطينية، وكانت على وشك أن تنتهي القضية اليهودية في فلسطين بترحيل جماعي لولا سوء تقدير عسكري من جانب العرب حيث اعتقد قادة القوات العربية أن المسلحين اليهود ما زالوا أقوياء، وهم كانوا في الحقيقية – حسب تقديرات نتنياهو – على وشك الاستسلام.
لقد أصبحت فلسطين بالفعل دولة واحدة تحت السيادة الإسرائيلية بشكل فعلي. كان وايزمان يميل في ذلك الحين إلى الحل الذي طرحته «لجنة بيل»، أي حل الدولتين. لكن خيارات العرب في فلسطين طمحت إلى دولة واحدة تحت السيادة العربية. وكان ذلك على وشك التحقق لولا عوامل رجحت كفة اليهود، من ضمنها خيارات العرب الموالية للنازيين – وفق تعبير وايزمان – خلال الحرب.
كان وايزمان يصنف في الحركة الصهيونية من التيار المؤيد لبريطانيا. ولذلك اضطر إلى الاستقالة من رئاسة لجنة الهجرة اليهودية عام 1945 بسبب إبقاء بريطانيا سياسة إغلاق باب الهجرة إلى فلسطين. واللافت أن وايزمان لا يجد حرجاً في استخدام كلمة فلسطين كأرض يسكنها اليهود ويعتبرونها وطنهم التاريخي، بينما أدبيات الحركة الصهيونية من تيار جابوتنسكي لا تستخدم سوى أرض إسرائيل.
انضم وايزمان إلى الحركة الصهيونية مبكراً وعمل على تعزيز العلاقات مع القوى الغربية لدعم فكرة تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. برزت قدراته الدبلوماسية خلال الحرب العالمية الأولى، حيث أسهم في تطوير مواد كيميائية أساسية للقوات البريطانية، ما أكسبه نفوذاً وعلاقات قوية في الحكومة البريطانية. ولعب دوراً رئيسياً في إصدار وعد بلفور عام 1917 الذي التزمت فيه بريطانيا بدعم إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
أصبح وايزمان زعيماً صهيونياً بارزاً وتولى رئاسة الوكالة اليهودية، وهي المنظمة التي مثلت المجتمع اليهودي عالمياً وساهمت في تنظيم الهجرة اليهودية إلى فلسطين. رغم ذلك، كانت سياسته التي تميل للتفاوض مع البريطانيين والأطراف الأخرى موضع انتقاد من بعض القادة الصهاينة الأكثر تشدداً، مثل ديفيد بن غوريون.
في مقاله، يناقش وايزمان دور فلسطين كحل للمشكلة اليهودية في ظل المحن التي يعانيها اليهود في أوروبا. ويبدأ بتصوير المأساة التي يعيشها اليهود في ظل الاضطهاد النازي، ثم يتطرق إلى أهمية إيجاد ملاذ آمن لهم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث يرى أن فلسطين توفر الأمل الوحيد لمستقبلهم.
ينتقد وايزمان محاولات سابقة لاختيار مناطق أخرى كأوطان بديلة مثل ألاسكا ومدغشقر، موضحاً أن فلسطين، رغم صغرها، قدمت مساهمات كبيرة للاجئين اليهود من خلال الاستيطان وتطوير الصناعات المحلية. يتطرق إلى إسهامات اليهود في بناء اقتصاد فلسطين، ويؤكد على نجاح المستوطنات اليهودية هناك، مقارناً مع فشل استيطان اليهود في الأرجنتين رغم توفر الموارد والدعم المالي في الأخيرة.
يجري وايزمان مقارنة بين سويسرا وفلسطين. فالبلد الأوروبي نجح في ترسيخ نفسه في خريطة الصناعة والزراعة بفضل كفاح شعبه وموقعه الجغرافي. ويرى وايزمان أن مزايا اليهود وموقع فلسطين أفضل من سويسرا، وأن آفاق تحول فلسطين اليهودية إلى مركز صناعي عالمي فرصة سانحة. ومن خلال بعض ما يرويه، يمكن التعرف على مميزات الزراعة اليهودية مقارنة مع الزراعة التقليدية غير المثمرة للفلاحين المحليين.
يتحدث وايزمان عن تكاليف استقدام اليهود من أوروبا للاستيطان في فلسطين. فوسطياً، تصل التكلفة إلى ألف دولار لكل شخص. وبالتالي، فإن هجرة واستيطان كل مئة ألف شخص سوف يتطلب مئة مليون دولار. ولم تكن الوكالة اليهودية للهجرة، التي كانت تنظم عملية الاستيطان في ذلك الحين، تملك هذا المبلغ لتنفيذ هذه الهجرة سريعاً. يضاف إلى ذلك، أن يهود أوروبا بعد حملة الاضطهاد النازية باتوا «صفراً مالياً» ولا يملكون أي شيء. ويمكن من هذه الملاحظة التي يذكرها وايزمان إحداث رابط بين الفقر الشامل ليهود أوروبا جراء الحرب العالمية الثانية وبين صعود تأثير يهود الولايات المتحدة الذين ازدادوا ثراء من الحرب العالمية الثانية.
يصف وايزمان الخطوة البريطانية في إصدار «الكتاب الأبيض» عام 1939 والقاضي بتقييد الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتأسيس دولة عربية في فلسطين بأنها مقدمة لتراجع بريطانيا عن وعد بلفور. ويتهم الإدارة البريطانية بالتقصير لأن «البريطانيين في فلسطين لم يشرحوا للسكان العرب المعنى الحقيقي لوعد بلفور». ويلفت إلى ناحية لم تأخذ حظها في البحث والتنقيب في الدراسات العربية وهو الميل المعادي للسامية بين تيار من الموظفين والضباط البريطانيين في الشرق الأوسط وتأثير إدارة الهند البريطانية المحابية للمسلمين بشدة خارج الهند.
يصف وايزمان بكلمات نابية الحركة القومية العربية. فهو يستغرب مثلاً كيف أن الأفكار القومية العربية المسالمة تتعايش ولا تتعارض مع الشوفينية المحلية المعادية لليهود. رغم ذلك، يقترح في النهاية ضم الدولة اليهودية المفترضة إلى الكومنولث البريطاني. كان هذا – كما ذكرنا – في العام 1942.
يشير وايزمان أيضاً إلى ظاهرة تزايد السكان العرب في فلسطين بشكل أسرع مقارنة مع الأردن وحتى مصر وذلك بفضل اليهود. فكانت الزيادة أكبر ما تكون في تلك الأجزاء من فلسطين حيث كان النشاط اليهودي أكثر كثافة. والأجور العربية في فلسطين أعلى منها في أي بلد عربي آخر، وهذا يفسر تدفقاً عربياً كبيراً للغاية. وعرض وايزيمان في ثنايا مقالته معادلة مقايضة بحيث يساهم اليهود في ازدهار البلاد ما بين النيل والفرات مقابل اعتراف بحق اليهود في فلسطين.
حين قررت بريطانيا التخلي عن وعد بلفور
بقلم: حاييم وايزمان
يناير 1942 – فورين أفيرز – العنوان الأصلي: دور فلسطين في حل المشكلة اليهودية
إن ما يقرب من نصف اليهود في العالم يجدون أنفسهم اليوم تحت نير النازية. ومن المستحيل إدراك وحشية سرعة إبادتهم هناك. كما أنه من غير الممكن أن نتصور الحالة التي ستكون عليها الجاليات اليهودية في بولندا ورومانيا وروسيا المحتلة، وحتى المجر، عندما ينكشف الستار عن أوروبا المحتلة من قِبَل النازيين.
ورغم مأساوية موقف الفلاح البولندي، فإنه متجذر في أرضه الأصلية ـ على الأقل حيث لم يتم اقتياده بعيداً عنها ويُستعبد في مصنع للأسلحة. أما اليهودي في «الغيتو» الذي يعيش فيه، فيجد نفسه محروماً من كل شيء. فبعد حرمانه من ممتلكاته الضئيلة، طُرِد من منزله وانتُزِع عن أسرته وأصبح أكثر ضحايا الإرهاب ذلاً. وفي عملية إعادة بناء عالم جديد، ونأمل أن يكون أفضل، فإن إعادة دمج اليهود في المجتمع سوف يطرح مشكلة صعبة إلى حد غريب، وهي المشكلة التي من المرجح أن تفرض ضغوطاً هائلة على طاقات وحسن نوايا بلدان أوروبا الشرقية والوسطى.
إن تجربة الأعوام العشرين الماضية والمشكلة المزعجة التي تمثلها الأقليات والتي سببت الكثير من المتاعب في أوروبا، لا تبعث على الأمل في التوصل إلى حل مرضِ على الفور. ولا شك أن العديد من اليهود سوف يعودون ويتكيفون من جديد مع الظروف الجديدة؛ ولكن هناك أعداداً هائلة من اليهود سوف تضطر إلى الهجرة. ولعل من قبيل التفاؤل المفرط أن نفترض أن بلداناً مثل الولايات المتحدة وكندا وبعض جمهوريات أميركا الجنوبية سوف تغيّر سياساتها المتعلقة بالهجرة جذرياً بعد هذه الحرب، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية المتوترة التي كان من المتوقع أن تسود آنذاك. وسوف يواجه الملاحقون والمحرومون من الميراث مرة أخرى السؤال الأبدي: «إلى أين؟». ولن يكون بوسعنا أن نعدهم بأي أمل ما لم نتخذ خطوات حاسمة نحو حل جذري لمشكلتهم.
الشجاعة والخيال والإنسانية
إن هذه المشكلة معقدة. وهذا يعني أنه لابد من مواجهتها بالشجاعة والخيال والإنسانية. فبعد التجارب المؤلمة التي مر بها يهود أوروبا في السنوات الثماني الماضية، لا يمكن لأي حلول مؤقتة أو مرتجلة أن تكفي. بل إن مثل هذه الحلول لا تليق بروح «ميثاق الأطلسي»[1] والمبادئ التي أعلنها زعماء الديمقراطيات مراراً وتكراراً.
إن المسؤولية عن الحل تقع على عاتق أولئك المكلفين بمهمة إعادة البناء، وكذلك على عاتق المجتمعات اليهودية التي نجت من مصير إخوانها الأوروبيين. ومن بين هذه المجتمعات الأخيرة، يقدر عدد اليهود في نصف الكرة الغربي بنحو خمسة ملايين؛ وفي الإمبراطورية البريطانية بنحو نصف مليون؛ وفي فلسطين بنحو نصف مليون. وهناك مجتمعات أصغر في تركيا ومصر وسوريا والعراق والهند وشمال أفريقيا الفرنسية ربما يبلغ مجموعها نصف مليون آخر، رغم أن بعضها لا يمكن تصنيفه على أنه مجتمعات «حرة».
لقد كان الهجوم النازي على اليهود بمثابة صدمة قاسية للعالم الخارجي في البداية. ولكن آثاره سرعان ما تلاشت، إذ وجد العديد من رجال الدولة والسياسيين الأوروبيين أنه من المناسب التعامل مع الأمر برمته باعتباره شأناً داخلياً ألمانياً بحتاً ورأوا أنه من «الأكثر منطقية» أن يتجاهلوا عواقبه الأكثر قتامة. أصبح لدى الغرب وعي بالقضية اليهودية. ومع تزايد أعداد اللاجئين، بات من الواضح أن مشاكلهم تتطلب نهجاً جديداً وجهوداً منسقة من جانب القوى العظمى. فبادر رئيس الولايات المتحدة، بدافع من الاعتبارات الإنسانية والبواعث السخية، إلى عقد مؤتمرين. وكان القصد من ذلك أن يبتكر ممثلو أوروبا وأميركا السبل والوسائل اللازمة لمساعدة المشردين اليهود وتمكينهم من بدء حياة جديدة دون أن يصبحوا عبئاً على المجتمعات التي عرضت عليهم المأوى المؤقت.
لقد حقق مؤتمر إيفيان[2] شيئاً ما. ولكن في المجمل، كانت التدابير التي تم تبنيها مجرد مسكنات.
وبطبيعة الحال، بُذِلت محاولات لإيجاد حل جذري مثل تحديد منطقة ما على سطح الأرض يمكن تحويل تيار الهجرة إليها، وهي منطقة واسعة بما يكفي للسماح للاجئين ببدء حياة جديدة. وذُكِر العديد من البلدان، بل وجرى النظر فيها بجدية. وأرسلت الحكومة البولندية لجنة من الخبراء إلى مدغشقر. وأرسلت الحكومة البريطانية لجنة إلى غويانا البريطانية، فيما تم ذكر ألاسكا باعتبارها منطقة محتملة وكذلك سانتو دومينغو عاصمة الدومينكان، فضلاً عن جزء ناء من جنوب كاليفورنيا على الحدود مع المكسيك. ولا يوجد سبب يمنعنا من الاستمرار في هذه «التمارين الجغرافية» إلى أجل غير مسمى. ولكن كان لابد من الاعتراف بأن البلدان التي نوقشت جميعها إما شديدة الحرارة أو شديدة البرودة؛ ولا يمكن اكتشاف أي منها في المنطقة المعتدلة.
ومن الغريب أن كافة هذه المناقشات الدولية الجادة كانت تتجاهل دور فلسطين في الحل. وكان هذا أكثر إثارة للدهشة بالنظر إلى المساهمة التي قدمتها فلسطين حتى ذلك الوقت لحل مشكلة اللاجئين اليهود. فقد تدفق اللاجئون إلى هذا البلد الصغير بعشرات الآلاف، وتم استيعابهم مع تحقيق فوائد كبيرة لأنفسهم وللبلاد. وظهرت مستوطنات جديدة، وتم توسيع المستوطنات القديمة ونشأت صناعات جديدة. وحتى بداية الحرب، وجد حوالي 100 ألف لاجئ من ألمانيا الكبرى مساكن لهم في فلسطين.
ولا شك أن السبب وراء هذا الصمت المدروس كان رغبة الحكومة البريطانية في عدم التركيز على فلسطين باعتبارها بلداً للهجرة الجماعية، لأن القيام بذلك قد يؤدي، في نظرها، إلى تعقيد الظروف الداخلية المضطربة السائدة هناك بالفعل. ولكن بصرف النظر عن هذا، كان هناك دائماً رأي (شارك فيه العديد من المشاركين في مؤتمر إيفيان) مفاده أن فلسطين أصغر من أن تلبي الحاجة الملحة. ولقد عزز هذا الرأي أنصار اليوتوبيا اليهودية الذين اجتمعوا على هامش المؤتمر، خاصة بعض الجماعات الخيرية اليهودية (وربما المناهضة للصهيونية) التي كانت على استعداد لإرسال إخوانها اليهود إلى أي بلد في العالم تقريباً بشرط ألا يكون ذلك البلد فلسطين. وحتى الآن، لا يزال المرء مضطراً إلى مواجهة الحجة المتكررة القائلة بأن فلسطين تفتقر إلى الحجم الكافي. ولا شك أن هذه الحجة لابد وأن تجد من يجيب عليها، وهو أمر ممكن.
فلسطين والأرجنتين
لقد قام اليهود بتجربتين استيطانيتين كبيرتين خلال الخمسين أو الستين عاماً الماضية، إحداهما في الأرجنتين والأخرى في فلسطين. وبدأ الاستيطان في الأرجنتين تحت أفضل رعاية ممكنة. فقد كانت مساحات غير محدودة تقريباً من الأراضي الزراعية الخصبة تحت تصرف المستوطنين. ولم تضع الحكومة هناك أي عقبات في طريقهم. وكانت أسعار الأراضي معتدلة، في حين امتلكت اللجنة التي تدير العمليات موارد هائلة تحت تصرفها (حوالي عشرة ملايين جنيه إسترليني من الذهب، وهو ما كان يمثل حينذاك مبلغاً هائلاً). وكانت جمعية الاستيطان اليهودية هيئة تتألف من أكثر الرجال كفاءة وتتمتع بسلطة كبيرة في العالم اليهودي. واستحوذت على نحو مليون ونصف المليون فدان (630 ألف هكتار) من الأراضي للاستيطان الزراعي. ولكن بعد خمسين عاماً، لم يستوطن هناك سوى 30 ألف شخص فقط. فضلاً عن ذلك، فإن الجيل الأصغر من المستوطنين لا يظهر أي ميل إلى البقاء على الأرض.
إن المستوطنين الأوائل الذين وصلوا إلى فلسطين كانوا في الأغلب من الشباب الفقراء الذين تركوا الجامعات الروسية بحثاً عن حياة حرة مستقلة بسيطة. وكانوا يعتزمون أن يحققوا لأنفسهم هذه الحياة على أرض فلسطين. ولقد شرعوا في مهمتهم هذه من دون خبرة ومن دون أموال أو مساعدة أو تعليم. نظر زعماء الجاليات اليهودية إلى هذه المهمة الخيالية باستخفاف وتنبأوا بفشلها المبكر والمأساوي. فضلاً عن ذلك، فإن الحكومة التركية وضعت كل الصعوبات التي يمكن تصورها في طريق الرواد الأوائل. فقد كانت هذه الرحلة بالنسبة لهم رحلة صعود إلى أعلى النهر. ولكن الرجال الذين انطلقوا في هذه الرحلة كانوا مستلهمين من الإيمان المقدس بالمستقبل. لقد كانوا رجال القدر الذين دُعوا إلى شق الطريق ـ مهما كان ضيقاً ووعراً ـ الذي كان لابد أن تسلكه الأجيال اللاحقة. وكان إدراكهم لرسالة عظيمة سبباً في دعمهم ومنحهم القدرة على التحمل وروح التضحية التي أرست أسس المستوطنات اليهودية الأولى، خاصة في السهل الساحلي. ورغم صغر حجم هذه القرى في بداياتها، نمت هذه القرى تدريجياً وبصورة مستمرة. إن اليهود في فلسطين لهم مكانة مرموقة في تطور الحياة اليهودية في فلسطين. وسوف يظل اسم مؤسسهم البارون إدموند دي روتشيلد مرتبطاً بهم إلى الأبد، وهو الرجل الذي كان قلبه ورؤيته لا يقلان عن ثروته. وفي البداية، لم يكن هناك سوى عدد ضئيل من المستوطنين الجدد الذين انضموا إليهم، فبدأوا في الظهور بعد عام 1905 ثم بدأوا في النمو بقوة منذ عام 1919.
إن فلسطين اليوم تضم نحو 250 مستوطنة يهودية ريفية يزيد عدد سكانها على 140 ألف نسمة. وأقيمت المدن والصناعات واستيقظت البلاد من إهمالها الذي دام قروناً وعادت اللغة العبرية القديمة إلى الحياة، وهي تسمع اليوم في حقول فلسطين وبساتينها وفي الشوارع والورش، وكذلك في المدارس والجامعات. وتبلغ المساحة الإجمالية للأراضي التي يملكها اليهود ـ والتي اكتسبوها تدريجياً من خلال الشراء في السوق المفتوحة ـ نحو 400 ألف فدان (168 ألف هكتار). ونشأت على هذه الأرض جماعة يهودية حديثة متماسكة منظمة جيداً تضم أكثر من نصف مليون نسمة. وهذا أمر طبيعي من جميع النواحي في بنيتها وفي توزيعها المهني. وتم بناء هذا النسق الأخلاقي والاجتماعي والفكري بالكامل في فترة زمنية قصيرة نسبياً بفضل جهود اليهود أنفسهم على أرض فلسطين. ولعبت العمالة اليهودية، المنظمة للغاية والمبدعة، دوراً رائداً في هذا الأداء.
إن الحركة العمالية في فلسطين ليست مجرد نسخة من حركات العمال أو النقابات العمالية في بلدان أخرى. بل إن هدفها خلق طبقة عاملة يهودية من خلال تعزيز الهجرة اليهودية واستيعاب المهاجرين في الاقتصاد المتوسع للبلاد. ويتم تشكيل مجال نشاطها وبنية تنظيمها وفقاً لذلك. وبصرف النظر عن الأنشطة النقابية البحتة، فإنها تشمل المستوطنات الزراعية ونقابات البناء والتعاونيات الصناعية والتعاونيات في مجال النقل والمؤسسات الثقافية وما إلى ذلك. وهي توحد جميع العمال في المدينة والريف وأعضاء النقابات والتعاونيات وأصحاب الملكيات الصغيرة والملكية الجماعية في المستوطنات. ويتحدث السير آرثر واكهوب، المفوض السامي البريطاني في فلسطين لمدة سبع سنوات، عن هؤلاء الأخيرين بالمصطلحات التالية:
إن هؤلاء المستوطنين اليهود الذين يبلغ عددهم 30 ألفاً لم يحلوا مشكلة التوزيع المتساوي للثروة من الناحية النظرية فحسب بل ومن الناحية العملية أيضاً، من خلال طريقة بسيطة، وإن كانت جذرية، تتمثل بعدم وجود أي ثروات. وخلال السنوات العشرين أو الثلاثين الماضية، أثبت المهاجرون اليهود أنهم أكثر المزارعين نجاحاً. ويفضّل القرويون عموماً الزراعة المختلطة. فهم يمتلكون قطعاناً عديدة من الأبقار الحلوب، ويزداد عدد أغنامهم ودواجنهم كل عام. وفي أكثر من 80 مستوطنة، تُـدار الأرض على نحو مشترك، ولا يمتلك المجتمع ككل الأرض فحسب بل وأيضاً المنتجات ووسائل الإنتاج والنقل.
لا يوجد بالطبع أي إكراه فيما يتعلق بهذه التجمعات السكنية الجماعية ولا أي سيطرة من جانب الدولة (كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي). وتدار المزارع بالاتفاق المتبادل بين أعضائها. ولا يتدخل التنظيم الجماعي للحياة الاقتصادية في التجمعات السكنية في حرية الفرد أو الأسرة.
لقد كان انتقال فلسطين من الحكم التركي إلى الحكم البريطاني وسياسة إعلان بلفور والانتداب (على الرغم من تطبيقهما على مضض وبلا حماسة) بمثابة الخلفية التي لا غنى عنها لهذا التطور. ولكن العامل الحاسم كان شخصية المهاجر ووعيه بالعودة إلى وطنه. لقد كان إعلان بلفور بمثابة دعوة إلى الشرف والكرامة اليهودية.
بالنسبة إلى التجارب والأخطاء التي جرت على مدى العشرين عاماً الماضية، يمكننا أن نستنتج بعض الأمور فيما يتصل بالهجرة الجماعية في المستقبل. وتبرز حقيقتان بارزتان:
إن الأسرة اليهودية تستطيع أن تعيش على خمسة أفدنة (20 دونماً) من الأراضي المروية، وفي بعض الحالات أقل من ذلك، شرط تطبيق المبادئ العلمية للزراعة المختلطة الحديثة. وأنشئت العديد من هذه المستوطنات في السنوات الأخيرة، حيث يعيش الناس على عمل أيديهم ولا يستخدمون عمالاً مأجورين ويعيشون حياة متواضعة من الكدح واكتسبوا شعوراً بالأمن، فيما توفر لهم المؤسسات الاجتماعية الحديثة العديد من وسائل الراحة الحياتية؛ وبوسعهم أن يمنحوا أطفالهم تعليماً سليماً وأن يسددوا الاستثمار على أقساط ميسّرة على مدى فترة ثلاثين عاماً أو نحو ذلك. وتذهب المبالغ المسددة إلى الوكالة اليهودية، التي تستخدم الأموال في المزيد من الاستيطان. ويجد معظم المستوطنين أنفسهم أيضاً في موقف يسمح لهم بتدبير شيء ما للأيام العصيبة. وفي حالة الأراضي غير المروية، فإن الأسرة الواحدة تحتاج إلى نحو خمسة عشر فداناً (60 دونماً).
إن تحديد مساحة الأرض المتاحة بدقة ليس بالأمر اليسير، ذلك أن الحكومة تحسب جزءاً كبيراً من الأراضي التي تظهر في المسوحات على أنها «غير صالحة للزراعة» لأنها لم تأخذ في الاعتبار سوى معايير وأساليب المزارع العربي العادي وليس الأساليب الحديثة في الزراعة. وإذا أضفنا إلى ذلك المساحة الشاسعة غير المزروعة الواقعة إلى الجنوب من خط غزة ـ بئر سبع والمساحات غير المستغلة الصالحة للري في نهر الأردن وغيره من الوديان والسهل البحري، لن يكون من قبيل المبالغة في التفاؤل أن نقول إن ما لا يقل عن مئة ألف أسرة يهودية أخرى يمكن أن تستوطن في هذه الأرض. وتبين التجربة أيضاً أن كل أسرة تستوطن في هذه الأرض تستوعب ثلاث أسر أخرى في مجالات الصناعة والتجارة. وعلى هذا، فإن المساحة المتاحة يمكن أن تستوعب نحو 400 ألف أسرة، أو ما يقرب من مليوني نسمة. ومن المرجح أن يكون هذا هو عدد الأشخاص الذين سيتعين على فلسطين في الواقع أن تعتني بهم بسرعة كبيرة بعد الحرب من أجل التخفيف إلى حد ما من البؤس الرهيب في المناطق المنكوبة في أوروبا.
فلسطين وسويسرا
ولكن هل يمكن أن ننتظر تطوراً صناعياً ملحوظاً في بلد محدود الموارد الطبيعية؟ قارن فلسطين بسويسرا. إنها دولة صغيرة أخرى فقيرة أيضاً بالموارد الطبيعية. ومع ذلك، نجح الشعب السويسري في بناء صناعة راسخة ومتنوعة، بما في ذلك الصناعات الهندسية والكهربائية والكيميائية والنسيجية والمنتجات الغذائية وتصنيع الساعات وغيرها من أدوات تقنية تتمتع بسمعة ممتازة في السوق العالمية للمنتجات ذات الجودة العالية. إن سويسرا مزدهرة؛ ومستوى المعيشة فيها مرتفع. وهي في المجمل واحدة من أكثر الديمقراطيات الأوروبية نظاماً واستقراراً. وأسهم سببان في هذه النتيجة. أولاً، شخصية الشعب السويسري التي تشكلت من خلال كفاحه الشاق مع الطبيعة. ففي حمل حضارتهم إلى خط الثلوج، كان عليهم أن يكافحوا من أجل كل شبر من الأرض وأن يستخلصوا منها أقصى قدر من الرزق. ونشأ في سويسرا عرق قوي ومنضبط يؤمن إيماناً عميقاً بالقيم الأخلاقية والفكرية ويحترمها. والعنصر الثاني في نجاح سويسرا هو موقعها الجغرافي المركزي الذي يوفر لها سهولة الوصول إلى الأسواق الأوروبية الكبرى.
في فلسطين، يواجه السكان صراعاً عنيفاً مع تربة أهملت لقرون من الزمان وجردت من الغطاء النباتي وتآكلت إلى الحد الذي يتطلب إنفاق قدر كبير من الطاقة لإعادة بنائها. ولكن اليهود تدربوا في مدرسة الشدائد، وهم صبورون ومثابرون. فضلاً عن ذلك، فإنهم لا يملكون خياراً آخر: إما أن ينجحوا أو يهلكون.
كما يتمتع اليهود بتقليد طويل من التدريب الفكري، وهم يتعلمون بسرعة كيفية تطبيقه على مشاكل حياتهم الجديدة. والموقع الجغرافي لفلسطين أكثر ملاءمة من سويسرا، فهي تقع على البحر وعلى مفترق طرق التجارة الكبرى في العالم القديم وبمثابة جسر بين الشرق والغرب. وهناك بالفعل إنجازات صناعية كبيرة في فلسطين. فهناك المصانع الكهربائية الكبرى على نهر الأردن؛ ومصانع البحر الميت بالقرب من أريحا التي تنتج البوتاس والبرومين، وما إلى ذلك، وهي قادرة على التوسع إلى صناعة كيميائية ثقيلة أساسية مهمة؛ ومصانع النفط والصابون ومصنع أسمنت حديث ومسبك حديد في حيفا وصناعة النسيج (القطن والحرير). كانت فلسطين في ذلك الوقت تضم العديد من الصناعات الصغيرة، مثل صناعة الملابس ومصانع الفواكه المعلبة والمربى والأثاث والأدوية والأحذية والعديد من الأعمال الهندسية الصغيرة التي تضم ورشاً حديثة، حيث يتم الآن إجراء الإصلاحات اللازمة للجيش البريطاني على نحو فعال، فضلاً عن عدد من الصناعات الصغيرة. وفي المجمل، توظف الصناعة اليهودية الفلسطينية اليوم نحو 35 ألف شخص، وتقدر قيمة إنتاجها السنوي بنحو 13 مليون جنيه إسترليني. وفي العام الأول من الحرب، زودت الصناعة اليهودية الفلسطينية الجيش البريطاني بسلع بلغت قيمتها مليون جنيه إسترليني. ثم زودته بنفس القيمة مرة أخرى في الأشهر الخمسة الأولى من العام الثاني. ويرجع هذا الجهد الحربي الصناعي بالكامل إلى مبادرة اليهود أنفسهم. ومن الممكن أن يكثف إلى حد كبير إذا ما أتيح له التشجيع والفرصة المعقولة. وكما تستطيع فلسطين الآن أن تفعل الكثير من أجل المجهود الحربي، فإنها تستطيع بعد الحرب أن تقدم، إذا ما توفرت لها الظروف الاقتصادية والسياسية المناسبة، مساهمة أعظم كثيراً مما سُمح لها به حتى الآن.
إن المسؤولية المالية التي تقع على عاتق الشعب اليهودي فيما يتصل باستيعاب بضعة ملايين من المستوطنين الجدد في فلسطين ستكون ثقيلة. فالأموال اليهودية التي أنفقت في فلسطين حتى الآن تبلغ نحو 500 مليون دولار. وتمثل الأموال العامة نحو 15% منها، في حين يمثل الباقي استثمارات خاصة. وهذا يمثل استثماراً بنحو ألف دولار لكل مستوطن. وبالتالي، فإن هجرة واستيطان كل مئة ألف شخص ستتطلب مئة مليون دولار. ولا يمكن توقع سوى جزء ضئيل من هذا المبلغ من التبرعات الطوعية. إن تمويل مثل هذه العملية الضخمة على مدى سنوات سيتطلب جمع قروض من الدولة. وسوف يتعين سداد هذه القروض من عائدات البلاد. ولكن هذا يتطلب تعديلاً جذرياً للنظام المالي الفلسطيني. والواقع، أن الزيادة الملحوظة في دخل الدولة كانت راجعة بالكامل تقريباً إلى التنمية السريعة التي بدأها اليهود. ولكن السيطرة المالية كانت منوطة بحكومة فلسطين (حكومة الانتداب البريطاني). واضطرت الوكالة اليهودية إلى الاعتماد بالكامل على التبرعات الخاصة. لقد بلغ إفقار الجماهير اليهودية في أوروبا اليوم درجة كاملة لدرجة أنه لم يعد بالإمكان الاعتماد على أي مساهمات جوهرية من يهود أوروبا.
«لجنة بيل» و«الكتاب الأبيض»
في عام 1937، توصلت لجنة ملكية برئاسة اللورد بيل[3] إلى استنتاج مفاده أن الشكل الحالي للإدارة في فلسطين عفا عليه الزمن. وأوصت بتقسيم البلاد إلى دولتين: يهودية في الغرب والشمال تضم السهل البحري والجليل، وعربية في الشرق والجنوب.
ودون الخوض هنا في مسألة مدى إمكانية تبرير مثل هذا التحديد الثاني لمساحة الوطن القومي اليهودي (الذي اقتطع بالفعل في عام 1922 بسبب فصل شرق الأردن)، فإنني أسجل فقط حقيقة مفادها أن اليهود، على الرغم من استيائهم من المساحة المخصصة بالفعل للدولة اليهودية، كانوا على استعداد مع ذلك لمحاولة التفاوض على تسوية على أساس المبادئ المنصوص عليها في تقرير بيل. ولكن الخطة، على الرغم من قبول الحكومة البريطانية لها في البداية، تم التخلي عنها بعد ذلك تحت الضغط العربي. ولقد سُمح للدول العربية، مثل العراق ومصر، والتي لم يكن لها أي حق في التدخل في الشؤون الفلسطينية في البداية، ثم شُجِّعت فيما بعد، على ممارسة نفوذ قوي. واصطف العرب في جبهة موحدة ضد الوطن القومي اليهودي. وعقدت الحكومة مؤتمراً في لندن مع العرب واليهود. وبعد الكثير من المناورات، وضعت سياستها الخاصة في «الكتاب الأبيض» الصادر في مايو/أيار 1939. وكانت السمات الرئيسية لهذه السياسة هي: وقف الهجرة اليهودية بالكامل بعد خمس سنوات أخرى (خلال هذه الفترة كان من المفترض ألا يتجاوز إجمالي المهاجرين اليهود 75 ألف مهاجر)؛ وتقييد الاستحواذ اليهودي على الأراضي في مناطق صغيرة معينة (وهي أول حالة معاصرة للتمييز ضد اليهود تحت العلم البريطاني)؛ وإنشاء دولة فلسطينية حيث يتمتع العرب، الذين حصلوا بشكل مصطنع على أغلبية بنسبة اثنين إلى واحد، بالسيطرة الإدارية على البلاد بشكل طبيعي. ولقد عارض هذه السياسة زعماء حزب العمال والليبراليين في مجلس العموم البريطاني. كما عارضها كبار المحافظين، وفي مقدمتهم تشرشل الذي انتقدها بشدة في خطابه الشهير في 23 مايو/أيار 1939. كما أدانتها لجنة الانتدابات باعتبارها غير متوافقة مع روح ونص الانتداب. والواقع، أن الغرض الوحيد من هذه السياسة كان استرضاء العرب. ولكن الأحداث التي شهدتها مصر والعراق وغيرهما، وموقف العديد من العرب حتى في فلسطين وسوريا أثناء الحرب الحالية، أوضحت بما فيه الكفاية فشل هذه الجرعة من الاسترضاء أيضاً.
ولقد بذلت إدارة فلسطين جهوداً حثيثة لتطبيق «الكتاب الأبيض» الصادر سنة 1939، وهو ما يتناقض بشكل غريب مع ترددها وتذبذبها في تنفيذ سياسة الانتداب طيلة العشرين سنة الماضية. ورفض اليهود، وما زالوا يرفضون، قبول «الكتاب الأبيض» لأنه يتعارض مع حقوقهم التاريخية ومع روح إعلان بلفور ويشكل خرقاً لاتفاق رسمي عقدته الحكومة البريطانية وصادق عليه الرأي العام البريطاني وعصبة الأمم والولايات المتحدة.
إن هذه المحاولة لتقليص وعد إقامة وطن قومي للشعب اليهودي إلى مرتبة الأقلية في فلسطين العربية ترجع في المقام الأول إلى العلاقة الغريبة بين البريطانيين والعرب من جهة، والبريطانيين واليهود من جهة أخرى. ذلك أن البريطانيين في فلسطين لم يشرحوا للسكان العرب المعنى الحقيقي لوعد بلفور وتداعياته. وفي أفضل الأحوال، كانوا يعتذرون عن السياسة التي عُيِّنوا لتنفيذها. وفي أسوأ الأحوال، كان بعضهم معادياً علناً. ومن بين الإداريين والسياسيين البريطانيين في الشرق الأدنى والأوسط هناك أتباع مدرسة فكرية مستعدة تماماً لنسب كل الصعوبات التي واجهتها السياسة البريطانية في مصر أو الهند أو أي مكان آخر إلى الوطن القومي اليهودي في فلسطين. سارع العرب إلى استغلال هذا الدليل على الضعف. وبمساعدة قوى المحور، نجحوا في إثارة الاضطرابات التي اتخذت في بعض الأحيان أبعاداً تهديدية. وكان لزاماً عليهم أن يرضوا العرب بأي ثمن. وكان لزاماً على اليهود أن يدفعوا ثمن هذه السياسة.
تمييز ضد اليهود؟!
عند اندلاع الحرب (العالمية الثانية)، عرضت كل القوى البشرية اليهودية المتاحة في فلسطين نفسها للخدمة في الحرب إلى جانب بريطانيا. وكان العديد منهم من الرجال الذين يتمتعون ببعض التدريب والمعرفة التامة بالبلاد. وكان من الممكن أيضاً تقديم المساعدة التقنية والصناعية. وعرضت هذه المساعدة أيضاً. ولكن حماسة اليهود خفت إلى حد ما بسبب التقدير البارد الذي استقبل به هذا الاستعداد للخدمة. صحيح أنه سُمح لهم بالتجنيد بأعداد محدودة في القوات البريطانية، ولكن فيما يتعلق بالوحدات القتالية كان ذلك على قدم المساواة مع المتطوعين العرب، الذين لم يبدوا أي استعداد للتقدم. وفي النهاية، تم التخلي عن مبدأ التكافؤ، تحت ضغط الظروف، منذ فترة قصيرة. ويشكل حوالي 10000 يهودي الآن جزءاً من جيش النيل كمقاتلين أو في خدمات مساعدة. وقدموا أداءً جيداً في ليبيا وكريت واليونان وسوريا. ولكن حتى الآن، لا يُسمح لهم بالقتال تحت اسمهم وعلمهم الخاص. وكان وجودهم مع القوات البريطانية مخفياً تحت وصف «فلسطينيين». ولا يسع المرء إلا أن يتساءل لماذا تجد السلطات البريطانية، في ظل الصعوبات التي تواجهها في مجال الشحن، ضرورة لجلب الرجال والمعدات من أستراليا ونيوزيلندا بدلاً من الاستفادة مما هو متاح بشكل فوري؟
إن هذا الموقف الغريب والمحبط لليهود يهدف على الأرجح إلى إثبات للعالم العربي أن اليهود لا يتمتعون بمكانة خاصة أو مصلحة خاصة في فلسطين. وحتى بعد التجارب المريرة التي عاشوها في الحرب الحالية، يبدو أن هذه الفكرة أصبحت هاجساً لا يمكن استئصاله من عقول بعض الناس. والواقع، أن الجهود العبثية الرامية إلى محو اسم مجتمع نشط للغاية في فلسطين تشكل شذوذاً مأساوياً يرجع إلى الافتقار التام في الدوائر المسؤولة عن السياسة في الشرق الأوسط إلى الإحساس الحقيقي بالقيم التي ينطوي عليها الصراع الحالي بين الخير والشر.
في أي تسوية لمشاكل الشرق الأوسط، لابد أن نضع في الحسبان الحركة القومية العربية المستلهمة من الأفكار القومية العربية من جهة، والشوفينية المحلية المبالغ فيها من جهة أخرى. ومن الغريب أن هذين الجانبين لا يتعارضان بل يتعايشان. إن الحركة القومية العربية عاطفية ومضطربة، وأصابتها النشوة نتيجة للمكاسب السياسية غير المتوقعة التي حققتها بالوكالة منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية. وهي تصمم نفسها على النمط الشمولي. فالشباب العربي يقف في رهبة أمام إنجازات ألمانيا وإيطاليا، وما زالوا يؤمنون بانتصارهما القادم. وقبل الحرب، تم تشجيع مجموعات من الطلاب العرب من العراق وسوريا وفلسطين على الحج إلى برلين ونورمبرغ وروما ليتعبدوا في الأضرحة النازية والفاشية. وهناك، تم غرس الأفكار «الحديثة» في عقولهم، والتي نقلوها الآن إلى بلدانهم. إن ثورة رشيد عالي الكيلاني (التي صاحبتها مذبحة منتظمة بحق اليهود) تشهد على نجاح التعاليم النازية الفاشية. أما مذبحة بغداد (120 قتيلاً و850 جريحاً) فقد ارتكبت ضد مجتمع يهودي أصلي قديم كان يقيم هناك لقرون من الزمان. وهذه الأحداث، بالمناسبة، تكذّب الفكرة التي ينشرها الدعاة العرب بكل جد واجتهاد، والتي تقول إن شعبهم عاش دوماً في وئام مع سكانه اليهود الأصليين، وأن عداوتهم موجهة فقط ضد المهاجرين اليهود «الأجانب» القادمين. ولا يوجد من هؤلاء في بغداد أي مهاجر يهودي.
إننا نأمل أن يثبت هذا الوضع الذهني السائد بين العرب أنه حالة عابرة. إن الفرصة العظيمة تنتظر الشعوب العربية لإعادة بناء بلدانها وإدخال السعادة والرخاء إلى قلوب الفلاحين المضطهدين. وسوف يكون هذا بمثابة الاختبار الحقيقي للقومية العربية. إن الاعتزاز بالماضي المجيد لا قيمة له إلا إذا كان بمثابة حافز للمهمة الصعبة المتمثلة في إعادة بناء مستقبل أكثر سعادة.
في المراحل الأولى من عملنا في فلسطين، كانت هناك احتمالات واضحة للتوصل إلى تسوية معقولة للوضع مع العرب. وفي عام 1918، وبناء على اقتراح من حكومة جلالته وبموافقة وتشجيع من الجنرال اللنبي، ذهبت إلى شرق الأردن في زيارة إلى الأمير فيصل، القائد الأعلى للقوات العربية آنذاك. أجرينا مناقشة صريحة أوضحت فيها بوضوح أهداف وتطلعات اليهود. وأعرب الأمير عن استعداده لمنحهم موافقته الكاملة، بعد التشاور مع والده، شريف مكة آنذاك. وبعد عام واحد، في لندن، تم إبرام معاهدة صداقة بيننا جسّدت النقاط الرئيسية لهذه المحادثة في الصحراء. وساعد لورنس العرب، الذي كثيراً ما يُستشهد به خطأً باعتباره مناهضاً للصهيونية، في صياغة هذه المعاهدة والتفاوض عليها، وعمل كمترجم.
ولقد حالت التطورات في سوريا دون تنفيذ المعاهدة. وبعد وفاة فيصل، ساءت الأمور في العراق. ومع وفاته، انقطعت حلقة وصل مهمة بين اليهود والعالم العربي. ومع ذلك، حتى في فلسطين، حيث كانت العلاقات بين العرب واليهود في الآونة الأخيرة حادة إلى درجة ما، ظل بين العرب من هم على استعداد لمناقشة شروط التعاون. وعلى الرغم من أن عملنا في فلسطين يهدف في المقام الأول إلى رفاهية اليهود، فإن الفوائد التي يجنيها العرب من هذا العمل لا جدال فيها. فقد زاد عدد السكان العرب في فلسطين، بالنمو الطبيعي ومن خلال الهجرة، بسرعة أكبر كثيراً من تلك التي تزايدت في شرق الأردن أو حتى في مصر الغنية. وكانت الزيادة أكبر ما تكون في تلك الأجزاء من فلسطين حيث كان النشاط اليهودي أكثر كثافة. وأجور العمال العرب في فلسطين أعلى منها في أي بلد عربي آخر، وهذا يفسر تدفقاً عربياً كبيراً للغاية.
ولكن تولى مفتي القدس زعامة الحزب القومي المتطرف. وهو عدو عنيد لليهود والبريطانيين على حد سواء. وبفضل الدعم الذي قدمه له نفوذ خارجي قوي (وحتى الإدارة البريطانية التي فضلته في بعض الأحيان)، اكتسب تفوقاً كبيراً على العرب الفلسطينيين، ونجح من خلال إرهاب المعتدلين في إحباط كل محاولات المصالحة. ورغم ذلك، فإن المفتي لم يمثل قط العرب الفلسطينيين كلهم. وهناك بعض الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن العديد من العرب كانوا ليوافقوا على مقترحات اللجنة الملكية (لجنة بيل) لو بذلت الحكومة محاولة حازمة لتنفيذها. وكان من الممكن أن تصبح الدولة اليهودية في جزء من فلسطين مشروعاً قائماً اليوم. وأعتقد أنني لست جريئاً إلى حد كبير في إضافة أن الموقف العسكري على هذه الجبهة كان ليكون في هذه الحالة أكثر ملاءمة مما هو عليه الآن.
إن فلسطين تشكل أهمية استراتيجية لا يمكن أن ننساها. فالبلاد الممتدة من الفرات إلى النيل تشكل منطقة شاسعة وقليلة السكان إلى حد كبير. وكانت هذه البلاد في العصور القديمة مراكز حضارية عظيمة. ولكن برغم سقوطها في أيام عصيبة، فإن أهميتها الجغرافية ظلت كما هي، بل أصبحت أكبر من أي وقت مضى. إن هذه البلاد تشكل جسراً بين القارات الثلاث في العالم القديم. وقناة السويس هي البوابة إلى الشرق الأقصى والهند. وبالتالي، تشكل أحد المنافذ المؤدية إلى المحيط الهادئ. وقد يؤثر مصيرها حتى على مصالح نصف الكرة الغربي. وليس من المستغرب إذاً أن تسعى البلدان الكبرى منذ أمد بعيد، ولا تزال تسعى، إلى الحصول على موطئ قدم في هذا الجزء من العالم. وسوف تظل هذه البلدان تنظر إليه بعين الجشع ما دام ضعيفاً وغير متطور وغير مستقر وفريسة للمكائد السياسية. وبمجرد إعادة بناء هذه البلدان ورفعها إلى مستوى أعلى من الثقافة والإدارة، فإن هذا الوضع غير المرغوب فيه سوف يشهد تغيراً سريعاً نحو الأفضل. ولكن إعادة بناء هذه المدن لا يمكن أن تتم من خلال الاستغلال الرأسمالي، بل من خلال طاقات وجهود سكانها أنفسهم. وفي المراحل الأولى على هذا الطريق، سوف يحتاجون بالتأكيد إلى توجيهات من دول مثل بريطانيا أو الولايات المتحدة. وفي المقابل، أعتقد أن فلسطين اليهودية سوف تكون قادرة على المساهمة كثيراً في تقدمهم وازدهارهم. ولكن إذا لعبت فلسطين مثل هذا الدور، فإن ذلك يعني التزاماً مضاداً على العرب بالاعتراف بحقوق اليهود هناك.
إن العرب مهما كسبوا، وكانوا كثيرين، نتيجة للحرب الأخيرة؛ ومهما كسبوا، وكسبوا بالفعل شيئاً ما، وسيكسبون المزيد نتيجة للحرب الحالية، فإنهم مدينون، وسيظلون مدينين، بالكامل للديمقراطيات. وعلى هذا، فإن الديمقراطيات هي التي يتعين عليها أن تعلن عدالة المطالبة اليهودية بملكيتها الخاصة في فلسطين. وليس في هذا المبدأ أي جديد. فقد كان ضمنياً في إعلان بلفور؛ وأعادت «لجنة بيل» تأكيده. ولقد اكتسبنا الآن الخبرة الثمينة على مدى الأعوام العشرين الماضية والتي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن اليهودي عندما يعود إلى أرض فلسطين تنطلق في داخله الطاقات التي اختزنها وكبتها آلاف السنين، وهي الطاقات التي إذا ما أتيحت لها الفرصة، فإنها قادرة على خلق قيم قد تخدم حتى البلدان الأكثر ثراءً.
سيستفيد العرب كثيراً من انتصار بريطانيا في سوريا وليبيا. ومن ناحية أخرى، من الضروري أن يتم التوصل إلى تسوية في فلسطين تساعد في حل المشكلة اليهودية، وهي واحدة من أكثر المشاكل إزعاجاً في العالم. ولذلك، لابد من إخبار العرب بوضوح بأن اليهود سوف يشجعون على الاستقرار في فلسطين وأنهم سوف يتحكمون في هجرتهم؛ وأن اليهود هنا سيتمكنون من تحقيق حريتهم وحكمهم الذاتي إذا ما رغبوا في ذلك من خلال إنشاء دولة خاصة بهم والتوقف عن كونهم أقلية تعتمد على إرادة ورغبات الأمم الأخرى.
إن الدولة اليهودية في فلسطين ستكون دولة مدنية وسياسية متساوية في الحقوق بين جميع المواطنين دون تمييز على أساس العرق أو الدين، كما يتمتع العرب بالحكم الذاتي الكامل في شؤونهم الداخلية. ولكن إذا لم يرغب أي عربي في البقاء في دولة يهودية، سيتم توفير كل التسهيلات اللازمة له للانتقال إلى إحدى الدول العربية العديدة والواسعة. ونظراً للأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لفلسطين، فإن ضم الدولة اليهودية إلى الكومنولث البريطاني سيكون في مصلحة الطرفين. ولكن يتعين علينا أيضاً أن نكون مستعدين، إذا لزم الأمر، للنظر في الانضمام، في ظل الضمانات المناسبة، إلى اتحاد فيدرالي مع الدول العربية.
إن الدولة اليهودية في فلسطين لن تكون مجرد وسيلة ضرورية لتأمين المزيد من الهجرة اليهودية والتنمية، بل إنها ضرورة أخلاقية وفرضية أساسية. كما أنها ستكون خطوة حاسمة نحو الحياة الطبيعية والتحرر الحقيقي. وأعتقد أن اليهود في كل مكان بعد الحرب لن يتمكنوا من اكتساب المكانة والأمن إلا من خلال قيام دولة يهودية. وهذا يتحقق بشكل خاص إذا كانت هذه الدولة جزءاً من الكومنولث البريطاني.
إن المعادين للسامية، العازمين على استعباد اليهود أو دفعهم إلى المنفى لم ينتظروا ذريعة إنشاء دولة يهودية حتى يشرعوا في ملاحقتهم. وكان أحدث مظاهر الإبداع النازي هو المرسوم الذي يقضي بأن يحمل كل يهودي تحت الحكم النازي على صدره ما يسمى «شارة العار»، أي درع داوود. ونحن نرتديها بكل فخر. إن درع داوود رمز قديم ومقدس للغاية بحيث لا يمكن أن يكون عرضة للإهانة تحت الصليب الوثني المعقوف.
هوامش:
[1]- ميثاق الأطلسي هو إعلان مشترك أصدره رئيس وزراء المملكة المتحدة ونستون تشرشل ورئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت في 14 أغسطس/آب 1941. ووضّح الميثاق أهداف الحلفاء في فترة ما بعد الحرب. وفيه، أعربت الحكومتان عن الرغبة في إيجاد منظمة عالمية لحفظ السلام وتحقيق التعاون الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
[2] – في مؤتمر اللاجئين في إيفيان، اجتمع ممثلون عن 32 دولة ومندوبون من منظمات الإغاثة في إيفيان ليبين، وهو منتجع في فرنسا، لمناقشة قضية اللاجئين اليهود الألمان. وحثت الولايات المتحدة كافة الدول على التوصل إلى حل طويل المدى لهذه المشكلة. ورغم ذلك، كانت الولايات المتحدة وغيرها من الدول غير راغبة في تسهيل قيود الهجرة في بلادها. فقد كانت معظم الدول خائفة من أن الزيادة في أعداد اللاجئين ستتسبب في إحداث المزيد من الصعوبات الاقتصادية. وانتهى المؤتمر بعد أسبوع. وكانت إحدى نتائج المؤتمر إنشاء اللجنة الحكومية الدولية بشأن اللاجئين (ICR)، التي ستواصل العمل على حل مشكلة اللاجئين.
[3] – لجنة بيل: هي لجنة تحقيق بريطانية أُرسلت إلى فلسطين عام 1936 لدراسة أسباب الاضطرابات بين العرب واليهود واقتراح حلول لمستقبل الحكم في المنطقة. جاءت هذه اللجنة بقيادة اللورد ويليام بيل نتيجة تزايد التوترات والاشتباكات العنيفة بين الجانبين، خاصة مع تزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتصاعد المخاوف لدى العرب بشأن سياسات الانتداب البريطاني.
أهم توصيات لجنة بيل:
تقسيم فلسطين إلى دولتين: اقترحت اللجنة تقسيم فلسطين إلى منطقة يهودية صغيرة على الساحل ومنطقة عربية أكبر في بقية فلسطين، بالإضافة إلى منطقة دولية تشمل الأماكن المقدسة مثل القدس وبيت لحم.
نقل السكان: اقترحت نقل السكان بين المناطق العربية واليهودية لضمان نقاء عرقي أكثر وضوحاً، وهو ما أثار جدلاً كبيراً لكونه إجراءً غير مسبوق آنذاك.
لم تُنفذ توصيات اللجنة بسبب معارضة العرب وانتهاء الأمر بالرفض البريطاني النهائي لتطبيقها بعد اندلاع المزيد من الاضطرابات. يمكن اعتبار تقرير «لجنة بيل» من أوائل المحاولات الرسمية لتقسيم فلسطين، وهو ما أثر على السياسات الدولية اللاحقة بشأن القضية الفلسطينية.