شورش درويش
تتأرجح التوقّعات حول طبيعة الرد الإسرائيليّ المقبل على إيران، وهل سيكون ردّاً واحداً أم سلسلة ردود متعاقبة مبنية على ردود أفعال إيران اللاحقة. من بين ما يجري تداوله، يتصدّر ملف ضرب المنشآت النووية الإيرانية سلّم التوقعات، حتى وإن لم تكن ضمن الجولة الأولى لعملية الرد الإسرائيلية.
من شأن الذهاب لتنفيذ هذا السيناريو أن يؤدي إلى إنهاء التطلّعات الإيرانية في التحوّل لنظام أبديّ متمترس خلف قنبلته النووية. لكنه في المقابل، خيار محفوف بالمخاطر قد يؤدّي إلى ردٍّ إيراني غاضب وموسّع يطاول الأصول الأميركية في المنطقة والمنشآت النفطية في دول مجلس التعاون الخليجية وإلى توجيه ضربة غير مسبوقة لإسرائيل نفسها.
ثمة أصوات أميركية وازنة تؤيّد مثل هذا السيناريو، إذ طالب الرئيس السابق دونالد ترامب إسرائيل توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية. وبالمثل، حثّ جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأسبق وأبرز المعادين للاتفاق النووي الإيراني، إسرائيل على اعتبار «التوتر الجيوسياسي الحالي بمثابة لحظة حاسمة لاستهداف وتفكيك القدرات النووية الإيرانية»، في حين أبدت إدارة الرئيس جو بايدن رغبة في احتواء الموقف والحؤول دون الوصول إلى حرب شاملة عبر اختيار بنك الأهداف بعناية فائقة، على أن يستثنى من ذلك المنشآت النفطية.
يفهم من ذلك أن البيت الأبيض لا يحبّذ فكرة ضرب المنشآت النووية الإيرانية أو المنشآت النفطية. لكن ما لم يفهم هو أيّ الأهداف تحبّذها واشنطن؟ وهل تؤيّد واشنطن اغتيال قادة الحرس الثوري مثلاً؟ أم توجيه ضربة للقدرات الصاروخية الإيرانية؟ واقعياً، لا شيء يشي بما تفضّله واشنطن من خيارات. وهي إن كانت أوكلت إدارة العلاقة بينها وبين تل أبيب إلى وزارتي دفاع البلدين، فإنّ ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأن ردّهم القادم على الهجوم الإيراني «سيكون قاتلاً ودقيقاً وفوق كل ذلك مفاجئاً»، وأن الإيرانيين «لن يفهموا ماذا حدث وكيف»، فإن نظيره الأميركي لويد أوستن كان تناقش معه في 30 سبتمبر/أيلول الماضي حول فحوى الرد الإسرائيلي والتأكيد على «أهمية التحول في النهاية من العمليات العسكرية إلى مسار دبلوماسي لتوفير الأمن والاستقرار في أقرب وقت ممكن». فيما يبقى السؤال حول مدى التزام تل أبيب بتعهداتها لواشنطن مثار جدل مذ بدأت الحرب على غزة، لاسيما التحوّل إلى المسار الدبلوماسي.
الغالب على الظن أنه ثمة رؤيتين تتنازعان الحليفين الأميركي والإسرائيلي إزاء ما ينبغي أن تؤول إليه الحرب الدائرة في غزة ولبنان والجبهات الفرعية في الضفّة الغربية واليمن وسوريا والعراق. فمنذ البداية، سعت حكومة بنيامين نتانياهو إلى خوض حرب أوسع من الحرب الموضعيّة التي جرت في غزّة أو تحقيق توغّل برّي في جنوب لبنان وتوجيه ضربات مميتة لحزب الله. إذ إن الحرب، وفق منظور نتانياهو، هي آخر حرب ينبغي أن تُخاض مهما بلغت فظاعاتها أو أكلافها. والحرب وفق هذا الرؤية ما هي سوى كرة لهب تكبر وتتسع وينبغي لها أن تصل في نهاية المطاف إلى إيران نفسها.
إلى اليسار من نتانياهو تبدو مقاربة بايدن أقل طموحاً لإقامة شرق أوسط جديد مبنيّ على إنهاء حكم النظام الإيراني بالقوّة العارية. ذلك أن الممكن والأسلم إلحاق الهزيمة بإيران عبر تحصيل النقاط بدل الفوز بالضربة القاضية والاكتفاء بما تحقق على جبهتي غزّة ولبنان. هذا التباين يعني في مكانٍ ما صعوبة سلوك نتانياهو الطريق الدبلوماسي رغم التنازلات التي يبديها لبنان الرسميّ وحزب الله وإيران، إذ ثمة أصوات إسرائيلية تتحدث عن فرصة سانحة لا تعوّض لتقويض القدرات النووية الإيرانية بعد توجيه ضربات موجعة لأذرع إيران في غزة ولبنان وسوريا والعراق.
لعلّ ما يصعّب عمل بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن فيما خص تطوّر سير المعارك هو ما حقّقه نتانياهو من نجاحات عسكرية وتنفيذه موجة اغتيالات دقيقة ومتسارعة في لبنان، وتمكّنه قبل ذلك من ضبط إيقاع السياسة الداخلية ونيله ما يشبه التفويض المطلق للمضيّ بالحرب دون الالتزام بأي أفق زمنيّ محدّد.
مثّلت مثل هذه المسائل إحراجاً، وربما صدمةً، لبايدن المتشكك بقدرات نتانياهو، ووصفه إياه غير مرة بـ«المتهوّر والعنيد والغلام الكاذب والسيئ». إذ كان بايدن يتوقع حصول أمرين: أوّلاً، اضطرار واشنطن الانخراط المباشر في سير الحرب نتيجة عدم كفاءة نتانياهو القيادية حال استطالة الحرب وحصول انقسام داخلي مبنيّ على إخفاقات الحكومة، وتحقيق إيران تالياً لإنجازات في ساحات المعارك. ثانياً، قيام حربٍ إقليمية موسّعة بلا قواعد ومفتوحة على كل الاحتمالات.
لكن لا شيء من ذلك تحقّق. فإسرائيل، التي تتباهى بخوضها حرباً على سبعة جبهات، ترى أن من حقّها رسم خريطة الحرب وأين وكيف ومتى عليها أن تضرب. وهذا ما قد يقود إلى توقّع توجيه ضربة للقدرات النووية الإيرانية في أيّ مرحلة من مراحل الحرب حتى وإن عارضتها إدارة بايدن في هذه الأثناء.
في مقابل السعي إلى تفكيك البرنامج النووي، تسعى تل أبيب إلى تحقيق ما يشبه الانهيار داخل منظومة الحكم الإيراني وحدوث تبدّلات داخل المشهد الإيراني من قبيل تفكيك الكيان الإيراني نفسه. كان مرداخاي كيدار، المختص في شؤون الجماعات الإسلامية، كتب عام 2021 ورقة بحثية في «مركز بيغين – السادات للدراسات الاستراتيجية» ركّز فيها على وجوب تفكيك إيران على شاكلة ما جرى في الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، رغم ترجيحه النموذج اليوغسلافي المبني على فكرة أن التغيير في إيران لن يكون سلمياً بحيث يمهد التدخّل العسكري الخارجي الطريق أمام الحركات القومية الآذرية والكردية والعربية والبلوشية للتخلّص من «السيطرة الفارسية» وكسر احتكارها للسلطة والثروة.
أيّاً يكن من أمر ذلك، فإن من شأن أي هجوم على القدرات النووية والبنية التحتية العسكرية لإيران أن يفتح المجال أمام طائفة من الاحتمالات من بينها تفكك الكيان الإيراني نتيجة ضعف الكيان المركزي في بلد يعجّ بالإثنيات والتحديات الاقتصادية والتناقضات بين المركز الفارسي الإثنومذهبي والأطراف الإثنية. ورغم أن «وعي الذات الإمبراطوري» لدى كثير من الإيرانيين قد يؤخّر أو يعطّل احتمالية تفكك الكيان الإيراني، إلّا أن الحرب لن تحفظ لإيران جغرافيتها على ما قالته تجارب مماثلة. ولعل هذا الكابوس بدأ يؤرّق النظام الإيراني الذي قرر متأخراً أن يضع رئيساً إصلاحياً ذي جذور إثنية كردية آذرية مختلطة كمسعود بزشكيان في واجهة المشهد السياسي علّه يكون المادة اللاصقة بين المركز والأطراف حال تدهور الأوضاع الداخلية.
تعي إيران أن المضي في مشروعها النووي يعني امتلاكها في لحظة ما سلاح ردع خارجي، وداخلي أيضاً، على ما قالته تجربة كوريا الشمالية. وهو ما يعني أن تفكيك برنامجها النووي بقوة السلاح الإسرائيلي بداية لتفكك وحدتها الترابية ونهاية حكم آيات الله. ولأجل ذلك، قد لا يكون اختيار إسرائيل هذا الهدف أمراً مؤكّداً في هذه الأثناء بالنظر إلى جسامة الهزيمة التي ستمنى بها إيران واحتمالية ردّها دون محاذير وبشكل غير مسبوق على إسرائيل والأصول الأميركية في المنطقة، حتى وإن كان ذلك آخر عمل في حياة نظامها الثيوقراطي المديد، وربما المريض.