حينما يصبح الاحتلال التركي للعراق «تعاوناً أمنياً» بين بلدين 

طارق حمو
مثلت الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العاصمة العراقية بغداد في 22 أبريل/نيسان الماضي نقطة تحول في العلاقات بين تركيا والعراق، إذ فرضت مجموعة من الشروط والالتزامات على الجانب العراقي، ووطدّت وشرّعنت الوجود العسكري التركي في الأراضي العراقية. وبالتالي، أطلقت يد الاستخبارات التركية في المدن العراقية وجعلت من التدخل التركي في الشؤون السياسية العراقية، بما في ذلك بناء وتشكيل التحالفات بين الكتل والأحزاب وتوزيع المناصب الإدارية في هذه المحافظة أو تلك، أمراً عادياً لا تعتبره بغداد تدخلاً في شؤونها الداخلية. بمعنى، أن يكون الحضور التركي السياسي والعسكري، أمراً واقعاً مسلماً به، على غرار الحضور الإيراني، وربما أكثر قبولاً من حيث التغطية وعدم إثارة الجدل الإعلامي حوله.
وقبل زيارة أردوغان لبغداد، كان فريق الرئيس التركي العسكري والدبلوماسي الجديد زار بغداد في 14 مارس/آذار الماضي. وضم الفريق كل من وزير الدفاع يشار غولر ووزير الخارجية هاكان فيدان ورئيس هيئة الاستخبارات إبراهيم كالين، والذي زار بغداد ورسم للعراقيين الخطوط العريضة لملامح العلاقات الجديدة بين البلدين، على بغداد أن تلتزم بها في خضم الإصرار التركي على تعزيز الوجود في الساحة العراقية وتحويل الحضور العسكري، سواء كان قواعد عسكرية أو توغلات برّية كبيرة، إلى واقع ملموس يخرج عن إطار التدخل/الاحتلال العسكري ويتحول، بمعية الحكومة العراقية وتشكيلات حلفاء أنقرة فيها، إلى «تعاون أمني ثنائي» بين البلدين!
وضمت حقائب الوزراء الأتراك الثلاثة حزمة من الإغراءات لنظرائهم في بغداد، وهي كلها «مشاريع» بقت على الورق. وعلى عادة تركيا، لم ولن تخرج من كونها وعود شفهية لا يمكن أن تترجم لوقائع، نظراً لكونها ستقوّي الموقف العراقي وتضعف أوراق الضغط التركية. وعلى رأس هذه الوعود، كان مشروع «طريق التنمية» الذي ما يزال في إطار الخيال المحض، والذي من المفترض أن ينقل بضائع الصين والخليج عبر سكك الحديد وشبكات الطرق (الجديدة التي ينبغي أن تبنيها وتشقها الشركات التركية طبعاًّ) من ميناء الفاو في البصرة عبر بغداد والموصل إلى تركيا ومن هناك إلى الدول الأوروبية. هذا بالإضافة إلى «مشاريع» اقتصادية وخدمية أخرى تراهن تركيا على الذاكرة العراقية المثقوبة والخلافات المزمنة بين الكتل السياسية في أن تبقى حبيسة الأدراج وحبراً على ورق.
وتعد «مجموعة التخطيط المشتركة التركية ـ العراقية»، التي هي في الأصل جزء من «اتفاقية الإطار الإستراتيجي للتعاون المشترك بين بغداد وأنقرة»، إحدى نتائج زيارة أردوغان لبغداد ووثيقة خرجت بها أنقرة لتضع الحكومة العراقية تحت سيف بنودها والالتزامات التي ضمنتها، وهي كلها خطوات عملية تتماشى وتتوافق مع استراتيجية تركيا في تعزيز المكاسب و«المسك بالأرض» عبر الاعتراف العراقي الضمني (السري، والمترجم في حالة التغاضي والتهدئة الحالية) بالوجود التركي كقواعد عسكرية وتوغل عملياتي، مع تنفيذ الحكومة العراقية لخطوات ملموسة في محاربة حزب العمال الكردستاني وفرض حظر كامل على ما تقول إنه تمظهراته.
ومن هنا، باشرت بغداد على الفور ترجمة ما يطلب منها من «التزامات»، فأصدرت قراراً في 23 يوليو/تموز الماضي صنفت فيه حزب العمال الكردستاني «منظمة محظورة»، وتعهدت فيه بالعمل على «فك ارتباط أي عناصر متورطة بالانتماء لحزب العمال ومنعها من مزاولة الوظائف الحكومية في البلاد». وكانت بغداد مهدت ذلك القرار بحملة إعلامية لتشويه سمعة حزب العمال الكردستاني، وتهيئة الأرضية للعمل الأمني ضده قالت فيها بأن الأجهزة المختصة اعتقلت أشخاصاً على صلة بالحزب كانوا يريدون تنفيذ أعمال تخريبية. ففي 1 يوليو/تموز الماضي، اعتقلت قوات الأمن العراقية ثلاثة أشخاص قالت إنهم كانوا يخططون لشن هجمات في أنحاء البلاد، بما في ذلك تفجير خط أنابيب رئيسي لتصدير النفط وإشعال حرائق!
وتناغمت الماكينة الإعلامية العراقية الرسمية مع وسائل إعلام في إقليم كردستان في بث أخبار تتحدث عن «مخططات» حزب العمال الكردستاني في التفجير هنا والحرق والتخريب هناك، والحديث عن سيناريوهات خلق فوضى ظهرت كلها معاً وفجأة بعد زيارة أردوغان وإبرام «الاتفاق الاستراتيجي العراقي-التركي». وفي 6 أغسطس/آب الماضي، أوعزت الحكومة العراقية للهيئة القضائية للانتخابات، عبر شكوى قدمت من جهاز الأمن الوطني، بحظر ثلاثة أحزاب هي: حزب الحرية والديمقراطية الإيزيدي، وجبهة النضال الديمقراطي الإيزيدي، ومجتمع كردستان، بحجة إنها مرتبطة بحزب العمال الكردستاني الذي حظرته في وقت سابق.
وبالاعتماد على الخطوات العراقية في اعتبار حزب العمال الكردستاني منظمة محظورة ومنع أحزاب عراقية مرخصة من العمل السياسي بحجة إنها مرتبطة بهذا الحزب، مع ضخ الإعلام للأخبار والسيناريوهات الكاذبة عن مخططات مزعومة للحزب لضرب الاقتصاد العراقي والقيام بعمليات تخريبية، كثفّت تركيا هجماتها التي تستهدف الكوادر السياسية والإعلامية الكردية، وزادت من قصفها مقار منظمات وجمعيات مدنية في العديد من البلدات والقرى داخل وخارج إقليم كردستان. ومن ذلك، القصف المستمر الذي يطال مخيم مخمور للاجئين الكرد، وجريمة قتل الصحافيتين الكرديتين هيرو بهاء الدين وكلستان تارا، في استهداف سيارتهما بواسطة طائرة بدون طيار في 23 أغسطس/آب الماضي في منطقة سيد صادق بمحافظة السليمانية.
ولم تكتف بغداد بالمضي قدماً في تقديم التنازلات من جانب واحد لتركيا وترسيخ خرق السيادة عبر التغاضي عن الاحتلال العسكري لمساحات شاسعة من محافظة دهوك والتدخل السياسي لأنقرة في الحكومة والمعارضة على السواء وممارسة «حق» تعيين مسؤولين وولاة إداريين هنا وهناك، بل ذهبت في اتجاه توطيد كل الخطوات والإجراءات التي نفذت منذ زيارة أردوغان في أبريل/نيسان الماضي عبر إرسالها وفداً رسمياً عراقياً لأنقرة في 15 أغسطس/آب الماضي، ضم كل من وزير الخارجية فؤاد حسين (القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني ومستشار الاستفتاء الفاشل على استقلال إقليم كردستان عام 2017 الذي انتهى بخسارة الإقليم 40% من مساحته لصالح الحكومة المركزية والمرشح المهزوم أمام برهم صالح في رئاسة العراق)، ووزير الدفاع ثابت العباسي، ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض. ووقع الوفد العراقي مع نظيره التركي مذكرة عرفت باسم «مذكرة التعاون الأمني بين العراق وتركيا»، عٌدت استكمالاً لما سمي «اتفاقية الإطار الإستراتيجي للتعاون المشترك بين بغداد وأنقرة» التي وقعها أردوغان مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أثناء زيارته بغداد في أبريل/ نيسان الماضي.
وجاءت المذكرة في عشر مواد ضمت كلاماً عاماً في تبادل الخبرات الأمنية والعسكرية والتدريب والاستشارة والتنسيق الاستخباراتي وافتتاح معسكرات تدريب مشتركة. لكن الأهم هو التنسيق في مواجهة حزب العمال الكردستاني، والذي تفهمه أنقرة بأنه ترسيخ لحضورها العسكري في العراق عبر شرعنة وجود عشرات القواعد العسكرية الموزعة في إقليم كردستان ومناطق من محافظة الموصل، وحرية القصف والاغتيال والتخريب، وضمان الصمت العراقي فيما يخص التوغل العسكري لعشرات الكيلومترات داخل الأراضي العراقية. ورغم أن أحد البنود أشار إلى ضرورة تسليم الجانب التركي القيادة والسيطرة في قاعدة «زليكان» التركية في بعشيقة شرق محافظة نينوى، إلا أن الأمر يظل غير قابل للتطبيق في ظل تمسك الجانب التركي بكل ما يعتبره «مكاسب» و«أوراق ضغط» تبقي الجانب العراقي ضعيفاً ومكشوفاً وتمكّن أنقرة من فرض إرادتها على بغداد. و«زليكان» قاعدة كبيرة تضم مئات الضباط والجنود ومدارج هبوط طائرات مروحية وعربات مدرعة وأسلحة ثقيلة كانت تركيا أنشأتها في أكتوبر/تشرين الأول 2014 مستغلة حالة الفوضى عقب هجوم تنظيم داعش وسيطرته على مدينة الموصل بعد هزيمة قوات الجيش العراقي.
ومن اللافت تركيز الجانب التركي على هيئة الحشد الشعبي والعمل على ضمها كجهة مستقلة إلى كل الاتفاقات المبرمة بين الحكومتين في أنقرة وبغداد. ومن هنا، كانت الوفود التركية الزائرة لبغداد تشترط حضور فالح الفياض الاجتماعات مع ممثلي الحكومة من وزراء دفاع وخارجية وداخلية. وحضر الفياض مع الوفد العراقي الزائر لأنقرة وشهد توقيع مذكرة التعاون الأمني. ويأتي هذا التطور ضمن القراءة التركية في وجوب احتواء الحشد الشعبي عبر إشراكه في كل التفاهمات وفتح خطوط اتصال معه، وبالتالي ضمان موافقته على الخطوات والإجراءات القادمة وعدم عرقلتها، في محاولة من أنقرة للحصول على نتيجة أفضل تذهب في ضبط الحشد الشعبي لبعض فصائله المعادية للوجود العسكري التركي، لا سيما أن تركيا تتهم فصائل محددة داخله بالمسؤولية عن الهجمات الصاروخية التي طالت «زليكان» في بعشيقة ومقر القنصلية التركية في الموصل.
وضمت الاتفاقيات الموقعة بين أنقرة وبغداد، تلك التي تهتم بإدارة الموارد المائية. وهي أيضاً اتفاقات ضبابية وغير محددة ومؤطرة بالأرقام والتواريخ التي تلزم أنقرة بمنح العراق حصته من مياه نهري دجلة والفرات وعدم التحكم في الإطلاقات المائية، فضلاً عن تخليها عن رفضها الدائم والمستمر في اعتبار كل من دجلة والفرات نهرين دوليين. وتحدثت الاتفاقات عن «التعاون في إدارة المياه» ومساهمة الشركات التركية في البنى التحتية لمشاريع الري وحسن إدارة المياه وتوزيعها على قطاعات الزرعة والإرواء ومد شبكات مياه الشرب. وأدى حجب تركيا لمياه دجلة والفرات عن كل من العراق وسوريا في الأعوام الماضية إلى تعرض العراق لحالة جفاف وتصحر كبيرة وفقدان العراق 60 في المئة من الأراضي الزراعية المروية بالأنهار. وتقول وزارة الموارد المائية العراقية إن البلاد تفقد كل عام 100 كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية نتيجة التصحر، وإن موجات الجفاف الشديد المتوقعة حتى عام 2025 ستؤدي إلى جفاف نهر الفرات بشكل كامل في قطاعه الجنوبي، بينما سيتحول نهر دجلة إلى مجرى مائي بموارد محدودة، ما يعني تهديد حياة ملايين العراقيين. وكان حجب تركيا حصة العراق من مياه دجلة والفرات وإصرارها على تعطيش بلاد الرافدين وتجفيف بساتينها السبب في إنهاء «المجلس الأعلى للتنسيق بين العراق وتركيا»، والذي وقع على تأسيسه رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي مع أردوغان خلال زيارته لأنقرة في سبتمبر/أيلول 2007. ورغم وجود بروتوكولات أمنية واقتصادية وتجارية وسياسية وثقافية وعسكرية، أتاحت للجيش التركي التوغل بعمق 35 كم داخل الأراضي العراقية، إلا أن رفض تركيا تطبيق البروتوكول الخاص بالمياه أفشل الاتفاق وأودى بكل «المجلس الاستراتيجي».
كما أن أنقرة ما تزال ترفض فتح أنبوب تصدير النفط من كركوك عبر ميناء جيهان التركي المغلق منذ 25 مارس/آذار 2023 واستئناف ضخ التدفقات النفطية التي أوقفتها تركيا، والتي كانت تبلغ 450 ألف برميل يومياً (ساهم الإغلاق في خسارة العراق منذ ذلك الحين حوالي 12 مليار دولار)، بسبب حكم أصدرته غرفة التجارة الدولية وأمرت بموجبه تركيا بدفع تعويضات للعراق تصل إلى نحو 1,5 مليار دولار عن الصادرات من إقليم كردستان، وهو ما رفضت وترفض أنقرة تنفيذه والالتزام به.
وهكذا، فإن ميزان الربح والخسارة في العلاقات الجديدة بين كل من تركيا والعراق يميل إلى صالح تركيا تماماً. فأنقرة هي التي تربح وتجني على الأرض ولا تقدم أي تنازلات حيوية قد تضعف من موقفها وتقوّي من موقف الجانب العراقي. والواضح أن الملف العراقي المطروح على الطاولة التركية مليء بالثغرات ونقاط الضعف التي يمكن النفاذ منها واستغلالها لتعزيز المكاسب التركية وتوطيد حضور ونفوذ أنقرة في كامل المساحة العراقية. ورغم توجهها للحكومة المركزية وعقدها الاتفاقات والتفاهمات معها، إلا أن أنقرة لا تنسى الأطراف والقوى المحلية المؤثرة في المشهد العراقي. فهي تزيد من شد حبل التحالف مع من تعتبره حليفاً، مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني والجبهة التركمانية وبعض الجماعات السنيّة، بينما تحاول تحييد القوى الشيعية المؤثرة، وخصوصاً تلك المسلحة ذات النفوذ مثل الحشد الشعبي، بينما تذهب في حصار القوى التي لا ترضخ لسياساتها في التدخل وخلق توازنات لصالحها، كما تفعل مع الاتحاد الوطني الكردستاني مثلاً.
تحاول أنقرة فرض واقع جديد تنجح من خلاله في دفع الحكومة العراقية إلى قبول حقيقة خرق السيادة والاحتلال التركي وتحويلهما إلى اتفاقات رسمية مدموغة بختم الشرعية العراقية وتحويل القواعد العسكرية التركية والتوغل العسكري إلى شيء يسمى «تعاون أمني بين بلدين». ويكون هذا «التعاون الأمني» الغطاء الذي يتيح لآلة الجيش التركي البقاء وتحصين القواعد العسكرية، وللاستخبارات التركية الرصد وتنفيذ عمليات الاغتيالات والتصفية بحق الإعلاميين والسياسيين والنشطاء الكرد بتهمة التعاون مع حزب العمال الكردستاني. أما الملفات المهمة للعراق، كشعب وأرض، مثل السيادة وحماية الوحدة الوطنية من العبث الخارجي وضمان الأمن المائي والحيلولة دون التبعية الاقتصادية للجوار، فيتم التغاضي عنها أو تبقى في نطاق المسكوت عنه عراقياً، في ظل محاولات بغداد الفاشلة في «تهذيب» سلوك جارتها. وتحتفظ أنقرة بالملفات المهمة وتعتبرها أوراق ضغط تستخدمها في قلب التوازنات الداخلية العراقية وفي تشديد الحصار المائي والاقتصادي والعسكري. وكل ذلك لتحويل العراق إلى حديقة خلفية وبلد مستباح لتركيا، في ضوء الطموحات/المشاريع الكبرى مثل: الميثاق الملي، الذي يشق نصف الخارطة العراقية الحالية، مقتطعة نينوى وكركوك وأربيل والسليمانية ودهوك وضمها لتركيا الكبرى. وحتى ذلك الحين، يبقى الهدف الذي لا تحيد عنه أنقرة هو ضرب حزب العمال الكردستاني ومحاولة منع انتشار فكره بين فئات ومناطق الشعب الكردي وبقية المكونات في إقليم كردستان وعموم العراق.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد