المسألة القومية – الوطنية في سوريا : قوميات في وطن

محمد سيد رصاص

تمت صناعة الكيان السياسي الدولتي السوري من قبل الدوائر البريطانية والفرنسية في اتفاقية سايكس- بيكو عام 1916، وعندما قرر مؤتمر سان ريمو في أبريل/ نيسان 1920 نقل هذه الاتفاقية إلى حيز التنفيذ كان المقصود حدود سوريا الحالية مع فلسطين والأردن الحاليين ومع متصرفية جبل لبنان من دون الأقضية الأربعة ( بعلبك- البقاع- راشيا- حاصبيا) التي كانت ضمن ولاية دمشق العثمانية، وكذلك كان المقصود حدود تركيا مع سوريا التي رسمتها معاهدة سيفر في آب / أغسطس 1920، وعلى الأرجح أن مقررات سان ريمو تم الإسراع في إصدارها  لتنفيذ سايكس- بيكو من أجل إفشال ماقرره المؤتمر السوري العام  من إنشاء (المملكة السورية) بالشهر السابق والتي شملت فلسطين وكامل لبنان والأردن .

الفرنسيون عندما سيطروا على دمشق وباقي سوريا الحالية في تموز/ يوليو 1920 فإن هذا كان بموجب صك انتداب أعطته عصبة الأمم لهم التي تنص المادة 22 من ميثاقها الخاص بالانتداب بأن الدولة المنتدبة تملك صلاحيات إدارية على الجغرافية والسكان فقط وليست صلاحيات سيادية، وبالتالي لايحق لها الاقتطاع والتأجير والتجزئة للأرض والسكان في المنطقة الجغرافية التي تتولى الانتداب عليها. الفرنسيون تقيدوا بالمادة 22 تلك عندما رسموا حدود سوريا مع الدولة العثمانية في معاهدة سيفر، ولكنهم نقضوا المادة 22 عندما أعطوا الأقضية الأربعة لدولة لبنان الكبير في أيلول/ سبتمبر1920 وعندما أعطوا للأتراك الموالين لمصطفى كمال (أتاتورك لاحقاً) في اتفاقية أنقرة عام 1921 مساحة 18 ألف كيلومتر مربع من أراضي سوريا المنصوص عليها بمعاهدة سيفر، ونقضوها ثالثاً عندما قاموا بتجزئة سوريا إلى أربع دول بين عامي 1920 و 1923 حيث تم إنشاء دولتي دمشق وحلب ( وحدًهما الفرنسيون عام 1925) ودولة السويداء ( أسميت عام 1927: دولة جبل العرب) ودولة جبل العلويين (أسميت عام 1930: دولة اللاذقية)، ثم وافق الفرنسيون على توحيدهم جميعاً في الدولة السورية وفق معاهدة 1936، ثم عاد الفرنسيون لممارسة الاقتطاع من الأرض السورية للغير عندما وافقوا بين عامي1937 و 1939 على سلخ لواء الاسكندرون من الأرض السورية  وضمه إلى تركيا.

عملياً، هذا يجعل سوريا كياناً سياسياً مصنوعاً من الغير، فيه جغرافيا كانت متحركة بين عامي 1920 و 1939، وسكان وجدوا أنفسهم يخضعون لعملية تجزئة بين عامي 1920 و 1936، ثم توحيد في عام 1936 وفق معاهدة مع دولة خارجية ولكن هي دولة الانتداب، ثم كان الاستقلال وجلاء الفرنسيين عام 1946 وفق حدود دولة معاهدة 1936 ولكن من دون لواء الاسكندرون، وهو استقلال وفق كثير من المؤشرات كان ناتجاً أساساً عن الاتجاه البريطاني لإخراج أوتهميش الوجود الفرنسي في المنطقة، وعن توظيف قيادات سياسية سورية لهذا التناقض بين لندن وباريس من أجل الوصول إلى جلاء الفرنسيين عن سوريا.

كل ما سبق قاد إلى إنشاء علاقة ملتبسة بين السكان السوريين وبين الجغرافيا السورية، فالدمشقي كانت علاقته حتى عام 1948 مع حيفا وحتى فك الاتحاد الجمركي مع لبنان عام 1950 مع بيروت، ومع عمّان حتى 1946، ومع مكة والمدينة والقاهرة حتى الأربعينيات، أقوى من علاقاته مع حلب واللاذقية ومنطقتي الفرات والجزيرة. والحلبي في الفترة العثمانية كان القناة التجارية بين اسطنبول والأناضول وبين الموصل وبغداد وكان الميناء الرئيسي عنده هو الاسكندرونة، وكانت علاقة حمص وطرابلس وثيقة اقتصادياً، وعلاقة منطقة الساحل السوري الحالي كانت قوية مع طرابلس وبيروت وأنطاكيا، والكردي السوري في عفرين كانت علاقته قوية بمنطقتي كيليكيا ولواء الاسكندرون وأقل منها مع حلب، وهو ما ينطبق على بلدات ( أو البلدات القريبة منه) شريط خط حديد الراعي- القامشلي حيث علاقتها الاقتصادية – الاجتماعية  بالشمال أكثر من الجنوب تاريخياً. ولكن هنا يجب ذكر حالة الراحل حميد درويش منذ تأسيسه للحزب الديمقراطي الكردي التقدمي بالسبعينيات ومقولته أن (القضية الكردية السورية تحل في دمشق) ، وهو ما توافق عليه الآن كل الأحزاب الكردية القومية السورية، وأيضاً حالة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD- تأسس عام 2003) الذي يطرح مفهوم الأمة الديمقراطية التي تستوعب كل التنوع السوري في إطار كيان جغرافي – سياسي- دولتي  يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات بغض النظر عن القومية والدين والطائفة والجنس والجهة والاتجاه السياسي،  حيث تقول هاتين الحالتين وتوحيان بأن الاتجاه الاندماجي عند الكرد السوريين هو الأقوى.

ما سبق يمكن أن يفسر شعور الكثير من السوريين العرب بأن سوريا هي قميص جغرافي ضيق عليهم، و يفسر اتجاه حزب الشعب، الذي تأسس عام 1948 وكانت قاعدته الاجتماعية الأساسية عند التجار والصناعيين الحلبيين، نحو الاتحاد مع العراق، أو اتجاه الحزب الوطني، الذي تأسس عام 1947 وقاعدته الاجتماعية دمشقية، نحو مقاومة الاتحاد مع العراق مفضلاً الاستناد لظهر عربي في القاهرة أو الرياض ولم يكن لزعيمه رئيس الجمهورية شكري القوتلي، أو لرئيس الوزراء منه صبري العسلي، مانعاً من الوحدة مع مصر عام 1958 وهو ما تلاقيا فيه مع عروبيي حزب البعث ومختلف الطيف القومي العروبي. ويمكن لهذا الشعور بالقميص الجغرافي السوري الضيق عند أغلبية من السوريين العرب في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، إضافة للشعور بالخطر من دولة اسرائيل بعد قيامها عام 1948، أن يفسرا قوة العروبة في سوريا، وهو ما لم توجد درجة قوة تضاهيها في أي بلد عربي آخر.

ولكن الاتجاه القومي العروبي لم يصبح مهيمناً في الخريطة السياسية السورية إلا منذ عام 1958 وهو الذي أمسك السلطة في دمشق منذ ذلك العام، ماعدا فترة الانفصال 1961-1963،  ويلفت النظر هنا أن الاتجاه نحو بناء حركة سياسية قومية كردية قد بدأ عام 1957 مع تأسيس أول حزب كردي سوري، ولا يمكن تفسير هذا إلا كردِّ فعل على  صعود الاتجاه العروبي وعلى  ظهور ملامح لتداعي الاتجاه الليبرالي، ممثلاً في حزبي الشعب والوطني، وهما قد بحثا لعقد من الزمن عن بيت وطني سوري مشترك، ولو أن حزب الشعب كانت عروبته إقليمية وذات طابع اقتصادي عندما طرح وحدة (الهلال الخصيب) مع العراق ثم انجر ضده الحزب الوطني طارحاً عروبة وقائية – ضدية رآها الدمشقيون في ظهيري القاهرة والرياض أكثر منها ذات طابع أيديولوجي لمنع ما أراده حزب الشعب الذي عبًر عن الميول الحلبية الاقتصادية نحو سوق بلاد الرافدين بعد انسداد الطريق الأناضولي- الاسطنبولي منذ عام 1918.

وعملياً، في سوريا لم تظهر ميول سياسية قومية سوى عند العرب والكرد، أما الأرمن فكانت نزعتهم القومية في سوريا مرتبطة بوضع جمهورية أرمينيا وصراعاتها مع تركيا وأذربيجان ومن أجل الحفاظ على الهوية واللغة في المنفى وليس لأمر يخص الوضع السوري، فيما يلفت النظر بروز اتجاهات قومية عند بعض تركمان سوريا بعد أزمة 2011 ومع بروز الدور التركي في رعاية بعض قوى المعارضة السياسية السورية وبعض الفصائل المسلحة. وكل المؤشرات تدل على أن من وضع نفسه منهم في خدمة أنقرة فقد أصبح أداة أكثر منهم أصحاب مشروع قومي خاص في سوريا.

ربما، هنا أن فقدان الحزب الشيوعي للمكانة الأقوى منذ أوائل الثمانينيات في الوسط الاجتماعي الكردي السوري لصالح الأحزاب الكردية القومية، وخاصة في منطقة الجزيرة من دون الوسط الكردي الدمشقي، قد أعطى مؤشرات أولية على بروز القضية القومية الكردية في سوريا للسطح، ثم أعطت انتفاضة آذار 2004 صورة عن غليان اجتماعي – سياسي عند الكرد، ثم جاء دور الكرد السوريين في سوريا ما بعد أزمة 2011 ليظهر أنهم قد أصبحوا الرقم الصعب في المعادلة السورية القادمة، وأنه لا يمكن رسم سوريا المستقبل، سواء في مرحلة الانتقال أوفي مرحلة التغيير التي تتلوها، من دون مشاركتهم.

هذا البروز للدور الكردي السوري يأتي بعد أن وصلت سوريا إلى مرحلة أزمة وطنية عامة منذ عام 2011 بعد نصف قرن من حكم الاتجاه العروبي، وعام 2011 هو عام مفصلي في التاريخ السوري مثل عام 1958، حيث ظهر من خلال حكم الانفصال 1961-1963 أنه لا يمكن إرجاع عقارب الساعة السورية إلى الوراء لما قبل يوم الوحدة السورية – المصرية في 22 شباط/ فبراير 1958، وثلاثة عشر عاماً ونصف من الأزمة السورية منذ بدئها في درعا 18آذار/ مارس 2011 تدل على أنه لا يمكن الرجوع إلى يوم 17 آذار / مارس 2011، ولكن تلك الأعوام السورية من عمر الأزمة تدل على أنه كما لم يمكن الرجوع للقديم فإن سوريا الجديدة قد تعثرت ولادتها، وهذا هو التوصيف الوصفي للأزمة السورية التي أصبحت أزمة داخلية- اقليمية- دولية، بعد أن لم يستطع السوريون في ستة أشهر الأولى من بدئها الاتفاق على حل سوري داخلي للأزمة ليصبح الخارج الدولي- الإقليمي هو الأكثر فاعلية في الأزمة السورية أكثر من السوريين.

وفق مؤشرات كثيرة دولية وإقليمية واتجاهات يمكن تلمسها عند الكثير من السوريين في مواقعهم المتعددة زمن الأزمة ، فإن المرجح أن يكون حل الأزمة السورية متضمناً تعريفاً جديداً للبيت الوطني السوري ، لن تعطى فيه صفة هوية قومية لهذا البيت، بل ستكون القومية حالة  خاصة بالجماعة القومية هي أقرب إلى الهوية الحضارية- الثقافية لها، وإن انفرز منها اتجاهاً سياسياً قومياً فهذا سيكون أيديولوجية لحزب أو حركة وليس لبلد مهما كان أفراد هذه القومية هم الأكثرية السكانية للبلد، ما دام هناك قوميات متعددة في البلد مهما كان عددها ومادام هناك فئات واسعة من أفراد القومية الكبرى لا يرون أن حل المسألة القومية – الوطنية للبلد يمكن أن يتم عبر فرض الهوية القومية الخاصة بالأكثرية القومية على البلد، بل عائقاً في إنشاء وطن تعيش فيه قومياته المتعددة ضمن مبدأ المساواة السياسية في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين مع حقوق ثقافية – لغوية خاصة لكل جماعة قومية، كبيرة أم صغيرة، وحرية هؤلاء في علاقات ثقافية مع أبناء قوميتهم خارج الحدود، وعلى الأغلب أن هناك درساً سورياً كبيراً يجب تعلمه من ما جرى بأعوام 1958-1961، عند التفكير السوري في رباط اقتصادي أو سياسي مع دولة أو دول عربية، من حيث أن هذا  يجب أن يكون من خلال إجماع وطني أو أكثرية يحدد نسبتها الدستور، وليس كما جرى في وحدة 1958 عندما ظهرت بسنوات الوحدة الثلاث وسبعة أشهر وفي فترة الانفصال مؤشرات كم كان فيها من السوريين الذين لم يستطيعوا بلسانهم ويدهم التعبير عن موقفهم في عدم القبول بنشوء دولة الوحدة السورية – المصرية ، أو بطريقة الإنشاء ، أو بالنظام السياسي لدولة الوحدة، وكيف انهارت، بالمآل، هذه التجربة الوحدوية بسهولة  نتيجة لعوامل داخلية أساساً  وليس خارجية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد