شورش درويش
ورث الرئيس الإيراني الإصلاحي مسعود بزشكيان طائفة من المشكلات الداخلية والخارجية بعد وقت قليل من خلافته لسلفه الراحل إبراهيم رئيسي. فوق ذلك، ورث الكثير من المشكلات الحدودية مع جيرانه. فالأزمة المائية الناجمة عن السدود التركية على نهر آراس ما تزال تؤرّق طهران. والمشكلات الأمنيّة مع جمهورية أذربيجان ومتانة التحالف بين باكو وتل أبيب وصعود الأنفاس القومية التركية في أذربيجان لاتزال تلقي بظلالها على الداخل الإيراني في أذربيجان الغربية. كذلك، ساءت العلاقات مع باكستان على خلفية القصف المتبادل بينهما مطلع العام الجاري، فيما تراوح علاقاتها مع جوارها العربي مكانها حيث الشكوك المتبادلة والمخاوف العربية الخليجية المتصلة بالنزعة التوسّعية الإيرانية رغم نجاح الوساطة الصينية بين طهران والرياض في ردم جزء من الهوّة الواسعة بين البلدين.
من جملة المشكلات الحدودية تبرز التوترات الإيرانية مع كردستان العراق والهجمات العسكرية الإيرانية عبر الحدود أو من داخل العراق بالاستناد على فصائل في الحشد الشعبي ودائماً عبر استخدام الصواريخ البالستية والمسيّرات. تبني طهران هجماتها على مزاعم تتمثل بإيواء أربيل لخلايا الموساد الإسرائيلي، أو تتذرع بضرورة ضرب معسكرات الأحزاب الكردستانية المتواجدة على أراضي الإقليم الكردي حماية لأمنها القومي، رغم حالة «السلام المسلّح» والسكون السائد بين الجمهورية الإسلامية والأحزاب الكردية الإيرانية ونزع سلاحها الثقيل مؤخّراً وإغلاق 77 مقراً لتلك الأحزاب. كل هذه المسائل تمثّل تحديات مباشرة للسياستين الكردية والإيرانية على السواء. وبالرغم من امتلاك طهران الخبرة الكافية للتعاطي السلمي مع كردستان العراق واحتفاظها بعلاقات ودّية متفاوتة مع الأحزاب الكردستانية، إلّا أنها آثرت الاحتكام للغة السلاح والتهديد، أو جعلت من الإقليم الكردي صندوق بريد وضعت فيه رسائلها الموجّهة للولايات المتحدة.
داخل الأجواء الملبّدة بغيوم وتداعيات السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحرب غزّة، كانت طهران بحاجة إلى إبداء شيء من المرونة في الداخل والخارج وإلى اختبار سياسات إصلاحيّة ضرورية بعد عهد مديد من السياسات المتشدّدة، ذلك أن منسوب الخطر الخارجي على الجمهورية الإسلامية ما يزال مرتفعاً، في حين أن المخاطر الداخلية تبدو قائمة على الدوام، بالنظر إلى تنامي الحركات الاحتجاجية وظهورها المتقطّع. ثمة علاقة واضحة بين الخارج والداخل في الدول ذات التوجّهات الإمبريالية كما في حالة إيران، إذ إن تنامي الخطر الخارجي يحفّز القوى القومية داخلها، الكردية والأذرية والعربية، على تحقيق شيء من تطلّعاتها القومية ويدفع بالجماعات المعارضة على تكثيف أنشطتها داخل إيران، رغم تمييز هذه القوى والجماعات السياسية بين مسألتين: قوّة النظام الحقيقية وتماسكه الأمني والعسكري في مواجهة خصومة الداخليين، في مقابل هشاشة الواقع الإثني والاقتصادي الذي يشي بضعف البنية الاجتماعية للنظام.
ثمة تطلّعات كردية متفائلة تسعى لأن تكون فترة رئاسة بزشكيان محطة وئامٍ نسبية في مسيرة العلاقات الكردية الإيرانية بالشكل الذي يمهد لحالة من السلام داخل إيران وخارجها، ذلك أن الرئيس الإصلاحي القادم من خلفيّة عائلية كردية لجهة الأم والمولود في محافظة مهاباد بمقدوره بث رسائل طمأنة لاسيما تلك التي تكون باللغة الكردية التي يتقنها. غير أن هذا الاحتفاء برئيس نصف كرديّ وناطق بالكرديّة قد تصطدم على الدوام بقوّة حضور الاتجاه المحافظ المتنفّذ في الجمهورية الإسلامية، إذ لا تكفي مواصفات الرئيس التي تلفت انتباه الكرد إليها أو حتى تعيينه لكرديّ (سنّي) نائباً له لشؤون التنمية الريفية والمناطق المحرومة أو أن يهتف بنفسه «تحيا كردستان». فهذه المسائل على جدّتها قد لا تشير إلى تغيير جوهريّ في عقيدة النظام الإيراني، ذلك أن المطلوب بعيد عن هذا الجوّ المشهديّ، وهو إرساء عملية سلام جدّية بين إيران وكردها من جهة، وأن تمضي العلاقة مع كرد جوارها على قاعدة الاحترام المتبادل بدل لغة السلاح والوعيد.
أضفت زيارة بزشكيان الأخيرة لأربيل والسليمانية طابعاً خاصاً لنظرته للعلاقة بالإقليم. لكنّ الزيارة أيضاً جاءت لتؤكّد على حضور إيران في كامل العراق بما في ذلك إقليم كردستان بعد أن توغّلت تركيا داخل أراضي الإقليم وأقامت عشرات القواعد العسكرية ونقاط التفتيش. بهذا المعنى، فإن زيارة بزشكيان ولقائه مع رئيس الإقليم نجرفان البارزاني ثم لقائه رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني بافل الطالباني في السليمانية إنما كانت رسالة ناعمة لتركيا التي تعمل بصخب داخل الإقليم ومفادها أن المصالح الإيرانية داخل الإقليم يجب أن تصان، وأن طهران تحتفظ بعلاقات ليس بمقدور الدبابات والمسيّرات والحشود العسكرية التركية قطعها بسهولة أو مصادرتها.
إلى ذلك، يعقد الكرد عند تناولهم طبيعة السياسة الإيرانية تجاههم مقارنات لا تخلو من التبسيط بين كلٍّ من إيران وتركيا. وبطبيعة الحال، يميل المزاج الكردي إلى تفضيل إيران بمقدار طفيف على تركيا لاعتبارات قائمة على سرديات الأصل الإثني المشترك والجواذب الثقافية واللغوية المشترك وقلة الحساسيّة الإيرانية تجاه الهويّة الكردية قياساً لتركيا، وهو ما أكّدته تصريحات بزشكيان بالكردية. ويضاف إلى ذلك، قدرة طهران على خط سياسات استيعابية تجاه الكرد عبر إقامة علاقات دبلوماسية مع كافة الأفرقاء الكردستانيين. غير أن هذه النظرة الكردية غير دقيقة، أو لنقل أنها تفتقر للقراءة الموضوعية، ذلك أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ورثت عن شاهنشاهية محمد رضا بهلوي القدرة على التعاون مع الكرد خارج الحدود ودعمهم في الكثير من الأوقات، في مقابل الإصرار على قمع حركتهم السياسيّة في الداخل والتعامل بمنطق القسوة المفرطة معهم والتي تشير إليها عمليات الإعدام المتواصلة بحق المناضلين الكرد.
يبقى أنه أمام بزشكيان فرصة لجبر خواطر القوى الكردستانية وتقريبها لطهران عبر اتباعه نهجاً جديداً أكثر احتراماً لسيادة الإقليم بخلاف سياساتها السابقة، وبالعكس من جموح أنقرة وتوغلها العسكري داخل الإقليم. كما أن عليها أخذ تعهدات رئيس الإقليم وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني بعدم استخدام أراضي الإقليم كقاعدة لتهديد «الأمن القومي الإيراني» بجدية، على عكس تركيا التي لا تقيم وزناً للتعهدات الكردية. لكنّ الأهم، أن تسعى السليمانية وأربيل إلى إيجاد صيغة سلام ممكنة بين طهران والأحزاب الكردستانية الإيرانية بعيداً عن لغة تفكيك المعسكرات الكردية الإيرانية في كردستان العراق على طريقة تفكيك حكومة نوري المالكي معسكرات «مجاهدي خلق»، وبعيداً أيضاً عن صيغة الحوار لمرة واحدة على طريقة الحوار مع الزعيم الكردي عبدالرحمن قاسملو والتي انتهت باغتياله. داخل هذين البعدين، قد يكون من مصلحة بافل الطالباني ونجرفان البارزاني اتباع نهج جديد يساهم في تخفيف حدّة السياسات الإيرانية التدخّلية والتي قد تؤدّي إلى إعادة انتاج معاهدة «قصر شيرين» مُحدثة على أراضي الإقليم بين تركيا وإيران. ولعل وجود بزشكيان في سفح السلطة الإيرانية يمثّل فرصة لا يمكن التحقّق من أهميتها لإعادة إيران النظر في سياساتها تجاه مواطنيها الكرد وكرد الجوار.
ويبقى كل تفاؤل مرهوناً بقدرة بزشكيان والقوى الإصلاحية في إيران على انتهاج سياسة أكثر انفتاحاً وتفهّماً لمطالب الكرد. والأهم، صمود تلك السياسات أمام الإيديولوجية الرسمية للنظام. وفي ذلك تكمن الكثير من الشكوك، حيث من المحتمل أن تكون فترة حكم الرئيس الحالي استراحة إصلاحيّة بين زمنين يغلب عليهما التشدّد أكثر من كونه نهجاً إيرانياً جديداً.