غوامض في التاريخ السياسي السوري

محمد سيد رصاص

يمكن الاستنتاج من طريقة سرد رئيس الوزراء السوري خالد العظم لما جرى معه في 30 مارس/آذار 1949 عندما حصل انقلاب حسني الزعيم وأخذه العسكر من فراشه حافياً وكيف وقع على الدرج ولم يسمحوا له باستعادة نظارتيه، أن ذلك الحدث ترك الكثير من الارتكاس النفسي عنده. وعلى الأرجح، وهو الذي عاد وتولى رئاسة الوزارة السورية أكثر من مرة بعد إعدام الزعيم في أغسطس/آب 1949، أنه بحث ونقّب، وهو الذي يملك علاقات دولية وإقليمية واسعة، عن أسرار انقلاب الزعيم. ولكن عندما نقرأ مذكراته، وهو الذي تركها مخطوطة عندما توفي عام 1965 منفياً في بيروت ثم نشرت عام 1971، لا نجد أكثر من شكوك غائمة عنده وغير واضحة المعالم تجاه ما جرى في ذلك اليوم، إذ يقول: «ولا أستبعد وجود أيدٍ أجنبية سعت إلى قلب الأوضاع في سوريا. ولئن كان من الصعب إثبات هذا الأمر بأدلة محسوسة، فإن تطور الحوادث السابقة واللاحقة تسمح بالشك في ذلك» (مذكرات خالد العظم، المجلد الثاني، ص186 ، الدار المتحدة للنشر، بيروت، 2003). وهو شك عام لا يتجه نحو جهة مخصوصة، أكانت دولية أو إقليمية.
وعندما نشر مايلز كوبلاند، مدير محطة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في دمشق عام 1949 وهو الذي كان مغطى بمنصب الملحق الثقافي بالسفارة، كتابه «لعبة الأمم» في نيويورك عام 1969 وكشف فيه عن الدور الأميركي في انقلاب الزعيم، فإن هذا أثار الانتباه عند الكثيرين مع صدور الطبعة العربية للكتاب في العام التالي في بيروت. ولكن الكتاب استخدم يومها أساساً من كارهي الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ومازال الأمر هكذا بعد أكثر من نصف قرن، كمادة لإثبات الصلات الأميركية بانقلاب 1952 في مصر الذي أرادته الولايات المتحدة – بحسب كتاب كوبلاند –  ليكون وسيلة لبدء اقتلاع النفوذ البريطاني في المنطقة. ويشير الكتاب إلى أن هذا الاقتلاع كان فصله الثاني عام 1953 في طهران عبر الانقلاب الذي خططت له واشنطن ضد رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق، حليف حزب توده الشيوعي، كضربة وقائية لمنع وقوع إيران بيدي الكرملين.
كان دور كوبلاند في فتح الأسرار الأميركية الخاصة بالشأن السوري أقل من دور دوغلاس ليتل، أستاذ التاريخ في جامعة كلارك بمدينة وورشستر بولاية ماين الأميركية، عندما نشر بحثاً في المجلة الفصلية «ميدل إيست جورنال» شتاء 1990 (ص51-75) بعنوان «الحرب الباردة والعمل السري: الولايات المتحدة وسوريا 1945-1958»، اعتمد فيه على الوثائق الأميركية السرية من عهدي الرئيسين هاري ترومان 1945-1953 ودوايت أيزنهاور 1953-1961 التي سمح قانون المعلومات الأميركي بفتحها أواخر الثمانينيات. وهي تشمل مئات الصناديق من مراسلات وبرقيات سرية ذات طابع ديبلوماسي للخارجية، أو ذات طابع استخباراتي. والأولى صنفت تحت رمز «NARG59» والثانية «NARG84». بحسب الوثائق التي يعرضها ليتل، فإن رجل عمليات محطة الاستخبارات المركزية الأميركية ستيفن ميد، والذي كان يغطى بمنصب مساعد الملحق العسكري بالسفارة الأميركية في دمشق ، بدأ الاتصالات مع حسني الزعيم من دون علم السفير جيمس كيلي، وذلك منذ نوفمبر/تشرين الثاني 1948 حتى يوم الانقلاب. وكان الهدف «دراسة إمكانية إقامة ديكتاتورية مدعومة من الجيش» (ص55). ولاحظ أن الزعيم «يشبه نموذج ديكتاتوريي جمهوريات الموز» (55) في أميركا اللاتينية مع «عداء قوي للسوفييت» (55). يورد ليتل في نفس الصفحة خلفيات بدء اتصال ميد مع الزعيم المتمثلة في قلق أبداه وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال في أغسطس/آب 1948 بشأن «مؤشرات جدية لتقاربات سوفياتية – سورية ورفض الرئيس القوتلي لعرض الهدنة مع إسرائيل وعرقلة البرلمان السوري لمشروع مد خط النفط التابلاين من السعودية – الأردن- سوريا- لبنان» حيث طالب البرلمانيون السوريون بأن يكون مصب الخط في الساحل السوري بدل اللبناني، وزاد البرلمانيون من تصلبهم بعد حرب 1948 مع إسرائيل والموقف الأميركي المؤيد لها

من اللافت أن حسني الزعيم أسرّ للسفير الأميركي كيلي في أبريل/نيسان أن «سوريا تفكر في توطين 250 ألف لاجىء فلسطيني في منطقة الجزيرة عند الحدود مع العراق».

وقع الزعيم على اتفاقية التابلاين في مايو/أيار 1949 وعلى اتفاقية الهدنة مع إسرائيل في يوليو/تموز. وكانت سوريا آخر المهادنين بعد مصر والأردن ولبنان. ولكن من اللافت للنظر أن الزعيم أسرّ للسفير الأميركي كيلي في أبريل/نيسان أن «سوريا تفكر في توطين 250 ألف لاجىء فلسطيني في منطقة الجزيرة عند الحدود مع العراق» (ليتل، ص57) وهو ما يوحي بأن الزعيم كان يريد أبعد من اتفاقية هدنة مع إسرائيل، وهو مالم تكشفه وثائق ليتل، بينما يكشفه، ولكن بدون وثائق، كتاب صدر عن جامعة تكساس عام 2015 للباحث إيلي بودي بعنوان «فرص للسلام» حيث يشير في الفصل الخامس المعنون «مبادرة حسني الزعيم» إلى أن الأخير عرض على الإسرائيليين مبادرة لإقامة سلام بين سوريا وإسرائيل مبنية على نقطتين هما إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ورسم الحدود من منتصف بحيرتي الحولة وطبرية، وهو ما رفضه رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون.
وحتى الآن، لا توجد وثائق أو شهادات  تشي باتجاه عملي عبر محادثات أو اتصالات نحو محادثات ثنائية لعقد اتفاق سلام بين نظام الزعيم والإسرائيليين.
هناك، في وثائق ليتل، كشف  لغوامض انقلاب أديب الشيشكلي الثاني في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1951، حيث يربط بتأييد الشيشكلي لمشروع «قيادة الشرق الأوسط- MEC) المطروح في الشهر السابق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا لإنشاء نظام عسكري- أمني شرق أوسطي يكون امتداداً إقليمياً لحلف الناتو. «وأظهر الشيشكلي تأييده لخطة MEC في لقاء بالسفارة الأميركية في دمشق يوم 23 نوفمبر 1951 مع مايلز كوبلاند وآخرين» (ليتل، ص60). وحصل الانقلاب ضد حكومة معروف الدواليبي الذي كان يجاهر بمعارضته للمشروع.
وأيضاً في وثائق ليتل، هناك كشف لغوامض مقتل العقيد عدنان المالكي في أبريل/نيسان 1955، حيث نلحظ برقية من السفارة الأميركية بدمشق موجهة خصيصاً لوزير الخارجية الأميركية جون فوستر دالاس في أكتوبر/تشرين الأول 1954 عن أن «مسؤولاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي زار السفارة الأميركية وأبلغ بأنهم ينوون العمل بهدوء خلال السنتين القادمتين من أجل امتلاك القدرة على الإطاحة بالحكومة السورية في حال اتجهت كثيراً نحو اليسار، وأن شيئاً يجب أن يتم فعله للعقيد عدنان المالكي الذي يستعمل موقعه من أجل وضع أصدقائه في المواقع الرئيسية» (ص64). كما يورد ليتل وثيقة فيها ملاحظة في أبريل/نيسان 1955 من «مكتب تنسيق العمليات في إدارة أيزنهاور OCB»، وهي مجموعة من مختلف الوكالات التي تراقب العمليات السرية الأميركية، عن أن «النفوذ المتزايد لليساريين ولقلة من الشيوعيين أدى إلى إعاقة الخطط الأميركية من أجل نظام أمني لدفاع منطقة الشرق الأوسط» (ص63)، في وقت كانت دمشق تعارض، بتأييد من الجيش، حلف بغداد بين تركيا والعراق المعلن في فبراير/شباط والذي انضمت إليه بريطانيا بعد شهرين مع تأييد خلفي من واشنطن للحلف. وقال الوزير دالاس في برقية للسفير الأميركي في العراق والدمار غاكمان في أبريل/نيسان إن «استيلاء عدنان المالكي أو ضباط يساريين على السلطة وعقد معاهدة مع عبدالناصر يمكن أن يقود إلى سياسات سورية معادية للغرب وهو ما قد يقدح شرارة عمل عسكري عراقي أو حتى احتمالاً أسوأ يتمثل في عمل عسكري إسرائيلي ضد واحدة أو عدة دول عربية» (ليتل، الصفحتان 63و64).
ربما تفسر برقية دالاس خطط أميركية لاحقة لإحداث انقلابات في سوريا، مثل «عملية ستراكل» بالتشارك مع البريطانيين عام 1956 وكان مقرراً أن يكون الانقلاب في 25 أكتوبر/تشرين الأول 1956، ثم «عملية وابون» التي قام بها الأميركيون بمفردهم وكشف خطتها رئيس المكتب الثاني السوري العقيد عبدالحميد السراج في أغسطس/آب1957، مثلما كانت اختراقات السراج سبباً كذلك في فشل «عملية ستراكل»، حيث يمكن متابعة تفاصيل العمليتين في دراسة ليتل وكتاب باتريك سيل «الصراع على سوريا».
كان هاجس واشنطن في سوريا بفترة 1955-1957 منع وقوع دمشق بقبضة موسكو مع تنامي نفوذ الحزب الشيوعي السوري. وكان تعيين العقيد عفيف البزري رئيساً للأركان في أغسطس/آب 1957 ذروة ما رأته واشنطن من تنامي خطر وقوع سوريا بقبضة السوفييت، وهي التي حركت في الشهر التالي الأتراك لوضع خمسين ألف جندي على الحدود السورية، ما خلق أزمة دخل فيها الكرملين في موجة تحذيرات كان منها قول رئيس الوزراء السوفياتي بولغانين في سبتمبر/أيلول من ذلك العام: «النزاع المسلح في سوريا لن يقتصر على تلك المنطقة فقط»، الأمر الذي دفع واشنطن للضغط على الأتراك وحلفائهم العراقيين لنزع فتيل الأزمة.
كان عبدالناصر في صف موسكو في أزمة الحشود التركية على الحدود السورية، ضد أنقرة وبغداد ومن ورائهما لندن وواشنطن. ولكن على ما يبدو أنه في الشهر الأخير من عام 1957 تشارك مع واشنطن في رؤية أن سوريا تقترب من الوقوع بأيدي الشيوعيين، وهو ما توحيه برقية سرية من السفير الأميركي في القاهرة ريموند هير في ديسمبر/كانون الأول 1957 بأن «صحافياً مصرياً أخبره أن ناصر أصبح مقتنعاً بالمعلومات التي أعطيت له من الولايات المتحدة بأن رئيس الأركان السوري عفيف البزري هو فعلاً شيوعي وبأن شيئاً يجب أن يحدث بخصوص ذلك.. وبأن ناصر يطلب منا أن نجعل أيدينا بعيدة عن سوريا لمدة أقصاها ثلاثة أشهر وأن لانفعل شيئاً خلال ذلك  خوفاً من أن تقود الأفعال الأميركية إلى جعل البزري وخالد بكداش وخالد العظم أبطالاً في مواجهة الأميركيين» (جيمس بار، «أسياد الصحراء»، ص284، بيسيك بوكس، نيويورك 2018).
هنا: هل تفسر برقية السفير الأميركي الوحدة السورية – المصرية  وما أعقبها من وفاق بين واشنطن والقاهرة استمر من عام 1958 إلى عام 1964؟
كتكثيف: هناك أمور غامضة كثيرة في التاريخ السياسي السوري، مازالت غير واضحة المعالم. وحتى ما كشف عنه في وثائق ليتل أو في وثيقة السفير هير، يجب البحث فيه أكثر أو مقارنته مع وثائق يمكن البحث عنها في أماكن أخرى. للتاريخ غوامض وطبقات مثل المناجم، وسطحه لا يدل على ما تحته.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد