هاريس وترامب.. لا وعود انتخابية بالانسحاب من سوريا والعراق
شورش درويش
مطلع وصول الرئيس الأميركي جو بايدن للحكم، بدا وكأنه سيكون رجل الانسحابات الكبيرة بعد أن نفّذ انسحاب آخر جنوده من أفغانستان عام 2021 وعدّل بعد وقت قريب من ذلك على طبيعة وجود قواته في العراق وحددها بالدور الاستشاري. رغم ذلك، حافظ بايدن على بقاء عديد القوات الأميركية في العراق وسوريا وفق ما كانت إدارة سلفه دونالد ترامب حدّدتها بـ2500 جندي في العراق و900 في سوريا، إلى جانب عدد غير محدّد من المتعاقدين. في الوقت القصير المتبقي من ولايته، يبدو أن بايدن لن يجنح إلى أيّة صيغة انسحابية من العراق وسوريا، وهو يسعى بذلك لتوريث هذه المسألة الاستراتيجية لخلفه سواء كانت كامالا هاريس أم ترامب، وإن كانت هذه المسألة شكّلت أحد الأسئلة التي لم يجب عنها حتى الآن المتسابقان على الرئاسة.
ومن الجدير بالملاحظ أن مسألة الانسحاب من سوريا والعراق لم يجرِ التطرّق إليها، حتى اللحظة، أو إدراجها كوعد انتخابي في حملتي هاريس وترامب، ما قد يفسّر بأنّ القرار رهين تطوّر الأوضاع في الشرق الأوسط.
يرتبط سؤال الانسحاب بقدرة الأصوات الانعزالية في واشنطن على الحد من سياسة «الحروب إلى ما لا نهاية» التي أرادت إدارتي الرئيسين باراك أوباما وترامب التخلّص منها كلّاً على طريقتها ووفق تصوّراتها. لكن النهج الانعزالي فقد الكثير من بريقه مع التصوّرات القائلة بأن ما يشهده العالم من «حرب باردة ثانية» بين الصين والولايات المتحدة يحتّم على الأخيرة وحلفائها الاضطلاع بواجباتهم وتقدير مصالحهم بعناية. ففي مقال موسّع في مجلّة «فورين أفيرز» يوضّح «مخاطر الانعزالية»، مضت مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس إلى القول بأن التاريخ إذا كان لا يعيد نفسه فإنه يتشابه، حيث «تكتسب القوى الرجعية الأراضي بالقوّة وينهار النظام الدولي. ولكن التشابه الأكثر إثارة للدهشة والقلق هو أن الولايات المتحدة اليوم، كما في العصور السابقة، تميل إلى الانغلاق على نفسها». تعكس نظرة رايس السوداوية هذه، قبل قليل من موعد الانتخابات الرئاسية، المخاوف من الذهاب نحو سياساتٍ انعزالية تحاول التركيز على الداخل في حين أن الخطر الحقيقي الذي يتهدد الأميركيين والنظام الدوليّ خارجيّ في جوهره. وتبعاً لرؤية «أبوكاليبسية» تحذّر من نهاية العالم، استبدلت وزير الخارجية السابقة فرسان رؤيا يوحنا الأربعة التي وردت في الإصحاح السادس لسفر رؤيا يوحنا، وهم فرسان الصراعات والحروب والمجاعة والموت، بأربعة فرسان معاصرين يقودون العالم إلى نهايته: «الشعبوية، والنزعة القومية، والانعزالية، والحمائية». بهذا المعنى، تعتبر رايس الانعزالية التي يُنظر إليها كسياسة معتبرة لها مؤيّدوها في الأوساط الأميركية بأنها صندوق باندورا وكيس الشرور الذي سيؤدّي إلى انتقال فلاديمير بوتين وشي جين بينغ «بعد هزمهم أوكرانيا إلى غزوهما التالي»، ما يعني إعادة صياغة النظام الدولي طبقاً لمصالحهما.
بطبيعة الحال، تعني الانعزالية وما تتطلّبه من تنفيذ للانسحابات إلى انتعاش إيران مجدداً طبقاً لرايس حيث «سوف تحتفل إيران بانسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وتدعّم نظامها غير الشرعي من خلال الغزو الخارجي عبر وكلائها. وسوف تشنّ حماس وحزب الله المزيد من الحروب، وتتبدّد الآمال في أن تقوم دول الخليج العربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل». هذا القول بات مفهوماً أكثر في ضوء ما حصل وأعقب يوم السابع من أكتوبر، إذ لم تعد سوريا والعراق تمثّل الزوايا الهشّة في السياسة الخارجية الأميركية، بل باتتا في هذه الأثناء داخلتين في صميم عملية ضبط الأوضاع في الشرق الأوسط. وكجزء من مهمّة مراقبة سلوك إيران والمليشيات التابعة لها، بات على واشنطن أن تُرجئ نقاش الانسحاب حتى وإن بردت جبهة الحرب الإسرائيلية مع حركة حماس أو حزب الله. تتطلّب المراقبة عدم التعويل على تحريك البوارج فحسب، بل تدعيم الأصول العسكرية الأميركية على الأرض أيضاً.
من المفارقات أن دبلوماسية البوارج الأميركية نجحت في تعطيل الحرب الكبرى أو الموسّعة التي تسعى إليها تل أبيب، والتي لا تريدها طهران وبالمثل واشنطن. لكنّ هذا النمط شديد الصرامة من الدبلوماسية ليس بمقدوره تطويق التطلّعات الإيرانية وتنامي قدراتها العسكرية ودعمها اللوجستي المفتوح للمليشيات الموالية لها عبر الحدود. ومن هنا، تنبع أهمية الاحتفاظ بالتواجد البري على طول شريان الحياة المار بالعراق وسوريا.
يُبدي المسؤولون الحكوميون والعسكريون العراقيون حماسة لحثّ واشنطن لإنهاء عملية «العزم الصلب». قد تكون هذه الحماسة خفتت قليلاً بالنظر إلى تطور الأحداث منذ السابع من أكتوبر، إلّا أن مطالبات بغداد سوف تتنامى في اليوم التالي لتوقف الحرب في غزّة. الوعد بإنهاء عمل قوّات التحالف الدولي خلال عامين يفتح المجال لمزيد من التكهّنات حول إمكانية ملء إيران الفراغ الذي ستخلّفه الولايات المتحدة، إذ لا تبدو صيغة جلب حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني للأتراك إلى داخل المشهد العراقي مقنعةً لواشنطن التي تشكك في أن الفراغ بالمحصلة سيقدم فرصة ملائمة لتقدّم طهران خطوة أوسع باتجاه السيطرة على العراق والتوغّل أعمق في سوريا. إلى ذلك، تُمثّل مخاطر عودة تنظيم داعش لمزاولة نشاطه الإرهابي في العراق وسوريا إحدى الأولويات رغم تراجع الاهتمام الدولي والأميركي بهذا الملف في الآونة الأخيرة. كما أن تفريط واشنطن بحلفائها الموثوقين على الأرض قد يشكّل خسارةً لا يمكن تعويضها في حال عودة المنطقة إلى حقبة الإرهاب مجدداً.
قد تواصل هاريس حال وصولها لسدّة الحكم نهج بايدن في التعامل مع استعصاء الشرق الأوسط وعدم جعل هذا الملف ثانوياً قياساً لملفي الحرب في أوكرانيا وتعقّب أنشطة الصين. وقد يفارق ترامب، حال فوزه، سياساته الانسحابية الحادّة من سوريا والمبنيّة على استمالة تركيا، ذلك أن المفاضلة هذه المرّة ستكون بين مصالح إسرائيل وتركيا، لا بين الكرد وتركيا، على ما كانت عليه المفاضلة لحظة إصداره الأمر الرئاسي في ديسمبر/كانون الأول 2018 القاضي بسحب القوات الأميركية من سوريا.
من منظور جديد وطارئ، سواء فازت هاريس أم ترامب، فإن الشرق الأوسط لن يصبح المنطقة المثالية لتنفيذ أجندة القوى الانعزالية الأميركية والشروع في تنفيذ سياسة انسحاب نهائيّة، ففي الميزان، تكمن ثلاث مسائل مؤثّرة: تدعيم أمن إسرائيل بالشكل الذي يجعل من واشنطن شريكاً في اتخاذ قرار الحرب على إيران، إذ يعني غياب الولايات المتحدة اللاحق عن المنطقة إمكانية اتخاذ تل أبيب قرار الحرب بشكلٍ منفرد، ما يعني فرض صيغة أمر واقع على واشنطن. فيما يتجلى ثاني المسائل في أن الانسحاب قد يؤخّر من فرص عملية التطبيع الخليجية مع إسرائيل، وهو أحد الأهداف التي تسعى واشنطن إلى جني ثمارها في وقت قريب وبالشكل الذي يمكّنها من إقامة حائط صدّ شرق أوسطي في مواجهة إيران، والتفرغ تالياً لمجابهة الصين وروسيا. قد تكون المسألة الثالثة أقل أهميّة لكنها ما تزال تمثّل معضلةً أمنية لواشنطن، إذ تشير التقارير إلى إمكانية تعافي تنظيم داعش والبدء بشن هجمات انتقاميّة وإدخال المنطقة في دورة فوضى جديدة. يضاف إلى ذلك أن معضلة تواجد الآلاف من معتقلي التنظيم في سجون الإدارة الذاتية وزهاء خمسين ألف من أفراد أسرهم في مخيم الهول تعتبر مشكلة أمنية تستوجب مواصلة التحالف الدولي مراقبة ما يجري في شمال شرقي سوريا.
خلّص مقال صادر عن موقع «ذا كونفرسيشن» حمل عنوان «الوجود العسكري الأميركي في سوريا يحمل مخاطر كبيرة، لكن الانسحاب الكامل يحمل مخاطر مماثلة» إلى جملة مفتوحة على احتمالات عديدة حيث أن موضوع الانسحاب يمثل «رمزاً للتحدّيات الأوسع التي تواجه السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط. القرار بالانسحاب أو البقاء قرار استراتيجي سيتردد صداه في المنطقة». ولعل ما يصدق على سوريا في هذه الخلاصة يصدق على العراق أيضاً.