هجمات دير الزور.. تكتيكات مجرّبة ورسائل عاجلة
المركز الكردي للدراسات
بعد عدة أيام على اغتيال إسماعيل هنية في طهران، خرجت جملة من التكهّنات المتصلة بطبيعة الرد الإيراني المقبل على إسرائيل وتوقيته المرتقب. ومن بين ما تمّ توقعه أن يجري استهداف القواعد والأصول الأميركية في العراق وسوريا، وهو ما حصل فعلياً عبر هجوم صاروخي لم يسفر عن خسائر شنّتها مليشيات إيرانية على محيط حقل كونيكو للغاز حيث تتواجد قاعدة للقوات الأميركية، فيما قالت وزارة الدفاع الأميركية إن هجوماً آخر بطائرة مسيّرة على قاعدة خراب الجير بالقرب من مدينة رميلان أسفر عن إصابات غير خطيرة لثمانية جنود. جاءت الهجمات الأخيرة بعد انقطاع طويل في وتيرة الهجمات التي تشنّها المليشيات الإيرانية على القواعد الأميركية منذ رد واشنطن القاسي عقب هجوم البرج 22 في الأردن واستهداف القوات الأميركية في 28 يناير/كانون الثاني الماضي.
يفهم من طبيعة الهجمات الإيرانية المحدودة والضيّقة أنها رسالة موجّهة لإدارة جو بايدن بأن هناك إمكانية لتطوير الهجمات والعودة إلى سياسة الضربات الخفيفة والمتوسطة الشدّة على الأصول الأميركية في المنطقة، والإبقاء على القوات الأميركية في حالة استنفار دائم، وأن هناك احتمالية لتهديد أربع قواعد أميركية حيويّة في شمال شرقي سوريا عبر التخطيط لقصفها بالمسيّرات الانتحارية. ولأجل التلويح بإمكانية تطوير الهجمات، جاء الهجوم الذي تقوده القوات الحكومية ومليشيا «الدفاع الوطني» ومجاميع مسلحة بصبغة عشائرية مدعومة من الحرس الثوري الإيراني كجزء متمم لعملية الإرباك التي تسعى إليها إيران.
يؤشر دخول النظام السوري على الخط وتصدّره مشهد الهجمات على مناطق الإدارة الذاتية في الريف الشرقي لنهر الفرات بدير الزور على أن النفوذ الإيراني ما يزال قائماً ويحظى بحضوره الوازن في دمشق. فبعد أن حاذرت دمشق من الانخراط في الجهد الإيراني فيما خص تبعات هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول وتجنّب ردود الأفعال الإسرائيلية، وما مثّله من افتراق جزئي لدمشق عن «محور المقاومة» وخروجاً هادئاً على مفهوم «وحدة الساحات» الذي سعت إلى تكريسه إيران إزاء تل أبيب وواشنطن، فإن ضلوع دمشق في هجمات دير الزور وتوليها ملف شن الهجمات على قوات سوريا الديمقراطية «قسد» والمدنيين في المناطق التابعة لها، يأتي في سياق تقسيم الأدوار بينها وبين طهران التي تكفّلت بدورها بشن هجمات على القواعد الأميركية. وفي مقابل هجمات النظام، أكدت الولايات المتحدة على لسان متحدث بإسم وزارة خارجيتها بأن قوات سوريا الديمقراطية ما تزال «شريكاً عسكرياً قادراً وملتزماً، وسنواصل العمل معهم لضمان عدم ظهور داعش مرة أخرى»، ما يعكس أحقية القوات الأميركية في الرد على مصادر الخطر التي تتعرض لها مهمة ملاحقة خلايا «داعش» النشطة في المنطقة. ولأجل ذلك، جاء القصف الجوي لقوات التحالف لنقاط تتبع لدمشق على السرير الغربي لنهر الفرات. وكجزء من التعهد بالرد على المضايقات الإيرانية الأخيرة، قال المتحدث إن واشنطن ملتزمة بالحفاظ على وجودها المحدود في شمال شرق سوريا «كجزء من استراتيجية شاملة لضمان الهزيمة الدائمة لداعش». ومن خلال تتبع سير الهجمات الإيرانية السابقة، يمكن ملاحظة عدم تأخر الردّ الأميركي السريع كجزء من عملية «إدارة المخاطر» التي تتبعها القوات الأميركية العاملة في شرقي سوريا.
تصدّر النظام السوري لمشهد تحريض مجاميع العشائر التي تتبع حليف طهران الجديد إبراهيم الهفل، أدى إلى تجذير الانقسام القبلي في دير الزور. وأفضت عملياتها الأخيرة في شرقي دير الزور إلى قصف البيوت المأهولة بالمدنيين ومقتل أطفال ونساء وإلى تدمير سبل عيش المدنيين. ورغم ذلك، ما تزال الكتلة الأكبر متحالفة مع قوات سوريا الديمقراطية في ظل مخاوف وقلق عشائري ومدني في دير الزور من ثلاثة مخاطر رئيسيّة: أولاً، محاولات «تطييف» إيران وحلفائها للمجتمع الأهلي والتلاعب بالحالة المذهبية على ما تقوله الدعاية المحلية المضادة للتواجد الإيراني. ثانياً، المخاوف المتصلة بعودة النظام السوري رفقة شخصيات عشائرية يهمها الانتقام من أبناء مناطق شرقي الفرات. فتبعاً لتجارب عودة قوات الحكومة والمليشيات التابعة لها ونماذج المصالحات الهشّة التي أدارتها دمشق في أكثر من منطقة سورية، تعلّمت المجتمعات المحلية بأن النظام السوري «لا ينسى ولا يسامح» عبر حملات الاعتقال التي يشنّها أو الاغتيالات التي ينفّذها أو سوء تقديم الخدمات كسلوكٍ عقابيّ للسكان المحليين. ثالثاً، عودة «داعش» إلى الظهور في الفترات التي تعقب الاشتباكات، حيث يستفيد التنظيم من الاضطرابات الأمنية التي تمنحه مساحة حركة إضافية وبسط تأثيره النفسي في بعض المناطق. وسبق للتنظيم أن فرض على بعض المدنيين في قرى دير الزور مبالغ مالية، وهو ما يعني رمزياً شكلاً من أشكال إرضاخ المجتمعات الأهلية لنفوذه القابل للتنامي وإيهاماً بالعودة الوشيكة حال تبدّل الأوضاع الأمنيّة.
من خلال تجارب سابقة، يتبيّن أن توقيت ونطاق وشدة الهجمات التي تُشن على مناطق الإدارة الذاتية بريف دير الزور والهجمات التي تطاول القواعد الأميركية مرتبط بسياسة الرسائل العاجلة التي تريد طهران توجيهها لواشنطن، وأن تعاون دمشق والمجاميع العشائرية يجري بتوجيه من قيادات في الحرس الثوري الإيراني. أما ما يجعل من هذه التكتيكات الإيرانية المجرّبة قليلة الفاعلية، فيأتي من عوامل تتجاوز عدم تجاوب المجتمعات المحلية في شرقي الفرات مع ما تسعى إليه من تحويل الهجمات إلى مقدمة لفوضى عارمة تؤدي للتضييق على القواعد الأميركية.
ولعل قدرة واشنطن على الرد الفوري وإلحاق الأذى المباشر بمراكز قيادة الحرس الثوري في دير الزور يقلل من فرص استدامة الهجمات، كما أن قوات سوريا الديمقراطية شنت هجوماً ربما هو الأول من نوعه من حيث الطريقة والنوعية، على الجانب الغربي من نهر الفرات وألحقت خسائر كبيرة بميليشيات وعناصر شاركت في الهجمات على مناطق الإدارة الذاتية في ريف دير الزور الشرقي. في الوقت ذاته، تدرك دمشق أن المبالغة في الانخراط في حالة حرب غير ضرورية في الوقت الراهن ووجود قوّات لها متمركزة، وبحكم المحاصرة، في مراكز مدينتي الحسكة والقامشلي يضعها في مواجهة متعبة ومكلفة يجعل هجماتها مؤقّتة وبلا جدوى وخدمة مجانية لطهران، وإن كانت خدمة مكلفة على السكان المحليين بصورة تطال استقرارهم وسلامتهم وسبل حياتهم.
إن ما يجعل هجمات دير الزور مجرّد رسالة أخرى تضعها إيران في صندوق بريد الولايات المتحدة، هو صعوبة جعل شمال شرق سوريا المكان المناسب للضغط على إدارة بايدن فيما خص ما يجري في غزة. ففي الأشهر الأولى لحرب غزة، كانت إيران تأمل في أن تؤدي هجمات المليشيات التابعة لها في العراق وسوريا إلى دفع الرئيس الأميركي إلى اتخاذ مواقف حاسمة تجاه حكومة بنيامين نتانياهو في تل أبيب. ورغم إدراك طهران بأن ممارسة مثل هذا الضغط لا يمكن أن يعجّل في إحداث إنفراجة فيما خص ما يجري في غزّة، كما أنه لن يدفع واشنطن إلى اتخاذ قرارات انسحابية من العراق وسوريا، فإن ذلك لن يثنيها عن التوقف في التلاعب بهذه الورقة.
من جهة أخرى، تعرف دمشق بأن ما تشعر به من «فائض قوّة» ناجم عن الانفتاح العربي، وربما الغربي الأولي، لا يجب أن يدفعها إلى مواجهة صفرية في دير الزور والدخول في مواجهة غير مباشرة مع الولايات المتحدة. كما أن التعويل على مجاميع عشائرية ذات توجهات ثأرية تعاني من فوضى داخلية لا يمكن أن يكون رصيداً راسخاً في حربها على قوات سوريا الديمقراطية والمجتمع الأهلي المتحالف معها حتى وإن تكررت الهجمات في مرات لاحقة.