في أهمية استعادة النقاش حول «الهوية الوطنية»
شورش درويش
شغلت موضوعة «الهوية» المتن العثماني المتأخر بين قائلين بوجوب صياغة هويّة عثمانية بمقدورها المحافظة على الوحدة الترابية وحماية «الدولة العثمانية الخالدة» على ما درج في الأدبيات الأخيرة لمفكّري بلاط عبد الحميد الثاني، وبين اتجاهات بدت الهوية لديها تأخذ مناحٍ قومية لاسيما مع الصعود القومي للنخب التركية والمتأثرة بالوهج القومي في أوروبا، والتبشير بهوية جديدة قادمة لاسيما بعد الحرب في البلقان. وبين الاتجاهين، كان ثمة فريق يحاول صياغة هوية عثمانية برأس لامركزي يحفظ لهويات الدولة الفرعية مقداراً من الاحترام والاعتراف ويوقف تالياً سيل التتريك في السلكين البيروقراطي والعسكري.
ولئن تأخّر انتاج هويّة عثمانية طبقاً لتصورات اللامركزيين ودخول بريطانيا وفرنسا على الخط، فإن فكرة انتاج هوية ذاتية أُجلت إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، لتستقرّ تركيا بعد أن تخطّت السلطنة والخلافة إلى الجمهورية على نمط شديد التمركز حول القومية التركية. وباتباعها سياستي «المجانسة والاستيعاب» نجحت تركيا الكمالية في الشطب على فكرة الدولة متعددة الإثنيات أو ذات الإثنيتين الرئيسيتين (التركية والكردية) على غرار الإمبراطورية المجرية النمساوية القابلة للاستعادة في إهاب جمهوريّ هذه المرّة. فبعد أن نجحت في تحييد الأرمن في وقت سابق، بقي السؤال الكردي أحد الموضوعات التي سعت الكمالية لحسم إجابتها عبر سياسة الإنكار والصهر والإبادة الثقافية.
لم تجرِ تركيا تعديلات على مخيّلتها القومية لفكرة الوطن الجديد الخارج من عباءة معاهدة لوزان 1923. وتبعاً لذلك، صار النموذج التركي أحد وسائل المقايسة بالنسبة للنخب القومية العربية في العراق وسوريا، ذلك أن ما كان يُحدثه مصطفى كمال في تركيا، كان يتردد في سوريا والعراق. فبحسب صاحب سيرة مصطفى كمال، كلاوس كرايزر، فإن إلغاء الخلافة «لم يُحدث زلزالاً في أرجاء العالم الإسلامي؛ بل ازدادت شعبية أتاتورك في صفوف بعض القوميين والعلمانيين العرب». على هذا النحو، كان ثمّة تحفّز عربيّ لتشييد النموذج الخاص للدولة–الأمة. وكل ذلك رغم شكوى النخب القومية العربية من التقسيم الاستعماري، ما عزّز من حضور الأفكار الاتحاديّة التي تبلورت قبيل جلاء القوات البريطانية والفرنسية بعد أن تعطّلت المشاريع الوحدوية سحابة ربع قرن، لتعود وتنشط في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية.
كان نصيب سوريا في مرحلة تصنيع هويتها الوطنية سيلاً من المشاريع العابرة للحدود: الهلال الخصيب طبقاً لرؤية الحزب السوري القومي الاجتماعي، أو مشروع الاتحاد مع الهاشميين على ما ذهب إليه سياسيو حزب الشعب، وكذلك التقارب مع مصر والسعودية طبقاً لهوى الحزب الوطني وهو ما تحقق في نهاية المطاف وانطوى على انفصالٍ دراميّ قاده عروبيون سوريون صدحوا للوحدة وعملوا لأجلها. قلّص الانفصال من حضور دمشق بوصفها «بيمونت العرب» على ما كانته بيمونت زمن غاريبالدي والوحدة الإيطالية، ما دفع العراق النشط قومياً لمنافسة دمشق في محاولة إنجاز هذه «المهمة الرسولية»، لاسيما مع صعود القوميين إلى السلطة في 8 فبراير/شباط 1963. لكن البعث «في تكوينه الإيديولوجي لا يحترم مصر»، على ما قاله المفكر السوري إلياس مرقص. وبالتالي، فإن وجهة الوحدة المقبلة بالنسبة للبعثيين بقيت محطّ جدل داخليّ، الأمر الذي جعل «سوريا المؤقّتة» تدخل في مرحلة طويلة من الانتظار، وهو ما انعكس على بناء هويتها الوطنية الذاتية بمعزل عن تحقّق الوحدة العربية وإن بشكل جزئي.
بطبيعة الحال، لم تشغل مسألة الهوية الوطنية الجماعات السياسية السورية. أو أقلّه، جرى الحديث عن سوريا خارج السياق العربيّ المتخيّل على استحياء، إذ إن ما اصطُلح على تسميتهم «آباء الاستقلال» لم يضعوا تصوّرات واضحة لسوريا المستقلّة كوطن نهائيّ، ومن المفارقة، أن أقدم الأحزاب «الوطنية»، وهما هنا حزب الشعب والحزب الوطني الخارجان من عباءة «الكتلة الوطنية»، كانا تعبيرين عن مصالح محليّة وتنافس جهويّ (حلب ودمشق). وبالتالي، لم يساهم الحزبان في رسم هويةً وطنية حالهم في ذلك حال الأحزاب الإيديولوجيّة التي نشطت هي الأخرى في تلك الفترة، إذ لا يشير اسم حزب الشعب بالضرورة إلى الشعب السوري، وكذا حال تسمية الحزب الوطني حيث لا يعني «الوطني» هنا الانتماء إلى سوريا على ما أشارت إليه سياساته العربية.
قد يكون من المنصف ألا يجري تحميل «النخبة الوطنية السورية» في الفترة القصيرة الواقعة بين الاستقلال 1946 والوحدة السورية المصرية عام 1958، والتي تخلّلتها مراحل انقلاب عسكري قطعت خيط الحكم المدني مراراً، وزر عدم التأسيس لهوية وطنية سورية، ذلك أن بناء الهوية فعل تراكمي يستند قبل كل شيء إلى وجود ندوة برلمانية نشطة وصحافة مستقلة ومستقرة، وإلى درجة من حضور أبناء الهويات الفرعية المطالبين بإدماج هويّاتها في هوية وطنية ينبغي الاشتغال عليها، وهو ما لم يكن متحققاً قبل تأسيس الحزبين القوميين الأوّلَين: الحزب الديمقراطي الكردي في 14 يونيو/حزيران 1957 والمنظمة الآثورية الديمقراطية في 15 يوليو/تموز 1957. ومن المهم أيضاً النظر إلى حكم الانفصال القصير بوجهه «العروبي» وتأثيرات ما بعد الناصرية عليه، ثم انقلاب حزب البعث عام 1963 بأنهما من العوامل الرئيسية المعطّلة لفُرص إدراج مسألة الهوية في حقل النقاش العام، وترسيخ «هوية سوريا العربيّة» كأمرٍ مسلّمٍ به غير قابل للجدل.
ساهم حزب البعث عبر أدبياته ودستوره في تكريس تصوّراته لهوية سوريا باعتبارها «جزءاً من الوطن العربي» وأن السوريين ما هم سوى «جزء من الأمة العربية»، وهو ما يتعارض حتى مع رؤية جمال عبدالناصر فيما خصّ القول بوجود «شعوب الأمّة العربية». والحال أن «الجزء السوري» بقي يبحث عن الالتصاق بشيء من «الكلّ العربي» خلال أكثر من ستين عاماً دون أن ينجح في مسعاه أو أن يبذل محاولة عقلانية للتخفيف من رطانة الشعارات الوحدوية غير القابلة للتنفيذ. وفي مقابل ذلك، حال التحديد الحاد لصورة سوريا المتخيّلة، العربيّة، دون إحياء نقاشات الهوية. وباتباع مقياس الأكثرية والأقلية، غدت هوية سورية عربية، وإسلامية حتى درجة ما وفق التصريف الدستوري، الأمر الذي استبعد الكرد والسريان الآشوريين من دائرة الشراكة المؤسسة للكيان السوري واعتبار ثقافاتهم الفرعية روافد حية للثقافة السورية. وبالمثل، نُظر إلى الأرمن والشركس على أنهم ضيوف أبديون رغم حلولهم في سوريا قبل تأسيس الكيان السوري. وإذا كان الأرمن والشركس، بعكس الكرد والسريان، جماعات أهلية غير متطلّبة، فإن اعتبارهم قطعاً من المركّب الثقافي السوري لم يدخل في حيّز النقاش العام حتى اللحظة.
والحال، أن التهتّك المتواصل للنسيج المجتمعي السوري منذ مارس/آذار 2011 فصاعداً، أعاد شيئاً من أهمية التفكير في طبيعة الهوية السورية. غير أن الجهد النظري المبذول في هذا السياق مازال يخضع لعدة مؤثّرات سلبية من بينها اعتبار إعادة التفكير في الهوية وسياساتها ترفاً فكرياً ومحاولة لتعيين جنس الملائكة في بلد محطّم، أو ترحيل النقاش إلى حين إقامة برلمان منتخب بمقدوره رسم ملامح الهوية الوطنية مع ما ينطوي عليه الأمر من مخاوف حكم الأكثرية بمعناه القومي والديني. ولعل هذا التبريرات وسواها، تعكس أزمة تضاف لقائمة الأزمات السياسة في سوريا.