النظرات المتعددة إلى التاريخ السياسي السوري
محمد سيد رصاص
يدل عنوان كتاب زين نور الدين زين «الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان» على المضمون. من حيث أن العامل الدولي قرر لوحة الإقليم عبر تفكك الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على أغلب منطقة الشرق الأوسط. ويتمثل هذا العامل في بريطانيا التي تخلت في النصف الثاني من العقد الأول للقرن العشرين عن سياستها التقليدية التي استمرت طوال القرن التاسع بحماية الدولة العثمانية من السقوط خوفاً من تمدد روسيا جنوباً نحو الشرق الأوسط حيث المضائق وقناة السويس التي أصبحت الطريق البريطاني الرئيسي إلى الهند. ومن هذه العملية القيصرية التي ماتت فيها الأم، ولد الوليدان سوريا ولبنان. فحسب نورالدين زين أن «(المسألة الشرقية) كانت في الواقع قضية الغرب أو (المسألة الغربية) في منطقة الشرق الأدنى.. إن حالة الضعف والوهن التي كانت تتخبط بها تركيا هي التي أثارت قضية تقسيمها في وزارة الخارجية البريطانية، وفي وزارات خارجية الدول الأخرى المعنية بالأمر» (1).
هناك نظرة مشابهة، لجهة أن الخارجي أنتج الداخلي، نجدها في كتاب جيمس بار «خط في الرمال: بريطانيا وفرنسا والصراع الذي رسم الشرق الأوسط». ففي هذا الكتاب، هناك رؤية ليوم جلاء الفرنسيين عن سوريا في 17 أبريل/نيسان 1946 بأن القوة التي أنتجته ليست محلية سورية بل بريطانية، حيث بعد إخراج البريطانيين لقوات حكومة فيشي الفرنسية الموالية للألمان بغزو عسكري أتى من فلسطين والعراق في 1941، أصبحت لندن هي المسيطرة عسكرياً على سوريا ولبنان، مع مشاركة رمزية من قوات حكومة فرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديغول. في الكتاب الصادر عام 2011 عن دار «سيمون وشوستر» في نيويورك (2)، تكشف وثائق عن اتجاه بريطاني نحو إقامة سوريا الكبرى: سوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين، مع تقسيم فلسطين لشطرين عربي يلتحق بسوريا الكبرى وآخر يهودي (ص362). وهو ما صادق عليه مجلس الوزراء البريطاني في الشهر الأول من عام 1944 (ص363). وكان هذا مبنياً على رؤية قررها مجلس الحرب البريطاني في الشرق الأوسط في اجتماعه بالقاهرة في مايو/أيار 1943 بأن «الوجود الفرنسي في المنطقة لم يعد بعد الآن من المصالح البريطانية» (ص362). وعلى رؤية بأن «الدعم البريطاني لسورية الكبرى قد يخفف من التوترات التي من المؤكد سيتسبب بها تجديد الهجرة اليهودية لفلسطين» (360)، بعد أن أوقفها الكتاب البريطاني الأبيض عام 1939. إذ أن « فلسطين وحدها لا يمكنها أن تقدم الحل.. خيار واحد لتخفيف الضغط الذي سيتسبب به تدفق اليهود هو إقامة الوحدة العربية التي أشار إليها إيدن وزير الخارجية البريطاني في شهر أيار 1941» (360-361). هناك إشارات إلى تأييد جميل مردم بيك للخطة البريطانية حول سوريا الكبرى (365)، وهي صفقة تربط الموضوع الفلسطيني وموضوع سوريا الكبرى بشكل أو بآخر بجلاء الفرنسيين عن سوريا ولبنان. في الكتاب، هناك تأكيد على نسج علاقة سرية أقامها الديغوليون منذ فبراير/شباط 1944، من خلال الإدارة الخاصة بهم في سوريا- لبنان، مع منظمتي «الإرغون» بقيادة مناحيم بيغن و«شتيرن» بقيادة إسحق شامير (ص345)، وهما كانتا في حالة صدام عسكري عبر حرب عصابات ضد البريطانيين في فلسطين. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1944، قتلت «شتيرن» اللورد موين، وزير الدولة البريطاني المقيم في القاهرة وصاحب مشروع سوريا الكبرى، ليموت المشروع معه، وإن ظل الملك عبدالله بن الحسين منادياً به حتى 1950 عندما اكتفى بدمج الضفة الغربية بالأردن. ولكن رئيس الوزراء البريطاني لم ينس الأصابع الفرنسية وراء اغتيال صديقه القديم في القاهرة، فأجبر ديغول على تجرع كأس مر بعد أن قصفت القوات الفرنسية مدينة دمشق في 29 مايو/أيار 1945، فأرسل رسالة إنذار تعلمه بأن «القوات البريطانية ستتدخل.. لتجنب التصادم بين القوات البريطانية والفرنسية نطلب منك على الفور أمر الجنود الفرنسيين وقف إطلاق النار والانسحاب إلى ثكناتهم» (398). وبعد يومين، دخلت الدبابات البريطانية دمشق ووضعت الفرنسيين في ثكناتهم التي لم يغادرها إلا يوم الجلاء. وقال ديغول الكلمات التالية مستذكراً أحداث دمشق: «كل الحادثة تم الترتيب لها من قبل البريطانيين لينفذوا سياساتهم لجر الفرنسيين إلى خارج الشرق حتى يأخذوا مكانهم» (ص400).
يوجد لهذا التفسير الخارجي للداخل تفسير مغاير له يمزج الخارج والداخل في وحدة متكاملة قريبة من نظرية المفكر الجزائري مالك بن نبي عن «القابلية للاستعمار». فقد وجد في بلاد الشام، أوائل القرن العشرين، بنية فسيفسائية من الأديان والطوائف كانت نظراتها متباينة وليست موحدة للخارج البريطاني والفرنسي، حيث كان لدى المسيحي الماروني قبول للمشروع الفرنسي في السيطرة على لبنان، وهو ما يسجله وجيه كوثراني في كتاب وثائقي (3). ونجد في رسالة موقعة بإسم الطائفة المارونية إلى الرئيس الفرنسي في 1913 وصفاً لـ«فرنسا الحامية الكريمة للبنان» (ص288). ونجد رسالة من عام 1912 من مدير القنصلية الفرنسية العامة في بيروت بعنوان «في الاتجاهات السياسية في سورية» يقول فيها: «يعتبر مسيحيو هذه البلاد أنفسهم في حالة عبودية، كما يتمنون الاحتلال الأجنبي الذي ينتظرون منه تحريرهم» (ص254). أما «المسلمون العرب الذين ملوا الخضوع للحكم التركي ولكن ما زالوا يعارضون حكم الأمة المسيحية المباشر، لابد وأن يتجهوا بكل بساطة نحو مصر أرض الإسلام التي يحكمها أمير من عرقهم ودينهم ولكن بإدارة دولة أوروبية كبرى.. فكرة الانضمام إلى بلاد النيل تلقى في سورية أتباعاً كثراً وانصاراً متحمسين» (ص256). ثم يضيف القنصل الفرنسي: «من الخطأ إعطاء المسألة السورية مظهراً عاطفياً ليس فيها. فإذا كان ود المسيحيين من جهة وود الطبقة الميسورة من المسلمين العرب من جهة أخرى لا ينصب على الدولة الكبرى نفسها، فإن رغبتهم المشتركة في التمرد على النير الذي يسحقهم تفوق أي اعتبار آخر. الفريقان سيرحبان بتدخل البلد الذي يعرض خدماته، والذي يعرضها أولاً سيلقى أحسن ترحيب. كل شيء ينبئ بأن الحركة الانفصالية التي ظهرت معالمها بوضوح سوف تزداد باستمرار في حين تزول نهائياً فكرة الوطن العثماني» (ص257).
لا يتعمق كوثراني في دلالات الوثائق التي قدمها، بل يترك للآخرين قراءة تلك الوثائق التي خلقت صدمة لدى نشر كتاب كوثراني عام 1980. ولكنه في تمهيد الكتاب يطرح سؤالاً جوهرياً: «كيف تمت أشكال التبعية للرأسمالية العالمية؟» (ص5). وهو يلمح أن التتبيع لم يتم فقط بقوة العامل الخارجي وسيطرته العسكرية، بل تقول وثائقه إن هناك بنية لا اندماجية داخلية رأت في ضعف الدولة العثمانية فرصة لمد اليد للخارج ولكن من نوافذ مختلفة رأيناها لاحقاً عند الشريف حسين مع البريطانيين 1915-1916، ثم مع البطريرك الماروني الحويِك في مؤتمر فرساي عام 1919 وجهده مع الفرنسيين لإقامة دولة لبنان الكبير.
يمكن أن نجد في كتاب ستيفن لونغريغ «تاريخ سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي» الصادر عام 1958 وطبعته العربية الصادرة عام 1978 تفسيراً أقرب لكوثراني من حيث وجود بنية داخلية كانت قابلة في الخارج عند بعض أقلياتها (الموارنة مثلاً). ولكنه يقول بأن «الانطباع السائد حول سوريا بوصفها (فسيفساء من الأقليات) يمكن أن يكون مضللاً، وذلك ليس لتجاهله الغلبة الكبيرة للسكان المسلمين السنة فحسب، بل ولتشديده على نحو غير مطابق للواقع على العناصر التي تفصل الغالبية عن بقية السكان وتقليله من شأن الأرضية المشتركة التي يلتقي عليها الجميع» (ص20من الطبعة العربية). وهو أقرب في تفسيره إلى جيمس بار من حيث التنافس البريطاني- الفرنسي، مع عوامل إقليمية منها تأثير العلاقات الفرنسية– التركية على الداخل السوري في محطات اتفاقية أنقرة 1921 ولوزان 1923 وقضية لواء إسكندرون 1937-1939. ولكن كتاب لونغريغ يبقى كتاباً للمعلومات التاريخية بطريقة سردية غنية وليس كتاباً يقدم رؤية أو نظرة تحليلية للتاريخ.
هنا، يبقى كتاب باتريك سيل «الصراع على سورية: دراسة للسياسة العربية بعد الحرب 1945-1958» مميزاً. ويقدّم الكتاب الصادر عام 1964 والمترجم للعربية في 1968 نظرة غير مسبوقة تطرح التفسير الجغرافي- سياسي للتاريخ السوري. وهي تحدد أن اهتمام الخارج الدولي والإقليمي بسوريا ناتج عن أن «من يقود الشرق الأوسط لابد له من السيطرة على سورية» (ص14من الطبعة العربية)، وأن التفوق الإقليمي في تنافس النيل ودجلة لقيادة المنطقة منوط بالسيطرة على سوريا (ص14) ويقود إلى تفوق الحاكم المحلي بداخله (ص14) وإلى عزل المنافس الإقليمي (ص14).
عبر هذه المعادلة، يفسر باتريك سيل سعي القاهرة لتأسيس الجامعة العربية عام 1945 بأنه موجه ضد هاشميي بغداد ومشروعهم «الهلال الخصيب» ومشروع هاشميي عمّان «سورية الكبرى»، في تشارك بين الملكين المصري فاروق والسعودي عبدالعزيز آل سعود (ص42). ثم في تأييد القاهرة والرياض لانقلاب العقيد أديب الشيشكلي الأول في ديسمبر/كانون الأول عام 1949 الذي قطع الطريق على مشروع الاتحاد بين سوريا والعراق بعد أن فاز حزب الشعب وأنصاره بغالبية الجمعية التأسيسية في انتخابات الشهر السابق (ص122)، مع إضافة التأييد الفرنسي للشيشكلي الذي اعتبرته باريس ليس موجهاً ضد البريطانيين لا بغداد (ص122). يرى باتريك سيل في معارضة جمال عبدالناصر لحلف بغداد بين العراق وتركيا عام 1955 (انضمت إليه بريطانيا لاحقاً) استمراراً للسياسة المصرية التقليدية في منع سيطرة العراق على سوريا. فقد كان هذا «ضد كل قاعدة من قواعد السياسة المصرية، كما توضحت في الأربعينيات، وكما كان الضباط الأحرار في مصر يعيدون رسمها» (ص254). ولكنه يوضح في سياق الكتاب أن المجابهة مع بغداد- أنقرة- لندن قادت عبدالناصر للتحالف مع السوفيات بعد سبعة شهور. وهو ما جعل الرئيس المصري في موقف عداء مع واشنطن المنخرطة في الحرب الباردة مع موسكو. ثم يرى أن انقلاب التوازنات السورية لصالح المعادين لحلف بغداد بعد سقوط حكومة فارس الخوري في 1955 جعل حلف بغداد بلا أفق. فهو ليس فقط تحول سوري نحو نشوء كتلة سياسية من الزعيم البعثي أكرم الحوراني ضمته مع خالد العظم والشيوعي خالد بكداش مع جناح برئاسة صبري العسلي في الحزب الوطني، هيمنت على السياسة السورية لثلاثة أعوام قبل أن تنفرط، بل كان سقوط حكومة الخوري في دمشق «من نقاط التحول في السياسة العربية» (ص286) لصالح زعامة عبدالناصر العربية، بتحالف استمر لعامين مع السعودية والأردن، ضد نوري السعيد في بغداد ومن خلفه الأتراك والبريطانيين، وهو ما وصل ذروته في الوحدة السورية- المصرية عام 1958.
هنا، يمكن أن نضيف نظرة جديدة للتاريخ السوري قدمها نيكولاس فان دام في كتابه «الصراع على السلطة في سورية 1961-1995»، حيث يحدد أن كتابه يهدف إلى «التحقق من مدى الدور الذي تلعبه الولاءات الانصرافية والالتزامات مثل الطائفية والإقليمية والعشائرية في الصراع على السلطة السياسية في سوريا والأسلوب الذي اتبعته» (ص10).
ثم أتى كتاب جديد في بداية القرن العشرين هو «فلاحو سوريا» لحنا بطاطو، صدرت ترجمته العربية في الدوحة عام 2014. ويمكن القول إنه يحوي تفسيراً طبقياً للتاريخ السوري. فهو يرى أن معظم أعضاء اللجنة العسكرية لحزب البعث، التي كانت القوة الدافعة لوصول الحزب للسلطة في 1963، كانوا «من طبقة الوجهاء الريفيين أو القرويين المتوسطة» (ص595)، وأن الطابع الفلاحي في بعث الستينيات جعل الحزب يولي «أهمية بالغة للفلاحين وأوضاعهم» (ص595).
كتكثيف: تعطي تلك النظرات المتعددة إلى التاريخ السوري مدى أهمية سوريا في اللوحة السياسية العامة، الدولية والإقليمية، ومدى تأثيرات الداخل السوري على الخارج المحيط، إذ لا نجد هذه النظرات المتعددة في الكتب التي تناولت التاريخ السياسي لمصر أو العراق.
هوامش
زين نورالدين زين: الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان، دار النهار، بيروت،1977، ص180.
الاقتباسات من كتاب جيمس بار من الطبعة العربية الصادرة في لندن عام 2015 عن دار الحكمة، بترجمة سلافة الماغوط.
وجيه كوثراني: بلاد الشام: السكان، الاقتصاد والسياسة الفرنسية في مطلع القرن العشرين – قراءة في الوثائق، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1980، ص288.