مراهنة تركيا المستمرة على مسلحي المعارضة السورية
طارق حمو
كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان عن إرسال الحكومة التركية مئات المقاتلين السوريين المنتمين إلى الفصائل الموالية لها كمرتزقة إلى مناطق العمليات العسكرية في إقليم كردستان العراق للمشاركة في الحرب ضد حزب العمال الكردستاني. ونقل المرصد عن مصادره الخاصة وقوع عدد من هؤلاء المسلحين السوريين أسرى بأيدي قوات حزب العمال الكردستاني.
وكان الجيش التركي أطلق بداية شهر يوليو/تموز الجاري عملية توغل عسكرية كبيرة في مناطق محافظة دهوك (بعمق 40 كم داخل أراضي الإقليم)، أسفرت حتى الآن عن احتلال عشرات القرى الآهلة ودفع مئات العائلات للنزوح. ورافق ذلك البطش المعهود من جنود الجيش التركي حينما يتعلق الأمر بالكرد ومناطقهم، حيث استولت القوات التركية على البساتين والأراضي الحراجية وأشعلت الحرائق وجرفت البساتين وشقت الطرق وبدأت ببناء قواعد ونقاط عسكرية، بهدف التمركز والإحلال الدائمين.
وبحسب تقرير المرصد، فإن هذه هي المرة الأولى التي يعمد فيها الجيش التركي إلى إرسال مقاتلين سوريين إلى جبال كردستان لمقاتلة قوات حزب العمال الكردستاني. وتحدثت عشرات التقارير عن المرتزقة الذين جندتهم الحكومة التركية، سواء بشكل رسمي عن طريق الجيش أو الاستخبارات أو بشكل غير رسمي عبر شركات أمنية تعود ملكيتها لمسؤولين في حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، للقتال في كل من ليبيا وأذربيجان والنيجر لصالح حكومات وفصائل وميليشيات تدعمها الحكومة التركية. وكانت منظمات حقوقية فتحت ملف المرتزقة السوريين الذين ترسلهم الحكومة التركية إلى مناطق الصراعات والحروب الأهلية. وتحدثت في تقاريرها عن أساليب وطرق تجنيد هؤلاء، ترغيباً وترهيباً، والوعود التي تقدّم لهم بمنحهم مبالغ نقدية مغرية تتآكل وهي تمر بين أيدي قادة الفصائل والوكلاء ولا يصل لهم في النهاية إلا النذر اليسير.
وبدأ الاستثمار التركي في الميليشيات السورية المنضوية تحت ما يسمى «الجيش الوطني» الذي أسسته أنقرة في 2017 لاستخدامها في التوسعات التركية في مناطق النزاعات والحروب الأهلية، عبر دعم ميليشيات محلية راهنت عليها أنقرة في تثبيت نفوذها. وكل ذلك في ذروة سياسة التمدد التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية، في ظل الحديث اليومي عن مشاريع «العثمانية الجديدة» و«الوطن الأزرق» و«الميثاق الملي».
وكانت البداية في ليبيا بعد مذكرتي التفاهم التي أقرها البرلمان التركي في ديسمبر/كانون الأول 2019 ويناير/كانون الثاني 2020، والتي تسمح للرئاسة بإرسال قوات عسكرية لدعم حكومة الوفاق، في إطار التوسع التركي في البحر الأبيض المتوسط، وزيادة عمليات التنقيب عن الغاز والتضييق على كل من اليونان ومصر، بالإضافة إلى «تعزيز» الحضور التاريخي في ليبيا عبر دعم قوات حكومة الوفاق في وجه قوات الجنرال خليفة حفتر التي تعرضت لهزائم كبيرة، كان السلاح التركي، خاصة المسيّرات، السبب الرئيسي فيها. وفي صيف عام 2020، بدأت الحكومة التركية بإخطار الفصائل السورية الموالية لها بضرورة تجهيز مقاتلين لنقلهم إلى أراضي حليفتها أذربيجان للقتال إلى جانب الجيش الأذربيجاني ضد القوات الأرمنية بعد تجدد الصراع على إقليم آرتساخ «ناغورني قاراباغ». وتحدثت وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية عن نقل أنقرة آلاف المقاتلين السوريين كمرتزقة إلى جبهة الحرب الآذريةـ الأرمنية، قتل منهم، بحسب معلومات المرصد السوري لحقوق الإنسان، أكثر من 500 مرتزق. وكان آخر استخدام تركي للمقاتلين السوريين في الصراع الدائر في دولة النيجر الأفريقية، والتي شهدت انقلاباً عسكرياً منتصف العام الماضي، حيث قرر الانقلابيون إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية والأميركية وفتح باب التعاون مع كل من روسيا وتركيا والصين وإيران. ونقلت الشركات التركية الأمنية مئات المقاتلين السوريين إلى النيجر للتعاون مع شركة «فاغنر» الأمنية الروسية والقتال ضد خصوم النظام العسكري الانقلابي. وجاء إمداد تركيا للعسكر في النيجر بالمقاتلين المرتزقة بعد زيارة رئيس وزراء النيجر علي لامين زين لأنقرة في فبراير/ شباط 2024 ولقاءه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث اطلع على مصانع المسيّرات والمدرعات في تركيا. وكانت النيجر اشترت قبل ذلك مسيّرات من تركيا مع تصاعد التعاون العسكري بين الجانبين.
والحال أن تركيا، ورغم التغيرات الأخيرة على الأصعدة الداخلية، السياسية والاقتصادية، والإقليمية من قبيل مظاهر الانفتاح على المحيط والحديث مجدداً عن سياسة «صفر مشاكل»، إلا إنها ما تزال تتابع تنفيذ برامجها القديمة في التمدد العسكري وتثبيت النفوذ بالاعتماد على المقاتلين المرتزقة. تعتمد تركيا على هؤلاء في تمهيد حضورها العسكري والسياسي في كل الساحات التي تهدف للتدخل وتعزيز الحضور فيها. هي تتنصل من أي مسؤولية على صعيد القانون الدولي. فهؤلاء ليسوا جزءاً من الجيش التركي. وبالتالي، لا يشكل وجودهم أي عملية احتلال أو تدخل عسكري مباشر من جانب الدولة التركية. وفي حال تصفيتهم، يتم التكتم على الأمر وتمنع الأجهزة المختصة عائلاتهم من نشر أي أخبار عنهم وعن الجبهة التي سقطوا فيها. هؤلاء مسجلين كأرقام وليس كأسماء. وتتصدر بين الفينة والأخرى أخبار وتقارير عن شكاوى عائلات المقاتلين القتلى من عدم التزام السلطات التركية وقادة الفصائل الموالية لأنقرة بدفع «مخصصات» المقاتلين القتلى في جبهات ليبيا وأذربيجان والنيجر.
وكانت قوات الدفاع الشعبي الكردستاني (الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني) أعلنت قبل سنوات عن معلومات لديها تفيد بتشكيل الجيش التركي وحدات عسكرية من المقاتلين المرتزقة المأجورين من حملة الجنسية التركية، تعاقدت معهم بعقود من ضمنها شروط تلزم ذويهم بعدم إقامة مراسم عزاء لأبنائهم في حال مقتلهم في المواجهات مع حزب العمال الكردستاني. لا حضور رسمياً لهم وهم ليسوا على ملاك الجيش. لذلك، لا يتم التعامل معهم باعتبارهم «خسائر» ضمن صفوف القوات العسكرية التركية في حال مقتلهم. ولعل المشاهد المصوّرة التي بثتها وكالة «فرات» للأنباء عن لجوء جنود أتراك إلى حرق جثث زملائهم القتلى الذين سقطوا في المواجهات التي وقعت مع قوات حزب العمال الكردستاني في مرتفعات جودي، غرب منطقة الزاب، في 11 سبتمبر/ أيلول 2022 تثبت وجود مقاتلين مرتزقة يزج بهم الجيش التركي في الجبهات المتقدمة في جبال كردستان ويتخلص من جثثهم في حال وقوعهم قتلى. والآن، تستعين الحكومة التركية بالمرتزقة في حملتها الاحتلالية الحالية في إقليم كردستان، والتي تهدف من ورائها للنيل من قوات حزب العمال الكردستاني، بالإضافة إلى احتلال منطقة شاسعة بعمق 40 كم وإخلاء مئات القرى من سكانها وبناء عشرات القواعد والنقاط العسكرية.
الواضح أن الاعتماد التركي على المرتزقة في مناطق الاضطرابات والحروب الأهلية، بغية تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، لم يتراجع. فالحكومة التركية ما تزال تعتمد على الفصائل السورية المسلحة الموالية لها في تجنيد مقاتلين ونقلهم إلى مناطق الصراعات والحروب. ترى تركيا في هؤلاء «أوراقاً» في يدها تقوّي من خلالهم من موقف حلفائها من الأنظمة العسكرية الانقلابية والميليشيات الانفصالية الخارجة عن سلطة المركز. وفي الآونة الأخيرة وبعد تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن رغبته في لقاء الرئيس السوري بشار الأسد وإعادة العلاقات بين البلدين والتباحث لحل الملفات العالقة، دب الاضطراب في صفوف الفصائل الموالية لتركيا. إذ أن هناك مخاوف من أن يضحي أردوغان بهم لصالح اتفاق شامل مع الأسد يعيد من خلاله ملايين اللاجئين السوريين إلى بلادهم ويتولى ملف إعادة الإعمار، بالإضافة إلى استخدام سوريا كمعبر اقتصادي لـ«طريق التنمية» القادم من الخليج العربي عبر العراق وكممر للبضائع والسلع التركية المصدّرة إلى أسواق الأردن والسعودية. ومن هنا، يسعى قادة الفصائل السورية الموالية لتركيا إلى إظهار المزيد من الولاء والخضوع والبحث عن جهات تركية أخرى ربما تحميهم من استدارة أردوغان تجاه الأسد أو من أي عملية «غدر/مصالحة» قد يكون من بين أثمانها رؤوسهم هم وفصائلهم. ومن هنا، يمكن الإشارة إلى الزيارة التي قام بها مؤخراً كل من محمد جاسم الملقب «أبو عمشة»، قائد ما يسمى «لواء السلطان سليمان شاه»، وسيف بولات قائد ما يسمى «فرقة الحمزة» إلى مكتب دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية وشريك أردوغان في الحكومة. الواضح أن هؤلاء يبحثون عن «سلطة عليا» قادرة على تأمين حماية لهم من تبعات الصفقة القادمة التي يسعى إليها أردوغان مع الأسد، والتي من المحتمل أن يكونوا هم من ضحاياها، أو الثمن الذي يجب على أنقرة دفعه لدمشق.
في خضم الاضطراب الذي يشوب كل العالم والمنطقة: الحرب في أوكرانيا، زيادة الانفاق العسكري الأوروبي، التمدد الروسي في أفريقيا التي تجتاحها الانقلابات العسكرية، وإمكانية عودة دونالد ترامب لحكم واشنطن، تتمسك تركيا أردوغان بالأوراق التي بحوزتها بعد أن اختارت على المدى الطويل والاستراتيجي التمدد وتوطيد النفود بغية تحقيق مكاسب في جبهات جغرافية بعيدة. ما يهم الآن هو ترتيب الأوراق في الداخل وتذليل العقبات لكسب ثقة الناخب التركي الذي ظهر في الانتخابات الأخيرة في مارس/آذار 2024 أنه يفضل الانتعاش الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة على الحديث عن المشاريع الإمبراطورية المتخيلة والشعارات الدينية الأممية. ويعتقد أردوغان أن المفتاح في دمشق، وأنه من خلال إعادة ملايين اللاجئين وفتح الأسواق في سوريا وعبرها سوف ينجح في إعادة ثقة الناخب فيه ومواصلة الحكم والانصراف مجدداً إلى متابعة العمل في صنع «تركيا الكبيرة» والتصرف كدولة عظمى تفرض كلمتها في المحيط وخارجه. وضمن كل هذا، يبقى الثابت في سياسة الحزب الحاكم وحليفه توسيع الحرب على الشعب الكردي في تركيا وسوريا والعراق وتسويق هذه الحرب كونها «حماية لوجود تركيا»، فضلاً عن اتهام خصومه في الأحزاب الأخرى، وعلى رأسهم حزب الشعب الجمهوري، بأن كلامهم عن تراجع الاقتصاد وأحوال المواطنين المزرية وتفشي الفساد ودعم الحكومة للإرهاب والميليشيات المسلحة العابرة للقارات هو جزء من حملة «إضعاف تركيا» و«تعريض وجودها للخطر»، بل وحتى «المساهمة في تقسيمها»!