عشية معاهدة لوزان.. انهيار الجيش الأرمني وتفكك «الجيش الكردي» وظهور اسم «تركيا»
حسين جمو
في خريف 1920، قاد الجنرال مصطفى قره باكير قواته على الجبهة الشرقية ضد القوات الأرمنية واستعاد مقاطعات واسعة من أيدي الأرمن الذين تعرضوا لإهانة كبيرة، إذ فرض عليهم قره باكير التوقيع على معاهدة «ألكساندرا بول» في 2 ديسمبر/كانون الأول 1920، يتخلى الأرمن بموجبها عن الاعتراف ببنود معاهدة سيفر التي رسمت خريطة دولة للأرمن داخل تركيا. والأكثر خطورة أنهم التزموا بتنفيذ البند الأهم بأثر فوري وهو تسريح الجيش الأرمني والإبقاء فقط على حرس حدود لا يزيد عن 1500 جندي. كانت هذه البداية الفعلية للبراغماتية الروسية البلشفية في العلاقات الدولية، وأولى ضحاياها الأرمن حلفاء الروس.
في هذا الوقت أيضاً، لم يكن للكرد من جيش ولا قوات. فقد تفككت الألوية الحميدية خلال الحرب العالمية الأولى. وكانت بمثابة جيش كردي ذو سمعة غير حسنة. في الوقت نفسه، لم تكن هناك طبقة عسكرية كردية أساساً في بيروقراطية الجيش العثماني قادرة على إيجاد بديل عن الألوية الحميدية.
قبل هذه المواجهة الحاسمة بين بقايا الجيش العثماني والقوات الأرمنية، كانت الإبادة الجماعية ضد الأرمن مضى عليها قرابة ست سنوات. لكن رغم ذلك، لم تكن القضية الأرمنية انهارت حتى توقيع معاهدة «ألكساندرا بول» رغم تلك الإبادة التي قضت على الديمغرافيا الأرمنية إلى حد كبير وأفسحت المجال لتوسع الجغرافيا الكردية شرقاً والجغرافيا التركية شمال أرضروم وحتى البحر الأسود.
حتى ذلك الحين، كانت كردستان غير مستقرة جغرافياً ولا يعرف لها أرض ثابتة فعلاً في الجهة المحاذية لأرمينيا وروسيا (قبل إعلان الاتحاد السوفييتي عام 1922). فقسم كبير من الأراضي التي يقول الكرد إنها جزء من كردستان كانت إما في أيدي الأرمن أو ضمن مطالباتهم، من وان إلى أردهان. وتاريخياً، تشكل ولاية وان روح القضية الأرمنية. حتى عام 1921، لم يكن مصير هذه الولاية محسوماً. وفي مفاوضات معاهدة موسكو عام 1921 بين حكومة الجمعية الوطنية (مصطفى كمال) وروسيا بقيادة فلاديمير لينين، طالب الجانب الروسي بتخلي حكومة أنقرة عن ولاية وان مقابل التوقيع على معاهدة الصداقة. لقد وافق بكير سامي مبدئياً على هذا البند مقابل منح روسيا الاستقلال لشعب أوسيتيا في القوقاز، حيث كان بكير سامي ينتمي إليهم، فتخلى عن كل ولائه التركي هناك وأصبح همه تحرير شعبه و«تنصيب نفسه أميراً عليهم» على حد تعبير الوزير والطبيب العثماني – التركي رضا نور (ص 250).
قوبلت خطوة بكير سامي برفض شديد قاده رضا نور الذي أصبح عضواً في الوفد المفاوض برئاسة وزير الخارجية يوسف كمال، وعضوية رضا نور. واستطاعوا انتزاع معاهدة بتاريخ 16 مارس/آذار 1921 بدون التنازل عن أي أرض للأرمن (معاهدة موسكو). وهكذا، تم الحفاظ على ولاية وان من جانب حكومة أنقرة، وهو ما لبى تطلعات القادة الكرد في ذلك الحين ودفعهم إلى رد جميل اضطراري لحكومة أنقرة عبر دعم مصطفى كمال في حرب الاستقلال. لم يستطع الاستقلاليون الكرد فعل شيء لاستعادة ولاية وان الكبيرة في ذلك الوقت. وعزز نجاح حكومة أنقرة في استعادة الولاية المزيد من الشكوك حول الفاعلية الكردية المستقلة.
إن تقييم الموقف من لوزان ينبغي ألا يغفل نجاح الكماليين في المفاوضات مع البلاشفة. وتمت صياغة معاهدة شاملة عقب اتفاقية موسكو أطلق عليها اسم «معاهدة قارص» في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1921. والواقع، كانت الدولة منقسمة إلى حكومة أنقرة في كردستان وأرمينيا والأناضول، وحكومة السلطان في إسطنبول. كانت حكومة إسطنبول هي الطرف المعترف به لدى الدول الأوروبية. وبناء على ذلك، تم التوقيع على معاهدة سيفر في أغسطس/آب 1920. في المقابل، كانت حكومة أنقرة هي الطرف الشرعي بالنسبة لحكومة البلاشفة في موسكو. ومنحت موسكو العديد من الانتصارات التفاوضية لمصطفى كمال وراهنت على انتصاره بهدف إنهاء معاهدة سيفر ومنع تطبيقها، لأن موسكو كانت تريد إما أن تستولي هي على القسطنطينية أو تعود لسيطرة الأتراك. فالأولوية خروج الأوروبيين من تركيا وعدم تقسيمها. وأصبح الأرمن ضحية كبرى في هذه اللعبة، وفي الدرجة الثانية الكرد.
ضمن هذه الأجواء، تشكل وفد لوزان. وقبل انطلاق الوفد، كانت الجمعية الوطنية (البرلمان) اختارت اسم البلد الجديد الذي أطلق عليه «تركيا».
يكشف الوزير في حكومة أنقرة، والقيادي في وفد لوزان، رضا نور، عن مناقشات مصطفى كمال حول اسم الدولة الجديدة. «ما الاسم الذي نطلقه على الدولة؟» ويزعم نور أنه هو صاحب الفضل في اقتراح اسم «تركيا». وحتى لو كان ذلك صحيحاً، فإن إطلاق اسم تركيا على الدولة الجديدة تحصيل حاصل، لأنه لم يكن هناك مقترح بديل. فأوروبا تطلق على تركيا هذا الاسم منذ قرون. وقلّما استخدمت التسمية الرسمية في آداب وفنون أوروبا. فكان الشائع هو تركيا كإسم للدولة العثمانية، والتركي اسم يطلق على كافة مواطني الدولة العثمانية. وعلى هذا الأساس، تم تصنيف كافة العرب والعثمانيين غير الأتراك الذين هاجروا إلى الأميركيتين ضمن «الأتراك» هناك. وانعكس ذلك حتى الأدب اللاتيني مثل رواية «موت معلن» لغابرييل غارسيا ماركيز الذي كان فيه المسيحي السوري- اللبناني سانتياغو نصار هو الشخص ذو الأصول التركية.
في كل الأحوال، شارك في مناقشات اسم الدولة الجديدة حوالي عشرة أشخاص، منهم الأديبة والكاتبة خالدة أديب وزوجها عدنان أديفار قبل انطلاق مفاوضات لوزان في خريف 1922. ومما قاله رضا نور في مذكراته:
«لا لزوم للبحث في هذا (يقصد اسم الدولة)، فالاسم موجود بالفعل، وهو تركيا. إن جماعتنا – يعني الأتراك – كانوا يهتفون عبر العصور بإسم الدولة العلية العثمانية، لكن أوروبا ومنذ قرون تسمينا بإسم تركيا». ص 201
تحدث رضا نور أيضاً عن الدولة العلمانية، وهو مقترح رفضته خالدة أديب، ليس بدافع ديني، إنما حذراً. «أما مصطفى كمال، فلم يكن يفهم شيئاً من تعبير العلمانية». رغم ذلك، يرفض رضا نور مناهضة الإسلام، إنما يدعو إلى عزل الدين عن الدولة وسياساتها، ويرفض محاربة الدين في المجتمع. ولذلك يعلق على توجهات مصطفى كمال بعد الاستقلال بالقول:
«إن هذا الرجل وأمثاله مشغولون بهدم تراث الأمة التركية.. إنه يقوم بفعل كل هذا بدافع الشهرة، حتى يقال إنه داهية عبقري ويقوم بانقلابات عظيمة، لكنه ينتزع أحجار الأساس من هيكل الأمة». ص 212
أصدر رضا نور أول قرار له في منصب وزير المعارف بالتراسل الرسمي بلغة تركية نقية، ومنع استخدام الألفاظ العثمانية المليئة بالكلمات العربية والفارسية. وبالفعل، كان ركناً أساسياً من أركان سياسة التتريك الثقافي.