يتحدث تيار كبير في سوريا عن أهمية المواطنة في مواجهة أسباب ونتائج الحرب التي تعصف بالبلاد منذ نحو 13 عاماً لمواجهة مخاطر الطائفية والتطرف من جهة، وكإطار مؤسس لعملية التحول الديموقراطي المنشودة. لكننا نزعم أن مفهوم المواطنة المتداول لا يتبنى رؤية واحدة لهذا المفهوم. فهناك قراءات مختلفة لمفهوم المواطنة مطروحة على الساحة السياسية اليوم. ويبقى السؤال الأساسي هل من إمكانية لمقاربة تقرب وجهات النظر وتوفر التطمينات اللازمة لكل الأطراف عند تصور شكل الوحدة السياسية المقبل لسورية المستقبلية.
على سبيل المثال، يتبنى العقد الاجتماعي الذي أصدرته الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا صيغة قريبة لصيغة المواطنة المناطقية، والتي تأخذ – على الأقل في أحد أوجهها- حقوق الجماعات أساساً للمواطنة. ينطلق هذا التيار من حقيقة مفادها أن الأكثرية العربية حدت كثيراً من حقوق الأقليات، وعلى رأسها المكون الكردي، والذي تعرض لعقود طويلة من التهميش والإقصاء.
في حين أن هناك طرفاً آخراً يتبنى شكلاً معيارياً علمانياً وحقوقياً يستند في جوهره إلى حقوق الإنسان والمعاهدات والمواثيق الدولية أساساً له. ينظر هذا الطرف بعين الريبة تجاه حقوق الجماعات، وبشكل خاص ما يرتبط بالجماعات الدينية والطائفية، والتي يراها مهددة لعملية التحول الديموقراطي ولمبادئ حقوق الإنسان مسلحاً بالسرديات الطائفية التي أنهكت بلدين جارين هما لبنان العراق.
بينما يشدد طرف ثالث، غالبه من التيار المحافظ الإسلامي، على أن المواطنة-على الأقل في أحد أوجهها- تكريس لحكم الأكثرية المسلمة، السنية ضمناً، مع احترام حقوق الأقليات، شريطة إقرار «الأقلية» بحق الأكثرية العربية المسلمة بحكم البلاد.
ما نحاول طرحه في هذه المقالة أن خطاً وسطاً جامعاً لهذه التيارات وفهماً مشتركاً لـ«مواطنة سورية» لا يتعارض مع «حقوق الجماعات» ودون الغرق في وحل الطائفية من جهة أخرى، ما زال ممكناً. بل وربما كان ركناً أساسياً من أركان إنهاء النزاع القائم في البلاد.
تستند هذه الرؤية إلى نظرية ويل كيمليكا، الباحث الكندي الشهير، والذي يرى في كتابه المؤثر «المواطنة المتعددة الثقافات: نظرية ليبرالية لحقوق الأقليات» أن المواطنة المبنية على الحقوق الفردية وحدها لا يمكن أن تضمن حقوقاً بعينها مثل الحقوق اللغوية والدينية للمكونات الإثنية والدينية والطائفية؛ فحق حرية التجمع وإنشاء الجمعيات، كما يفترض كيمليكا، لا يكفي لحماية هوية جماعة وحقها في ممارسة طقوسها واستخدام لغتها وإلى ما هنالك من حقوق الجماعات. بل إن المواطنة التامة المتساوية التي لا تعمل على حماية مكونات اجتماعية بعينها لا تمثل إلا طغيان هوية الأغلبية على الأقلية. فالمواطنة هنا تعني لغة واحدة هي لغة الأغلبية، ولا تعترف باللغات الأخرى، هي لغات الأقليات، لأنها لا تعترف أساساً بوجود حقوق جماعة. قد يقول قائل إن حق التجمع يسمح لجماعة ما برفع مطالب، بل وطرحها في البرلمان. غير إن مثل هذه المطالب لن تكون مسنودة سياسياً بما فيه الكفاية، كون البرلمان سيكون غالباً مشغولاً بممثلي الأكثرية من جهة، ومن جهة ثانية، لا يمكن ضمان استمرار مثل هذا الحق عند تغير الظرف السياسي أو مجيئ أغلبية برلمانية جديدة غير مقتنعة بهذا الحق!
وبحسب كيميلكا، لن تحتفي دولة المواطنة المتساوية (التي لا تعترف بحق الجماعات) برموز طوائف أو ديانات أخرى. فعلى الرغم من كبر حجم الأقليات المسلمة في جميع دول أوروبا، إلّا أننا لن نجد دولة تعطّل رسمياً في أي عيد من أعياد المسلمين. في حين تحتفي غالبية دول المشرق العربي بأيام الميلاد ورأس السنة والفصح. وإذا كانت الأقليات المسلمة في أوروبا اليوم هي أقليات مهاجرة، فهي لن تبقى كذلك بعد عدة عقود (ترتسم ملامح مستقبل تلك الأقليات اليوم بالنظر إلى دراسة حال مهاجري شمال إفريقيا في فرنسا والأتراك في ألمانيا بعد جيلين أو أكثر من الهجرات). من هذه الزاوية وعلى الرغم من أن جميع دول أوروبا علمانية، لكنها في ذات الوقت ذات هوية مسيحية خالصة. وبالتالي، من غير المتوقع أن يكون للأقليات الدينية، كالهندوسية في بريطانيا، أي حقوق كجماعة. نعم وفرت العلمانية رئيس وزراء من أصول هندوسية، لكنه كان يتلو من الإنجيل في حفل تنصيب الملك تشارلز!
لا ريب أن الدولة العلمانية ودولة المواطنة في أوروبا توفر حقوقاً عظيمة للأقليات، لكنها حقوق مشروطة بالظرف السياسي وبديناميات التحولات الثقافية والاجتماعية المتغيرة بشكل مستمر. لا ضمانة لها ولا حماية. يقول كيميلكا: «الدولة لا تعارض حرية الناس في التعبير عن ارتباطاتهم الثقافية الخاصة، لكنها لا تعمل على رعاية هذا التعبير – بل تطالب الأفراد بالامتثال لهوية وطنية واحدة». ولكن الهوية الوطنية الواحدة أصبحت حيز نزاع سياسي لا ضابط قانونياً له. فما يشعر به المسلمون في فرنسا من تقييد في اللباس وممارستهم طقوسهم ليس إلا نتيجة تصاعد اليمين في فرنسا. لا يحمي الدستور الفرنسي حقوق الأقليات، بل ويعتبرها مناهضة لهوية وطنية علمانية فرنسية غير متفق عليها بين الفرنسيين. وبالتالي، فإن حقوق الأقليات تبقى في مهب الريح السياسية الشعبوية وصراع الأكثرية فيما بينها حول هوية البلاد.
لن يكون من السهل، مثلاً، أن نضمّن حق الإيزيديين في ممارسة شعائرهم وعدم طمس هويتهم إذا كانت الدولة لا تعترف بمثل هذا الدين ولا تسمح ببناء دور للعبادة لهم وتعتبرهم مسلمين. كيف ستلتزم الدولة بحماية رموزهم الدينية مثلاً؟ وكيف يمكن المطالبة بمثل هذا الاحترام من قبل جماعة لا تحظى بالتمثيل السياسي؟ هناك قناعة عامة بأن الحقوق لا يمكن أن تترسخ إلا من خلال دسترتها لكي لا تذهب ضحية الشعبويات السياسية في البرلمان. كيف ستضمن مجموعة إثنية كالكرد أو السريان أو التركمان أو سواهم مثلاً حقوقهم اللغوية لو تركنا مثل هذا الحق دون أن يُدستر؟ ما سيحدث في حقيقة الأمر أن الانتخابات ستأتي بغالبية عربية بطبيعة الحال، والتي لن يكون سهلاً إقناعها، في ظل توازنات القوة التي تفرضها اللعبة السياسية، أن توفر مثل هذا الحق لأقلية بعينها. وغالباً، لن توفر هذا الحق إلا في حال تعاضد مجموعة كبيرة من الأقليات (وربما احتاج الأمر لتحالف مع عدد من القوى السياسية التي تعمل أساساً ضمن حيز العمل السياسي الخاص بالأكثرية، مثلاً الأحزاب السياسية التي تخشى الشعبوية السياسية لليمين المتطرف كما هو الحال في فرنسا). وإذا فرضنا مجيء أغلبية برلمانية منحت هذا الحق، فكيف نضمن أن لا تتراجع عنه أغلبية برلمانية مستقبلاً؟ إذاً المطلوب هو دسترة الحقوق وعدم تركها عرضة للتجاذبات الانتخابية للأحزاب السياسية.
ولكن هذا يفضي إلى مشكلة أخرى. طرحنا أعلاه أن الجماعات يمكن أن تكون على نوعين: قومي وديني، فهل يستويان؟ وهنا يكمن السؤال الأساسي: من هي الجماعة؟ ومن هي الجماعة التي تتمتع بحقوق خاصة في الدستور، ومن هي الجماعة التي لا يحق لها ذلك؟ وما هو المعيار؟ ثم ماذا لو قررت جماعة ما فرض قيود على أعضائها، تصل إلى مستويات عنفية، بل ومهددة للحياة، في حالة مثل تغيير الدين أو منع الزواج من طائفة أخرى أو ميراث المرأة؟، فهل هذا من حقوق الجماعة؟ ومن يمثل الجماعة سياسياً؟ هل هم منتخبون إلى البرلمان؟ هل هي قياداتها الدينية أو العشائرية غير المنتخبة؟ ما الذي يعطي هذه القيادات شرعية التكلم والتفاوض بإسم مجموعات حقيقية أو متخيّلة؟. في أغلب الأحيان يكون توصيف المجموعة الهوياتية متخيلاً ولا يتطابق مع واقعها الاجتماعي ويكون فرض توصيف دستوري لها هو نوع من شرعنة غير انتخابية لقيادات لا تملك المشروعية المجتمعية أو تكون مشروعيتها اجتماعية وثقافية وليست سياسية.
عملياً، تُعرّف الجماعة نفسها وتشهر عن وجودها وفق الأطر القانونية والديمقراطية الحاكمة في البلاد. حالها كحال أي تجمع من رابطة مشجعي فريق إلى جماعات إثنية ودينية. ويحق لأي جماعة أن تطالب بالتمثيل السياسي وأن تحول مطالبها إلى برامج سياسية. غير أن مثل هذا الحق يجب أن يُرشد ويُعقلن بما يتيح حماية حقوق الإنسان الفردية والتي يجب أن تبقى البوصلة الأساسية. إذ لا مانع من أن تتشكل جماعة ما أو أن تعلن عن وجودها التاريخي وأن تضع تعريفها لذاتها كما ترى نفسها وكما تريده لنفسها. غير أن هذا يجب أن يتم، وفقاً لكيميلكا، ضمن إطارين أساسيين هما الحماية الخارجية والقيود الداخلية. يشرح كيملكا الحماية الخارجية على أنها تدابير لحماية الأقليات من التهديدات الخارجية والظلم الذي يفرضه مجتمع الأغلبية عليها، وتحديداً نحو طمس هويتها إلى حد يهدد وجودها بحد ذاته. ومن ناحية أخرى، يؤكد كيميلكا على ضرورة وجود حماية من القيود الداخلية التي تؤدي إلى فرض معايير ثقافية معينة داخل المجموعة الواحدة، ما قد يقيد الحريات الفردية. ويرى كيمليكا أنه في حين أن الحماية الخارجية ضرورية ومبررة، لكن لا يجب أن تفرض قيوداً داخلية تقوض الحرية الفردية. بمعنى، أن حقوق الإنسان الأساسية تشكل مساحة الحماية الأساسية التي تمنع تغول حقوق الجماعة على الأفراد. وبالمقابل، فإن حقوق الأفراد الثقافية والاجتماعية يجب أن تشمل حقوقها في الاعتراف بهوياتها الجمعية.
عملياً، توفر دولة المواطنة المجرّدة فرصة كبيرة للأغلبية للتعبير عن ذاتها وعن هويتها إلى حد تصبح فيه المواطنة الفردية المتساوية حجة لتثبيت هوية الأكثرية الانتخابية. ولكن هذا الحق لا يتوفر للأقليا.، بل تصبح فيه هوية الأكثرية تهديداً للأقليات، خاصة تلك التي يصعب وصولها للبرلمان. لذا، لا بد من المزاوجة بين مجموعتين من الحقوق الدستورية لحماية المواطنة للأفراد والجماعات. فلنأخذ مثلاً الأقلية الناطقة باللغة الفرنسية في كندا، والتي تعتبر واحدةً من الدول المتقدمة في مجال المواطنة والحريات. ومع ذلك، يؤكّد دستورها على اعتبار اللغة الفرنسية لغة رسمية ويمنح أونتاريو والكيبك وغيرها أوضاعاً خاصة ويفتح المجال أمام حقوق الجماعات عبر نصه على إتاحة تعزيز حقوق جماعات أو أفراد «تعرضوا إلى الحرمان بسبب العرق أو الأصل الإثني أو الديني أو اللون». كما يحظر دستور جنوب إفريقيا «حرمان الأشخاص الذين ينتمون إلى جماعة ثقافية أو دينية أو لغوية معينة من الحق، مع الأعضاء الآخرين في تلك الجماعة، من التمتع بثقافتهم وإقامة شعائرهم الدينية واستخدام لغتهم وإنشاء اتحادات ثقافية ودينية ولغوية وغيرها من كيانات المجتمع المدني والانضمام إليها والإبقاء عليها». أهمية هذين المثالين أنهما من بلدين علمانيين وليبراليين، وبذات الوقت اعترفا بحقوق الجماعات، سواء كانت دينية أم عرقية، دون أن يؤدي هذا الاعتراف إلى أي شكل من أشكال الطائفية أو المحاصصة الإثنية.
أكثر من ذلك، فإن واقع الأمر أن دستوراً كدستوري كندا أو جنوب إفريقيا العلمانيين يشرعان لمؤسسات ناظمة غير البرلمان، مثل المحكمة الدستورية، للموازنة بين الحقوق الفردية والحقوق الجماعية ولا يترك ذلك لشعبوية الانتخابات. فعندما تعارضت حقوق الإنسان مع حقوق الجماعات، قامت المحكمة في كندا بإعلاء شأن حقوق الإنسان، كما حدث عندما رفضت المحكمة الدستوري في العام 2011 مطالب السماح بالتعددية الزوجية لطائفة المرمون المسيحية، لأنها رأت أن هذا الأمر يعارض حقوق الإنسان والمساواة التامة بين الرجال والنساء. ولكنها لم تمنع تلك الطائفة من ممارسة شعائرها الأخرى ولا من المناصرة لأفكارها الدينية. ولكنها لم تسمح لها بأن تفرض سلطتها على الحياة الخاصة للمنتسبين لها بدون ارادتهم الفردية الحرة.
إذاً نستطيع استنتاج، ربما بشيء من التأني، أربع مسائل: الأولى أن المواطنة المتساوية في إطارها الفردي لا تضمن وحدها حقوق الجماعات حتى بوجود حق التجمع. ثانياً، أن حقوق الجماعات جزء من الحقوق الكلية التي تمس حق الفرد. ثالثاً، لا يجب أن تتفوّق حقوق الجماعة على حقوق الفرد فيما لو تعارضا، بل يجب إعلاء حقوق الإنسان فوق أي اعتبار آخر، علماً أن هذه المسألة ستكون حكماً موضع جدل لفترة طويلة. رابعاً، إن استيعاب حقوق الجماعات يعزز التكامل الحقيقي على أساس المساواة بدلا من إجبار الأقليات على التخلي عن هوياتهم الثقافية، كما يقول كيميلكا، أو فرض هوية ثقافية شعبوية على الأكثرية تذهب ضحيتها الأقليات كما يحدث مع تقدم اليمين المتطرف في أوروبا اليوم.
ما نسعى إليه في هذه الورقة هو توسعة النقاش بين المساحات المتاحة، بعيداً عن ثنائيات الاستقطاب السورية، وبعيداً عن فكرة مفادها أن الحقوق مسألة مطلقة إما أن تكون أو لا تكون، وإما أن تكون بشكل وفهم محدد أو أن لا تكون، فهي، ككل شيء تقريباً في حياتنا، طيف واسع من الخيارات لا يجب إهمالها