الأمن والاقتصاد.. قراءة في دوافع تركيا للتمدد العسكري
شورش درويش
عادة ما تنجح تركيا بتغليف نواياها الفعلية عند الشروع في سياسة خارجية ما. وفيما يقع التحليل على الغلاف الذي تريد أنقرة أن نقرأه، فإنها تسوق سياسة مغايرة ترتبط بمتطلّبات الكتل الأمنية والقومية المتطرّفة ومصالح رجال الأعمال المقرّبين من الحكومة، بوصفهم صنّاع السياسة وحماة الحكومة.
يتعيّن النظر إلى أبعد مما تقوله تركيا الرسمية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن جزءاً مما تقوله يعكس نبضها الفعلي، كالحديث عن استعادة أراضي الأسلاف في شمال سوريا والموصل وكردستان العراق. ثمة مزيج من الأسباب وراء تمدد تركيا وتوغّلها واحتلالها لأجزاء من أراضي جوارها في سوريا والعراق، لا ينبغي التوقّف عند ما تقوله تركيا بأنها إنما تتمدد وتشيّد مستعمرات عسكرية لأجل تعقّب مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وبالتالي إغفال بعضٍ من نواياها الفعلية.
في هذه الغضون يبرز سؤالان مفتوحان على بعضهما: لماذا تلحّ تركيا على مصالحة الأسد ومقابلته، وكيف أنها تقبل مناقشة موضوع “الانسحاب” من الأراضي السورية التي احتلتها، فيما تذهب في جولة احتلال عسكري جديد للعراق، تحديداً في إقليم كردستان، أي في البلد الذي يريد أن يكون طرفاً في مصالحة أردوغان – الأسد؟
أواسط عام 2011 أظهرت تركيا موقفاً مؤيّداً للاحتجاجات في سوريا وشرعت في تجميع وتأييد معارضي الأسد بوقوفها العلني مع “المعارضة” لاسيما القوى الإسلامية. حصل ذلك في جوّ طائفيّ قاتم جرّ سوريا لحرب أهلية كان مرتكزها تكسير سلطة الأسد وتشييد نظام عميل لتركيا، أو متحالف معها على أقل تقدير، نظامٍ جديد متخيّل مستعد لبيع موقع سوريا الجيو-اقتصادي. غير أن بقية القصة المعروفة التي ثبّطت مساعي تركيا لإلحاق سوريا بتونس “النهضة”، ومصر “الإخوان”، أدت إلى تغيير أنقرة تكتيكاتها غير مرّة، وبطبيعة الحال كان لتوجّس الولايات المتحدة، زمن حكم باراك أوباما، من تنامي النزعة الجهادية في سوريا بدعم وغطاء تركيّ، ثمّ بروز الكرد في مواقع مقارعة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” انطلاقاً من العام 2014، وتحوّلهم إلى جزء من مصفوفة إقليمية ودولية لمقارعة التطرف الإسلامي، الأمر الذي كان له الدور الأهم في التأثير على السياسة التركية، وبدء رحلة ما سيسمّى تحريفاً بـ “الاستدارات” التركية، والتي هي في الأصل تراجع واضح عن استراتيجية هزيمة الأسد، لصالح سياسات حدودية قوامها إحداث تغييرات ديمغرافية وسكانية هائلة في الشمال السوري لاسيما في المناطق ذات التواجد الكردي الكثيف أو المختلط (عفرين- رأس العين- تل أبيض)، والبحث تالياً عن مشتركات مع روسيا يأتي في مقدّمتها الضغط على الولايات المتحدة للانسحاب من سوريا.
تطلّب توسيع تركيا لـ”مجالها الحيوي” اتخاذها لذرائع عديدة باسم الأمن القومي في المناطق الحدودية في سوريا منذ عام 2016، وكردستان العراق بشكل متنامي منذ عام 2018، ولعل الذريعة الأثيرة تبقى مسألة محاربة “الإرهاب”، أو الوجه الآخر للكلمة: تعقّب التطلّعات الكردية، ذلك أن محاربة “الإلهام” الذي تشكّله نماذج الحكم الذاتي في جوار تركيا يعني في بابٍ ما ملاحقة أشباح الحكم الذاتي داخلياً. إلّا أن ما تخبّئه تركيا على الدوام هو نزعة التمدد والتوسّع على حساب سيادة الدول واستقرارها. وحتى حين تكون العلاقات في وفاق ثنائي، فإن ما أثبتته السنوات الماضية أن منهج “تصفير المشكلات” الذي برز في عهد دبلوماسية أحمد داوود أوغلو، قبل الربيع العربي، هو منهج مرحلي يتم فيه بناء أسس عميقة للتدخل في شؤون الجوار ذو “الصفر مشاكل”.
من المهم فهم الدوافع الاقتصادية لاحتلال تركيا للشمال السوري والتشبّث بدعم الجماعات المسلحة الموالية لها، وكذلك التوغّل في كردستان العراق وإقامة النقاط بالقرب من الطرق الرئيسيّة.
تقف سياسة التمدد والاحتلال على عمودين متوازيين:
أوّلاً، الهوس الأمني المنكشف على أشكال من التوحّش والإبادة وتدمير الطبيعة كما في الأدبيات السياسية التي كانت تتحدّث عن سياسات “الأرض المحروقة” للدول الاستعمارية مطلع القرن الفائت. في السياق السوري جرى اقتلاع السكان الأصليين في عفرين ورأس العين/سرى كانيه، وقرى كردية مهمشة ومهملة في شمال حلب، وإحلال آخرين مكانهم. وتمّ اتخام الشريط الحدودي بالفصائل الموالية لتركيا، فيما عكست العملية العسكرية الأخيرة بكردستان العراق والزج بآلاف الجنود وحوالي 300 دبابة وعربة عسكرية وبإسناد من سلاح الجو، رغبة في إخلاء القصبات الكردية المحيطة بمحافظة دهوك وإفراغها من السكان عبر كثافة القصف وإحراق الغابات والحقول الزراعية. ولعل إقامة قواعد ونقاط عسكرية جديدة في إقليم كردستان يعني تحويل مناطق الاحتلال تلك إلى مستوطنة عسكرية خالية من السكان الكرد لاحقاً، وإخضاع من تبقى لتفتيش الحواجز العسكرية. ينبغي في حالتي الشمال السوري وكردستان العراق اعتبار التغيير الديمغرافي الحاصل قائماً على منهجين؛ إما إقتلاع السكان الأصليين واتباع سياسة الإحلال السكاني، أو تفريغ المنطقة المُسيطر عليها، وفي الحالتين ثمة تغيير ديمغرافي أساسه الإخلاء والطرد.
العمود الثاني لسياسة التمدد ترسمها الطموحات الاقتصادية، ففي سوريا مع استحالة إحداث تغيير جذري في بنية النظام السوري تركياً، خاب أمل أنقرة في أن تصبح سوريا محطّة ترانزيت زهيدة الأجور باتجاه دول مجلس التعاون الخليجي، وجعل سوريا مستقراً جديداً للبضائع التركية بعد تدمير حلب، المركز التجاري والصناعي السوري، وتخريب البنية التحتية والتشغيلية وتفكيك المعامل والمنشآت ونقلها إلى داخل تركيا، فإن العوائد الاقتصادية للشمال السوري لا تكاد تشكل دخلاً ذي أثر في الاقتصاد التركي، ولأجل ذلك فإن إعادة أنقرة التفكير في سوريا النظام، بدل سوريا المعارضة، هذه المرّة يأتي مشفوعاً برغبة بغداد في أن توحّد حركة التجارة السياسات الإقليمية القديمة، وبطبيعة الحال ثمة مسعى لدى حكومتي السوداني وأردوغان في أن يجنح مشروع “القناة الجافّة” (أسمته أنقرة “طريق التنمية” بالشكل الذي يدمغ المشروع بطابع الحزب الحاكم) باتجاه الأراضي السورية، للتقليل من قيمة كردستان العراق كمنطقة عبور، إذ إن المشروع في خرائطه الابتدائية ينتهي عراقياً بمعبر “فيش خابور” الذي يبعد قرابة 28 كيلومتراً عن مدينة زاخو، ورغم أن دور وأهمية إقليم كردستان يبدو محدوداً في المشروع، إلّا أن هناك مسعىً فعلياً لجعل الطريق مادة أمنية لاصقة للنظام الإقليمي (تركيا، إيران، العراق، سوريا) المشغول بمحاصرة التطلّعات الكردية.
على أي حال فإن سيطرة تركيا على مساحات شاسعة داخل إقليم كردستان إنما تأتي ضمن خطّة السيطرة على جزء من أراضي العبور في الداخل العراقي وعلى المنافذ العراقية باتجاه تركيا في حال تعذّرت المصالحة مع الأسد، إذ تعي أنقرة بأن من يتحكّم في الطرق يملك اليد العليا في التجارة وبالسياسة الخارجية، وهو ما يبدو أنها تسعى إليه من خلال تجريدها – بالتنسيق مع بغداد – لإقليم كردستان من ثاني أهم مصدر للدخل بعد النفط، خاصة إذا أخذنا حجم التبادل التجاري بين تركيا والعراق بالاعتبار، إذ بلغت صادرات تركيا إلى العراق 13.8 مليار دولار عام 2022، ضمن عملية تبادل تجاري بين البلدين بلغت 15.2 في نفس العام.
يبقى أن طموحات تركيا في أن تتحوّل المصالحة مع الأسد إلى مقدمة للاستفادة من عوائد المصالحة اقتصادياً عبر إغراء الطبقة الاقتصادية وكارتيلات المال المتحالفة مع الحكومة، لاسيما فيما يخص عقود “إعادة الإعمار” واحتمال انخراط دول الخليج العربية في دعم هذا الملف لاحقاً، والاستفادة من موقع سوريا الجيو-اقتصادي كبلد ترانزيت، هذا إلى جوار دور الطبقة الأمنية المهووسة بتعقّب الكرد في وجوب إجراء مصالحة مهما بدت مكلفة على “سمعة” أردوغان. وللأسباب نفسها تحاول أنقرة الاقتراب من بغداد عبر الاتفاقيات التجارية والأمنية واحتلال أجزاء من كردستان العراق، غير أن هذا التفاؤل التركي قد يصطدم بالمصالح الإيرانية، ذلك أن “طريق التنمية” يلحق ضرراً واضحاً بالدور الاقتصادي لموانئها لاسيما بندر عبّاس، وميناء الخميني بإقليم خوزستان، وفي التوازي مع ذلك تعني الطموحات التركية التعارض بالضرورة مع المصالح الإيرانية في سوريا لاسيما خطوط الترانزيت. بالتوازي مع ذلك، تبرز القضايا الخلافية على طول الخط: ملف احتجاز تركيا للحصص المائية السورية والعراقية، والاحتلال العسكري العاري لأراضي البلدين، ووقع مثل هذه الملّفات على مسار المصالحات أو الشراكات المتخيّلة.