في مسألة “الهوية” عند السوريين

محمد سيد رصاص 

لايوجد بلد في العالم الحديث كانت حدوده الجغرافية في حالة تبدّل مثل الذي جرى مع سوريا منذ تأسيس أول كيان سياسي دولاتي سوري مع إعلان قيام المملكة السورية في يوم 8آذار/مارس1920وتنصيب الأمير فيصل بن الشريف حسين ملكاً عليها: كانت حدودها يومذاك تمتد من خط أضنة – الموصل حتى خط العقبة – رفح جنوباً. بعد أربعة أشهر ونصف دخل الفرنسيون إلى دمشق إثر معركة ميسلون، وفي الشهر التالي جرى عقد معاهدة سيفر بين الدول المتحاربة في الحرب العالمية الأولى مع الدولة العثمانية وأصبحت الحدود السورية – التركية بخط يمتد من بلدة كاراتاش شرق مرسين، ثم يتجه شرقاً  على مسافة شمالية بثمانية كيلومترات من خط حديد برلين- بغداد على خط عنتاب- أورفة- ماردين، ومن ثم إلى نهر دجلة شمال نقطة التقاء نهر خابور- سو مع دجلة على بعد شمالي من جزيرة بوتان (ابن عمر) بعشرة كيلومترات، ومن ثم بخط مستقيم من بوتان حتى دخول دجلة في أراضي بلاد الرافدين (مادة 27، قسم 2، رقم 2 من المعاهدة). في شهر تشرين الأول/أوكتوبر 1921تم عقد اتفاقية أنقرة بين الفرنسيين وحكومة (الجمعية الوطنية)التي كان يهيمن عليها مصطفى كمال ورسمت الحدود الحالية مع تركيا ومن ضمن الأراضي السورية كان لواء اسكندرون ، وهو ما تم تثبيته عام 1923في معاهدة لوزان، ثم سلخت فرنسا لواء اسكندرون بين عامي1937 و1939 وأعطته لتركيا لضمان حيادها في الحرب مع هتلر التي كانت غيومها تتجمع آنذاك، وعندما انضمّت سوريا لهيئة الأمم المتحدة عام 1945 قدّمت خريطة معاهدة لوزان خريطة لها معتبرة لواء اسكندرون منطقة نزاع جغرافية مع تركيا التي قدمت خريطة معاكسة.

على صعيد ثانٍ يتعلّق بحالة الاحتلال لأراضي سوريا، ففي عام 1967 احتلت إسرائيل مرتفعات الجولان.

وعلى صعيد ثالث ، يتعلق بالسيطرات على الأرض، وبعد حصول الأزمة السورية عام2011، فإن هناك في عام 2024 ثلاثة مناطق سورية متباعدة عن بعضها البعض أو هي في حالة لا تشابك جغرافي، ولا تخضع لسيطرة موحدة عسكرياً وأمنياً، ولا توجد إدارة واحدة لها.

هنا، ومنذ فترة مابعد جلاء الفرنسيين عام 1946، فإن هناك احساساً  وُجد عند الكثير من السوريين بأن القميص السوري ضيّق، مع ميل عندهم إلى قميص جغرافي أوسع. هذه المسألة ترجمت بميول سياسية، بتلوينات مختلفة، نحو مشروع (سوريا الكبرى) التي طرحه أوائل الأربعينيات الأمير –  ثم الملك عبدالله بن الحسين بعد قيام المملكة الأردنية الهاشمية عام 1946، ونحو مشروع (الهلال الخصيب) الذي طرح بقوة عام 1949 لحالة اتحادية بين العراق وسوريا ، ثم برزت الدعوات العروبية بطبعتيها البعثية والناصرية بالنصف الثاني من الخمسينيات وقادت لوحدة عام 1958 السورية – المصرية، ثم أتى حزب البعث للسلطة عام 1963 وفي شهر نيسان من ذلك العام جرى التوقيع على مشروع وحدة ثلاثية مصرية- سورية- عراقية مع دستور لدولة اتحادية غير اندماجية على غرار وحدة 1958، ولكن الأمر لم يتجاوز الورق بفعل خلاف عبد الناصر مع نظامي حزب البعث في دمشق وبغداد، وفي عام1979كادت تحصل وحدة سورية – عراقية أنهاها انقلاب صدام حسين على أحمد حسن البكر في يوم 16 تموز/يوليو1979. أيضاً ، كان هناك اتجاهات سياسية أخرى تريد قميصاً أوسع من قميص جلاء 17 نيسان 1946، مثل (الحزب القومي السوري الاجتماعي) الذي طرح (وحدة سورية الكبرى) ثم تبنى بالأربعينيات مشروع (الهلال الخصيب). يمكن هنا أن نضيف الإسلاميين السوريين بوصفهم باحثين عن قميص جغرافي أوسع “الوطن الإسلامي” .

يلفت النظر في هذا الصدد، أن الأحزاب الكردية القومية ، وإن كانت تقول في معظمها  بمصطلح (كردستان سوريا) إلا أنها لا تنادي بإقامة (كردستان الكبرى)، بل ترى حل القضية الكردية السورية ضمن النطاق الجغرافي السوري لعام 1946.

هنا، إذا استعرضنا الباحثين عن قميص سوري جغرافي أوسع ويرون القميص السوري لعام 1946 ضيقاً، فإننا نجد أن هؤلاء كانوا الأقوى من حيث التمثيل الاجتماعي أو من حيث القوة السياسية، ويمكن، بهذا الصدد، أن نعدّ (حزب الشعب)، المنادي بالهلال الخصيب مع القوميين السوريين، وعروبيي حزب البعث والناصريين والاشتراكيين العرب والوحدويين الاشتراكيين وحركة القوميين العرب، وحتى سياسيون كانوا مناصرين لمشروع (سوريا الكبرى) عند الملك الأردني مثل الأمير حسن الأطرش، وحتى المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين السوريين الدكتور مصطفى السباعي أيّد وحدة 1958، رغم خصام عبدالناصر مع الاسلاميين المصريين،  وقد رفضت الجماعة التوقيع على وثيقة انفصال 1961.

وإذا عددنا من أراد القميص السوري القائم وعدم تجاوزه، فهؤلاء كانوا أضعف من أولئك، ويمكن أن نعد هنا، الحزب الوطني، والحزب الشيوعي، وأحزاب كردية سورية مثل الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي، برئاسة المرحوم عبد الحميد درويش الذي كان أول من نادى بمقولة “أن القضية الكردية السورية تحل في دمشق” ، ثم منذ عام 2003 حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي ينادي بنظرية “الأمة الديمقراطية” للبيت السوري القائم، وأن حل القضية الكردية يتم ضمن حدود الدول الأربع القائمة: تركيا- ايران- العراق- سوريا، لإقامة بيت موحد متحد تلحم قومياته  المتعددة الديمقراطية وفق مبدأ المساواة للمواطنين بغض النظر عن قوميتهم ودينهم وطائفتهم وجنسهم واتجاههم السياسي،  وهي نظرية يعتبرها القوميون الكرد بأنها خارج النطاق الأيديولوجي للحركة القومية الكردية.

هذا البحث عن تجاوز القميص السوري ومحاولة ارتداء قميص أوسع يعني أن مسألة الهوية عند السوريين ملتبسة أو موضع نزاع بينهم، بين من يعتبرها “عربية سورية” أو “هوية سورية عربية تتحد مع بلدان عربية أخرى” وبين من يراها “سورية بحتة” بتلويناتها القائمة وبعضهم مثل القوميين السوريين يرونها بوجه سوري خالص متشكّل تاريخياً في بيئة جغرافية محددة من دون أن يكون هناك هوية عربية لسوريا، فيما كان الحزب الوطني يرى سوريا بوجه عربي في وضع شبيه لتحديد لبنان وفق اتفاق الطائف عام 1989.

هذه الحالة المتعلقة بمسألة الهوية عند السوريين، أي (من هم: سوريون، أم عرب سوريون، أم سوريون عرب؟) و(هل يقبلون بسوريا 1946 قميصاً نهائياً لهم؟)، لايوجد مثيل لها في أي بلد آخر بالعالم، بمافيها البلدان العربية، التي توجد بها العروبة قوية مثل اليمن والعراق، فيما بلدان عربية أخرى، مثل مصر والجزائر والمغرب، يعتبرون القميص الجغرافي القائم حالة نهائية، ومن ينادي بالعروبة هناك يقول بمدار عربي يمكن أن يقود لحالة مثل المدار الأوروبي الذي يجسده الاتحاد الأوروبي اقتصادياً لدول أوروبية.

 الآن، ومنذ بدء الأزمة السورية عام2011، يلاحظ خفوت العروبة في الخطاب السياسي  عند غالبية السوريين، وهناك اتجاه متزايد نحو القبول بالقميص السوري لما بعد17 نيسان 1946، ولكن على مايبدو أن الخلاف سيكون على شكل ومحتوى هذا القميص، وهو على الأرجح ما سيقود إلى عقد اجتماعي سوري جديد، وهو مختلف عن الذي كان قائماً ولو بشكل ضمني منذ عام 1946.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد