عن محاولات تقارب أردوغان من الأسد

د. طارق حمو 

تيقّن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الشهور الماضية من أمرين اثنين: أولاً، إن حزبه لم يعد الحزب الأقوى والأول في تركيا، وأنه بدأ يخسر شعبيته، بسبب تراكم الأخطاء والفشل في التعامل مع الملفات التي تهم المواطنين، وبذلك فتمثيله للشارع تراجع من 50% إلى 35% حسب نتائج الانتخابات البلدية نهاية مارس/آذار الماضي. وثانياً، لم تنجح صيغ الاعتماد على الميليشيات والجماعات الخارجة عن سلطة الدولة المركزية، وتوكيلها بتنفيذ السياسات والأجندة التركية، بل إن كلفة هذا الاعتماد باتت كبيرة، في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، واضمحلال طموحات “العثمانية الجديدة” أمام واقع التراجع والفشل الكبير داخلياً وخارجياً. وعليه، أصبح التغيير واجباً، وكان القرار بالعودة إلى التعاون مع “المركز” والكف عن “التمدد” من خلال الميليشيات والجماعات الطائفية والعرقية والمناطقية، كما حصل في كل من سوريا وليبيا والعراق.

في الأثناء يسعى أردوغان لقلب الطاولة على الجميع، من خلال سحب الأوراق من خصومه في الداخل، وعرض “حلفائه” في الخارج للمساومة، لصالح الأنظمة التي كان يعاديها، وكل ذلك ضماناً لبقائه في السلطة والحيلولة دون السقوط، وبالتالي إمكانية تعرضه هو والعائلة ومجمل “تركة” الفساد والنهب ودعم الإرهاب، للمساءلة والمحاسبة. وهو، من هنا، يسعى إلى “السطو” على أسلحة الخصوم في تحالف حزب الشعب الجمهوري الذي ألحق به الهزيمة في الانتخابات البلدية الأخيرة، من خلال “حل” قضية اللاجئين السوريين، والتخلص من عبء المعارضة المسلحة (صنفت أميركا وأوروبا بعض فصائلها بالإرهابيةً)، وفتح صفحة جديدة مع النظام السوري، وبالتالي يأتي “شطب” آثار وتبعات السياسة التي مارسها في الملف السوري والعمل بالضد منها تماماً، أملاً في انتزاع رضا الشارع التركي الذي يئن تحت وقع أزمة معيشية خانقة، وانصراف الحكومة عن الداخل وانشغالها بالملفات الخارجية، وإهمال الاقتصاد وشؤون المواطنين.

ولعل غاية الحكومة التركية الرئيسية في تمرير واتباع هذه السياسة الجديدة، هي إنقاذ أردوغان، وكل ذلك في ضوء التغيّرات الهائلة التي تعصف بالداخل التركي، إذ تمثّلت تلك التغيّرات بانصراف الناس عن “أوليغارشية” الرجل الحاكم وعائلته وحاشيته وانتخاب خصومه، وبالتالي سحب أهم المدن من تحت سيطرة حزب العدالة والتنمية، لصالح تحالف الشعب الجمهوري، وهو ما ينذر بخسارة وتهاوٍ أكبر في الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2028، لذلك تنصرف الماكينة الإعلامية و”التنظيرية” لأردوغان وحزبه بالتبرير لهذه السياسة المفاجئة، بوصفها “مرحلة جديدة”، وعودة حميدة إلى سياسة “صفر مشاكل”، أي الانصراف عن إثارة الفوضى والتخلي عن الميليشيات وقضم الأراضي واحتلالها في الجوار، واقتصار قنوات الاتصال السياسي والدبلوماسي على العواصم والمركز فقط.

والحال، فإن هذه السياسة ليست تحولاً في القناعة (التوقف عن دعم الميليشيات في دول الجوار، وانهاء الاحتلالات والحملات العسكرية)، بل هي إجراءات طارئة لا مناص منها، لإرضاء الشارع ونزع أسلحة المعارضة التي نجحت فيها، واستخدامها ضد الجميع وبشكل سحري عجيب، ليتحول بذلك: الحليف إلى خصم، والخصم إلى صديق وحليف قريب!

يريد أردوغان وحزبه، بهذا الانقلاب الكبير، المزايدة على تحالف حزب الشعب الجمهوري، وتنفيذ الوعود التي أطلقها للناخب بالتخلص من “عبء” اللاجئين السوريين، وقطع العلاقات مع الجماعات المسلحة، وإعادة العلاقات مع النظام السوري، والانصراف إلى الشأن الداخلي في تركيز العمل لتحسين الاقتصاد والرفع من مستوى معيشة المواطن، وتذليل الأزمات الحياتية. والرسالة هنا تقول: لا داعي لانتظار وصول المعارضة للحكم، نحن من سيعمل على تنفيذ كل الوعود، اليوم وحالاً!

ومن هنا أعمَل أردوغان كل علاقاته في تمرير “المرحلة الجديدة”، فأدخل روسيا والعراق إلى عملية المصالحة مع النظام السوري، وبث من عنده رسائل يومية إلى الرئيس السوري بشار الأسد، يريد فيها اللقاء معه والعودة إلى “الأيام الخوالي”، حيث المجالس الاستراتيجية، واللقاءات العائلية الحميمة.

وبالتوازي مع سير هذه العملية، وبغض النظر عن حالة الشد والجذب التي تنتابها، فإن الأجهزة التركية المختصة بدأت فعلاً بإعادة الآلاف من اللاجئين السوريين إلى المناطق التي احتلتها الآلة العسكرية التركية، وتسيطر عليها المعارضة المسلحة الموالية لأنقرة، وكذلك إعادتهم مباشرة إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، إذ سجلت وسائل الإعلام مئات حالات الانتهاكات بحق اللاجئين العائدين، سواء من جانب فصائل “الجيش الوطني” الموالي لتركيا، أو من جانب أجهزة الاستخبارات التابعة للنظام السوري. ورغم ذلك ما يزال الآلاف يفضلون جحيم مناطق المعارضة الموالية لتركيا ومناطق النظام السوري، على البقاء في تركيا، حيث يتعرضون بشكل يومي لامتهان كرامتهم وللهجمات والاعتداءات العنصرية عليهم وعلى مصالحهم، فيما أفضت بعض حوادث الاعتداء إلى حدوث حالات قتل وإصابات بعضها خطيرة. وكانت الأسابيع الماضية قد شهدت اعتداءات عنصرية كبيرة على اللاجئين السوريين في العديد من المدن التركية. وجاءت هذه الاعتداءات بالتوازي مع التصريحات الرسمية، من أردوغان وأركان حكومته، التي دعت النظام السوري إلى المصالحة مع أنقرة، وبحث كل الملفات العالقة، بما في ذلك ملف المعارضة المسلحة، وتسليم المناطق التي احتلتها تركيا في أعوام 2016 و2018 و2019 إلى سيطرة النظام السوري، والعمل معاً على تهيئة الأرضية المناسبة لإعادة اللاجئين السوريين في تركيا، وهم بالملايين، إلى الداخل السوري.

يسابق أردوغان الزمن لحل الملفات التي يراها السبب في خسارة حزب العدالة والتنمية للانتخابات الأخيرة، وتراجع شعبيته بشكل قد يؤدي إلى سقوط سلطته؛ فإعادة ملايين اللاجئين إلى سوريا (الكثير منهم الآن يعرضون أملاكهم للبيع، قبيل مغادرة تركيا لأي مكان آخر في العالم)، والتخلص من ملف المعارضة المسلحة، وإقامة العلاقات مع النظام السوري، ولقاء الأسد مباشرة، والعمل معاً ضد الإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا، هي ملفات ستمكّنه من استرجاع شعبيته وتجريد المعارضة من أوراقها، وبالتالي زيادة فرصه بالبقاء في السلطة. يعتقد أردوغان أيضاً، بأنه قادر على إقناع الأسد والنظام السوري باعتبار الإدارة الذاتية هي “الخطر الوجودي” على كل من تركيا وسوريا، ما يعني دفع النظام السوري ضد هذه الإدارة، حتى وأن بدا ذلك احتمالاً ضعيفاً نظراً لواقع وحال النظام، ولوجود قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب في مناطق شمال وشرقي سوريا.

كما ويعتقد أردوغان بأن فتح أبواب سوريا أمامه، من جهة النظام في دمشق، سيمنحه فرصة جديدة للتغلغل الاقتصادي في المنطقة العربية من البوابة السورية، ذلك أن تركيا تريد استخدام سوريا كمعبر بري للوصول ببضائعها إلى الأسواق العربية (الأردن والخليج العربي)، والحصول على “حصة الأسد” في عملية إعادة الإعمار، بعد انتهاء الأزمة في سوريا. لا يغيب عن التحليل أن أردوغان وفريقه يقطعان وعوداً كثيرة للشركات التركية والفعاليات الاقتصادية، بمنحها عقوداً مهمة في عملية إعادة إعمار سوريا حال عودة العلاقات مع النظام السوري إلى سابق عهدها.

ثمّة أخيراً، مسألة مشروع “طريق التنمية”، الذي من المقرر أن يربط الخليج العربي بأوروبا، مروراً بالعراق وتركيا. ويهدف أردوغان إلى أن تكون سوريا هي جزء من أرض العبور، وليس معبر فيشخابور، الذي يقع تحت سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني. لا يريد أردوغان أن تستفيد أربيل من عائدات مرور البضائع، بل يحاول أردوغان إغراء الرئيس الأسد بالمشروع والعوائد الاقتصادية المتأتية منه، وعليه، فإن الضغط التركي لصالح تمرير طريق التنمية في الأراضي الواقعة تحت سيطرة النظام، يمثّل عربوناً معقولاً لإعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق من جديد.

في تقارب أردوغان مع النظام السوري، كامتداد لسياسة بدأت منذ مدّة عبر التقارب من الحكومات في مصر وبعض دول الخليج العربي، والتشدد حيال الميليشيات والفصائل التي استخدمتها للاحتلال وتثبيت النفوذ، ثمة حسابات داخلية تتعلق بالدرجة الأولى ببقاء أردوغان وحزبه في سدة الحكم، وإفشال برامج وخطط المعارضة، في التخلص منهما ومن تركتهما الممتدة منذ عام 2002 (أُثقلت بتبعات التحالف مع حزب الحركة القومية المتطرف عام 2015).

لا يوجد في الأفق أي برنامج حل، أو تغيراً في التوجه، أو تفضيلاً للحوار والابتعاد عن لغة السلاح والحرب. إنها سياسة “إدارة الأزمة” في ظل استراتيجية ثابتة تطمح للتمدد وبسط النفوذين السياسي والاقتصادي، والتدخل في شؤون الجوار، واستخدام كل العلاقات، سواء كانت مع الأنظمة (المركز)، أو مع المعارضة، المسيطرة على الأطراف، والمخترقة من الجيش والاستخبارات التركية، لمنع التحول الديمقراطي الحقيقي في المنطقة، ومحاربة كل تمظهرات الهوية الكردية، في كل مكان وبأي ثمن.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد