حسين جمو
حدث التباس مبكر بخصوص الانتفاضة الكردية بقيادة الشيخ سعيد بيران في 14 فبراير/شباط 1925 نتيجة التضليل الإعلامي الذي مارسته الدولة التركية. فارتأى الجنرال إحسان نوري باشا، الذي كان في زيارة إلى بغداد، أن يباشر بكتابة بيانٍ يتناول الانتفاضة الكردية ويوضح أهدافها وعدالتها. وبالفعل أنجز ذلك أثناء اشتعال الثورة في شمال كردستان ضد الجمهورية وأرسله إلى إدارة الانتداب الفرنسي في سوريا.
لكن هذا البيان احتاج إلى عامين حتى لفت انتباه الإدارة الفرنسية وذلك بعد تأسيس جمعية خويبون عام 1927؛ ومذاك أصبح جزءاً من أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية. نشرت صحيفة «يني أوزغور بوليتيكا» الجزء الأول من البيان في 2021، حيث أن النسخة الكاملة جاءت في 17 صفحة وطبعت في مطبعة الاستقلال ببغداد.
وبحسب وثيقة الاستخبارات الفرنسية، خَطّ البيان باللغة التركية بقلم إحسان نوري وأُرْسِلَ فيما بعد إلى دائرة المكتب السياسي الفرنسي بدمشق، حيث كلف المكتب السياسي الفرنسي أحد مندوبيه «س. ر» ممن يتقنون اللغة التركية بترجمة البيان إلى الفرنسية وإرساله إلى مكتب بيروت المعني بشؤون جمعية خويبون بتاريخ 5 فبراير/شباط 1927.
لفت إحسان نوري الانتباه إلى محاولات الدولة في تلك الفترة تشويه سمعة الانتفاضة الكردية. وتبعثر الجيش التركي المدعوم من الدول الأوروبية بأسلحة وطائرات وعربات مدرعة هائلة، والذي ألقى بالجيش اليوناني في بحر إيجه وطارد الجيش الأرمني إلى يريفان، في جبال كردستان عام 1925 أمام عدد صغير جداً من المقاومين الكرد بقيادة الشيخ سعيد الذي لم تكن لديه أية خبرة حربية سابقة ولم يحظى بدعم أية جهة. علاوة على ذلك، وبالرغم من الهزيمة العسكرية، غرست الانتفاضة الكردية الحرية والروح الوطنية في نفوس الشعب الكردي. ويختم بيانه بالكلمات التالية:
«إن السياسيين التُرك اليوم، الذين لا يريدون تصحيح أخطائهم رغم الدروس التي لقنتهم إياها الانتفاضات العربية والألبانية، سوف يركعون أمام الانتفاضات الكردية التي لن تنتهي! وإن كانوا لا يريدون أن يقودوا البلاد وأنفسهم إلى الانهيار بأخطائهم، عليهم الإقرار بحقوق الشعب الكردي».
نص البيان الموجه إلى الانتداب الفرنسي في سوريا:
الانتفاضة الكردية (1925)
إحسان نوري 1925 مطبعة الاستقلال- بغداد
لطالما عرف الشعب الكردي مُثُلَ الحرية واعترف بها؛ وانتفض خلال القرن العشرين على نطاق واسع لتحقيق أهدافه الوطنية والتحررية. وبالرغم من وقوعه تحت حكم جيرانه ومحاولات القوى الأجنبية في استعباده، إلا أن هذا الشعب المحارب تمكن من الحفاظ على عاداته وتقاليده وثقافته. لو عمل الكرد على الانتفاضة قبل سنوات من الآن (منذ الانقلاب الاتحادي عام 1908)، لما كان يرزح تحت نير الاستبداد والاضطهاد اليوم.
كان يتم التحدث باللغة الكردية في هذه البلاد الشاسعة الممتدة إلى الغرب، من سيواس إلى أنقرة وخليج اسكندرون، وبالرغم أن جميع الأمور الرسمية كانت باللغة التركية، إلا أنه من النادر أن تصادف أشخاصاً يعرفون التحدث بها؛ وبما أن جميع القضاة كانوا من هذه الأمة (التركية) فإن إدانة المتهم أو براءته يعتمد بشكل كبير على ضمير المترجم، حيث تمت إدانة الكثير من الأبرياء بناءً على إفادتهم التي سجلت بشكل سيء لأنهم لم يدفعوا للقضاة وقضوا سنوات طويلة في السجون، وهكذا تم الدفع بعائلات كريمة وشريفة نحو البؤس؛ هذه القصة التي سأرويها لكم، سوف تمنحكم فهماً أفضل للظلم الذي يرتكبه القضاة التُرك بحق الكرد قبل انتفاضة 1925.
ذات يوم، يعود مواطن اسمه تمو ابن بوزو، من اسطنبول إلى مسقط رأسه في ملازكرت (ملاذكرد)، وبمجرد وصوله إلى منطقته شهد شجاراً بين أصدقائه، حيث تدخل الدرك التركي وزجهم جميعاً في السجن دون سؤال، ويتم نسيانهم في غياهب السجون لسنين طويلة دون سؤال أو تحقيق، وبعد فترة طويلة من الزمن (30 سنة) تبينّ بالصدفة براءته، ولدى إعلامه خبر إطلاق سراحه، انفجر باكياً! حين سُئِلّ عن سبب بكائه، أجاب: «مرت 30 سنة منذ أن غادرت اسطنبول للقاء عائلتي وتحسين معيشتهم بالمال الذي كسبته؛ تم اعتقالي رغم أنني كنت بريئاً، ضاعت حياتي منذ ذلك الوقت، وأنتم اليوم تعلنون إطلاق سراحي. لقد استعدت حريتي ولكنني اليوم طاعنٌ في السن لا قوة لي ولا طاقة، لا يمكنني العمل و كسب قوتَ يومي». واستمر في البكاء.
كان التعليم في مستوىً أفضل وأكثر تطوراً مما هو عليه الآن تحت نير التُرك، وكان يقدر أعداد خريجي التعليم العالي في المدارس العامة والدينية في بلدانهم بالمئات (انظر: تقرير أوليا جلبي عن رحلته إلى كردستان- فصل: عبدال خان)؛ وانجرفت الأمة الكردية إلى الجهل المطلق على يد التُرك، ودُمِرَت مؤسساتهم التعليمية، وبالرغم من إغلاق مدارسهم في القرى والمدن، إلا أنهم لم يعفو من الضرائب، فقد كان لزاماً على الكرد أن يدفعوا إلى خزائن أنقرة من الذهب ملء كفوفهم؛ لو كان التعليم باللغة الأم، من الطبيعي أن يكون أكثر سهولة، إلا أنه كان باللغة التركية كونها اللغة الرسمية في البلاد؛ وتسبب ذلك في هجرة الكردي للمدرسة تماماً، والذي لم يتصور أبداً أن يصبح ولده موظفاً حكومياَ في يوم من الأيام، وبالتالي يقتنع بالجهل المريح من بداية حياته، وكانت تلك المنهجية التي اتبعها التُرك كسياسة داخلية، وبذلك افتقر الكرد البؤساء إلى التعليم ولم يتجرؤوا حتى على المطالبة بحقوقهم حين حان وقت التحرك.
فاقم الموظفون الرسميون من بؤس هؤلاء المساكين بطرق يفضلونها زيادة أو نقصاناً، حيث كانت مصالح أولئك الموظفين فوق كل اعتبار، فكان المال وحده بإمكانه إنقاذ هؤلاء المساكين من إذلال الموظفين ويحميهم من المحاكم الحريصة على ملاحقة الجريمة (أي ملاحقة كل من لا يدفع)!
كان الجيش من أكثر المؤسسات طغياناً على الكرد، حيث سعى القادة العسكريون لاختلاق حججٍ لا متناهية لإلحاق الأذى بالناس، وشاهد أرباب الأسر بأم أعينهم كيف خطف العسكر اللقمة من أفواه أطفالهم، تلك اللقمة التي جاهدوا وعملوا على مدار السنة لتأمينها وسد جوع أطفالهم، وفي غالب الأحيان لم يجد الناس طعاماً ليؤكل سوى الجوز على مدار السنة. وفي بعض الأحيان كان يتم إقراضه 30 كغ من البضاعة بضعف قيمتها مقابل إيصال، ومن ثم تتم مصادرة دوابه التي يحرث بها، الأمر الذي يجعل من المستحيل أن يتمكن من حراثة حقله؛ أما العسكري الكردي، فكان يوكل إليه أكثر الأعمال إجهاداً، وينادى له بـ«الحمار الكردي».
نجح كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين من الناحية السياسية في زرع ونشر بذور فتنة وكراهية قاتلة بين المناطق الكردية الرئيسية الثلاث؛ شرناخ، باتمان، ديرجان (منطقة مقسمة حالياً ما بين أرزنجان وأرضروم).
ومع ذلك، رغم البرقيات السرية التي أرسلتها هيئة الأركان وضباط الفيلقين الثاني والسابع؛ الذين كانوا يولون الأهمية لمحاولات الإيقاع بين الأطراف الكردية، إلى قيادة الفوج الثامن عشر المتواجد في ديه (أروه) و شرناخ، رغم كل هذه المحاولات، تمكنت «اللجنة الكردية – جمعية آزادي» بكل هدوء من التوفيق بين الأطراف الكردية المتصارعة.
لقرون مضت والكرد ملزمون بدفع ضرائب الأشغال العامة، التعليم، المواصلات وما شابه ذلك، وأحياناً كان يتم تحصيل الضرائب نفسها مرتين خلال العام الواحد، رغم ذلك لم توجد طرق تربط الأحياء التي يعيش فيها الكرد بالمدن، كما لم تفتتح المدارس في قراهم.
احتكر التُرك جميع الأراضي تقريباً لتحسين مواردهم المالية، مما دفع بالمزارعين إلى الإحجام عن زراعة أراضيهم، وبذلك تصحرت مئات الهكتارات من الأراضي وتحولت لأرضٍ قاحلة.
تعترف الجمهورية التركية بوجود الأمة التركية فقط ضمن حدودها، ولكن لم تكن لتلك الأمة أن تتجاهل كردستان، بحكم اتساع رقعتها الجغرافية والناس الذين يسكنونها، إلا أنه لم يُسمح لهؤلاء الناس بتلقي التعليم وتحسين ظروفهم والمشاركة في الحياة الاجتماعية، وجرفوا الشعب الكردي إلى الفقر والعوز والظلمة الشديدة، وكان ذلك هدفهم الرئيسي.
كلمة «كردستان» حُذِفتْ تماماً من كتب التاريخ والجغرافيا وحُظِرّ استخدامها، وبدأوا بتدريس القليل عن تركيا في المدارس، كما تم تخصيص سجل بأسماء المنتمين إلى القومية التركية كي يحوزوا الأولوية في التوظيف المدني، لذلك كان على كل من يطمح لوظيفة رسمية أن ينكر أصله الكردي، وذهبوا إلى أبعد من ذلك حيث قاموا بتغيير أسماء القرى والجبال والوديان.. إلخ.
بعد تهجير الأرمن، كان التُرك يقولون: «تخلصنا من الذين كانوا ينطقون كلمة ‘زو’ وعلينا الآن طرد الذين ينطقون ‘لو’»، حيث يريدون توطين المهاجرين التُرك الذين طُردوا من اليونان في كل أرجاء كردستان، ولهذا السبب، طلبوا من ولاة الولايات إعداد الخطط والمشاريع التي من شأنها أن تمكنهم من معرفة أعداد السكان الذين يمكن توطينهم.
لأجل أن تسير الأمور بشكل جيد، من الضروري انتخاب النواب الذين يثق الشعب بهم، ولكن الحكومة ذاتها كانت تُعَيّن من تراه مناسباً في كردستان، وعندما كان لا بد من إجراء الانتخابات، كان لزاماً أن يتم التصويت للمرشح الذي تختاره حكومة الجمهورية، مع العلم أن أوراق الاقتراع كان يتم تزويرها وتعطى الأصوات قسراً إلى المرشحين المختارين؛ ولا شك أن المجلس الذي تَشَكَلَّ على هذا النحو لا يراعي مصالح الشعب، بل يلبي رغبات الحكومة. لقد سئم الكردي من كل هذه السياسات التي تمارس بحقه كل هذا الظلم وتذهب إلى درجة التدخل في معتقداته الدينية، وأحس بضرورة كسر الظلم الذي حال دون تنمية بلاده، وفيما كان يستعد للانتفاضة، دعا الحكومة إلى أن تكون أكثر عدالة تجاهه.
كان بإمكان الكرد الحصول على استقلالهم بكل سهولة أثناء الحرب العالمية الأولى والحرب التركية- اليونانية، ولكن كي لا يفاقموا سوء حال التُرك، قدم الشعب الكردي لهم معروفاً كبيراً ولم ينخرطوا في أصغر عمل عدائي. لقد أرادوا أن يراعي التُرك المصالح الكردية ويحققوا مطالبهم بعد الانتهاء من الصراع مع الروم.