كيف يُنظر إلى بنيامين نتانياهو؟
محمد سيد رصاص
هناك ساسة يثيرون خصومات ودعم في نفس الوقت. وغالباً ما يكون هؤلاء أشخاصاً مؤثرين وذوي فعالية محورية ويخافهم خصومهم ويحسبون حسابهم. وفي بعض الأحيان، يتحرك الخصوم بدلالة الضدية مع هؤلاء، أي من حالة رفضية وليس من خلال حالة بنائية لما تريد ذاتهم السياسية. ويعتبر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو من هؤلاء الساسة. فهو شاغل القوم. وهذا رأيناه في شتاء وربيع 2023 عندما طرح مشروع الإصلاح القضائي أو في فترة ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، حيث أصبح هناك معسكران في كلا الحالتين: من مع نتانياهو ومن ضده؟ ولم يكن هناك معسكر ثالث في الحالتين.
لم تكن هذه الحالة عند نتانياهو موجودة في حالة رؤساء وزراء إسرائيليين مثل ليفي إشكول 1963-1969 الذي كان يعتبر ضعيفاً أو وسطياً، وغالباً ماكان وزراء في حكومته مثل موشيه دايان أو إسرائيل جليلي أو إيغال ألون، يقودون الحكومة من الخلف في حالات محددة. ولكنها كانت موجودة عند رئيس الوزراء دافيد بن غوريون 1948-1953 ثم 1955- 1963 أو عند غولدا مائير 1969- 1974 أو مناحيم بيغن 1977-1983، وعند إسحق رابين في رئاسته للحكومة فترة 1992-1995 وليست فترة رئاسته الأولى 1974-1977.
الفرق بين نتانياهو وهؤلاء أنه يثير الاستقطاب حول شخصه، ولكنه ليس مثل بن غوريون أو غولدا مائير أو بيغن أو رابين حينما يثيرون الاستقطاب ولكن تجتمع الكراهية عند الخصوم تجاههم مع الاحترام والشعور بالهيبة. وهذا شيء لا نجده تجاه نتانياهو ليس لدى أحزاب مناهضة لحزب الليكود فحسب بل عند ليكوديين تنافسوا وتصارعوا معه مثل دافيد ليفي وإرييل شارون كانوا يكرهونه ويخافونه ولكن من دون احترام ويعتبرونه انتهازياً وخطيراً. اللافت للنظر هنا أن شخصاً مثل نتانياهو (ولد في 1949) انتسب لحزب الليكود عام 1988 قبل أن يصبح زعيمه في 1993، وهو حزب يعج بكوادر وقيادات بعضها لا يعود فقط لحزب حيروت الذي أسسه بيغن عام 1948 بل بعضهم كان في تيار الحركة الصهيونية التصحيحية بزعامة زئيف (دافيد) غابوتنسكي (توفي عام 1940) والذي وقف ضد اليسار العمالي الصهيوني بزعامة بن غوريون منذ منتصف العشرينيات. وشارك بعضهم في منظمات مسلحة أفرزها أتباع التيار مثل «إرغون» أو «ليهي: عصابة شترن» في الثلاثينيات والأربعينيات ممن شاركت بالقتال ضد البريطانيين. ثم هزم نتانياهو شخصاً بوزن شيمون بيريز في انتخابات عام 1996 والتي جرت للمرة الأولى بالاقتراع الشعبي. ويجمع الكثير من المؤرخين على أن بيريز من أكثر الساسة الإسرائيليين ذكاء وقدرة على صنع الأفكار ومنها الشرق الأوسط الجديد والانفصال الديمغرافي عن الفلسطينيين لكي لا يصبح اليهود في دولة إسرائيل بمثل مصير البيض في دولة جنوب أفريقيا.
ومن اللافت للنظر أيضاً قدرة نتانياهو على البقاء على الساحة السياسية بعد هزائم كبرى أو نكسات، مثل عودته للسياسة عام 2002 كوزير للخارجية في حكومة شارون بعد ثلاث سنوات من اعتزاله السياسة إثر هزيمة 1999 في انتخابات الكنيست، ومن ثم ظهوره كأقوى شخص في حزب الليكود بين عامي 2003 و2005 عندما أصبح وزيراً للمالية، بل وحتى أقوى من رئيس الوزراء شارون الذي عينه وزيراً للمالية مراهناً على فشله في ظل أزمة اقتصادية. ثم ما لبث أن اكتشف شارون أن نتانياهو نجح في إحداث انتعاش اقتصادي من خلال وصفات الليبرالية الجديدة التي قدمها أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو ميلتون فريدمان لرئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر وللرئيس الأميركي رونالد ريغان في الثمانينيات، أي تقليص الإنفاق الحكومي وتخفيض الضرائب ورفع الفائدة البنكية، مع اتجاه أدخله نتانياهو في الاقتصاد من خلال جعل قطاع التقنية العالية القطاع الأساسي في الاقتصاد وليس الصناعة أو الزراعة. وهو عندما عارض شارون في موضوع الانسحاب من غزة في خريف 2005، أجبر رئيس الوزراء على مغادرة بيت الليكود وتأسيس حزب كاديما مع إيهود أولمرت وتسيبي ليفني، وهو حزب تلاشى بعد مرض شارون في العام التالي وتولي أولمرت وليفني قيادته. وكان تعثر إسرائيل في حرب 2006 عاملاً اساسياً في فوز الليكود بانتخابات كنيست 2009 وتولي نتانياهو رئاسة الوزراء حتى نهاية منتصف 2021 قبل عودته في الأسبوع الأخير من عام 2022 بعد انتخابات الكنيست في حكومة هي الأكثر يمينية تضم اليمين الصهيوني القومي (الليكود) وأحزاب اليهود المتدينين من الأشكناز والسفارديم، فضلاً عن تيار الصهيونية الدينية.
عندما نقارب خريطة الحياة السياسية الإسرائيلية، نلاحظ كراهية شديدة لدى اليسار العمالي الصهيوني (حزب العمل) وعند الصهيونية العلمانية (حزب ميريتس) تجاه نتانياهو وخشية منه. وهو ما نجده أيضاً عند أشخاص في الوسط مثل يائير لابيد أو بيني غانتس أو غادي إيزنكوت، باعتباره شخصاً انتهازياً، فاسداً، ذرائعياً، ومكيافللياً. ولكنه صاحب شعبية كبرى في حزب الليكود وعند المستوطنين والصهيونية الدينية وعند جمهور المتدينين اليهود «الحريديم» وليس عند قادة أحزاب «الحريديم». ولعل هذا الأمر لافت للنظر، إذ أن أشخاصاً مثل بيغن امتلكوا نفَساً علمانياً قوياً، حيث دخل بيغن في مشاحنات كثيرة مع أحزاب «الحريديم» ولم يكن يميل لإعطائهم تنازلات في مواضيع مثل حرمة يوم السبت أو الطعام الحلال (الكوشر) وفرضها على الحياة العامة أو في مؤسسات مثل شركة طيران «العال».
المستوطنون، وكذلك أشخاص يتزعمون الصهيونية الدينية مثل بن غفير وسموتريتش، ينظرون لنتانياهو كشريك أيديولوجي، فيما يعتبره قادة أحزاب «الحريديم» انتهازياً يحتاج إلى أصواتهم في الكنيست للبقاء في منصبه ويضغطون عليه من هذا الجانب، مع العلم أن في تاريخ أسرة نتانياهو حاخامات، ويمكن تلمّس أن له ميولاً دينية ممزوجة بصهيونية قومية يمينية علمانية.
في الجو الدولي، تصادم نتانياهو مع ثلاثة رؤساء أميركيين من الحزب الديمقراطي: بيل كلينتون وباراك أوباما وجو بايدن، وكانت علاقته الجيدة مع اليميني الجمهوري دونالد ترامب. ولنتنياهو علاقة قوية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وربما هي ظاهرة عندما نجد أن كل أحزاب اليمين المتطرف، من حزب مارين لوبين في فرنسا إلى حزب البديل الألماني وكذلك ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي معجبون بالرئيس الروسي ويبادلهم هو كذلك الإعجاب. أيضاً، لنتانياهو علاقة قوية برئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي، زعيم الحزب الهندوسي الأصولي «بهاراتيا جاناتا». ونتانياهو من الساسة الإسرائيليين القلائل الذين أدركوا ضرورة عدم استناد إسرائيل فقط على الجدار الغربي، سواء الأوروبي مثل تفكير بن غوريون أو الأميركي مثل إشكول وغولدا مائير ورابين، بل أراد البحث عن جدران إضافية. وصداماته مع واشنطن والأوروبيين وعلاقاته الجيدة مع بوتين ومودي تدخل في هذا الإطار، مع إضافة أنه هو الذي استهل في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين علاقات متينة في الاقتصاد مع الصين.
كتكثيف: يمكن أن يكون نتانياهو حقق ما أراده إسحق شامير من قوله عند تسليمه مكتب رئيس الوزراء إلى إسحق رابين بعد هزيمة حزب الليكود في انتخابات عام 1992: «هذا العصر يتميز بسيطرة أصحاب السياسات المباشرة على حاملي الأيديولوجيات والرؤى السياسية البعيدة المدى. إسرائيل تُضعف نفسها من خلال ذلك وتفقد زخمها ومعنوياتها». على الأرجح، أن إفشال نتانياهو لاتفاقية أوسلو التي وقعها رابين يدخل في إطار ذلك. كما أن محاولته التعامل مع الملف النووي الإيراني (والأغلب أنه ليس القضية بل القضية هي القوة الإيرانية الصاعدة في الإقليم) باعتباره «خطراً وجودياً»، يدخل في إطار رؤية بعيدة المدى لديه بأن اسرائيل يجب أن تكون القوة الإقليمية العظمى. وصدامه مع أوباما وبايدن في الملف الإيراني ينبع من ذلك أساساً. وربما أن تشدد نتانياهو ينبع من نزعة تشاؤمية كامنة عنده قام بالتعبير عنها في 2018 خلال الذكرى السبعين لقيام دولة إسرائيل، ولكن في حديث غير معلن تسرب للصحافة، حينما أشار إلى أنه سيكسر قاعدة أن «لا دولة لليهود تجاوز عمرها ثمانية عقود».