«سدّ الذرائع» والانتخابات البلدية للإدارة الذاتية
شورش درويش
أرجأت المفوّضية العليا للانتخابات في شمال وشرق سوريا موعد الانتخابات البلدية التي كان من المزمع إجراؤها في 11 يونيو/حزيران الجاري. جاء التأجيل نتيجة لعدة عوامل ربما كان أهمها رغبة الإدارة الذاتية في سد ذرائع الحكومة التركية التي هددت بشن حرب على المنطقة حال إجراء الانتخابات، ضمن مفاضلة مفادها: إما حرمان الحكومة التركية من ذريعة أخرى لشن عدوان جديد على مناطق الإدارة الذاتية، وهي لا تعدم الذرائع على أيّ حال مهما بدت رديئة أو غير مقنعة لصنع حربٍ جديدة، أو اختيار المضي في طريق الانتخابات مهما اشتدت الكلف. وبين هذا وذاك، التمست أحزاب وكتل سياسية التأجيل لأسباب متصلة بالتحضير وقصر المدّة الزمنية لإجراء الانتخابات، وهي أسباب وجيهة لا تقلّ أهمية عن التهديدات الخارجية.
نهاية الشهر الماضي، طالب دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية المتحالف مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بالتحالف مع دمشق للانقضاض على الإدارة الذاتية. ولعله قصد بذلك أن يزجّ بجيشه وتابعيه السوريين إلى جوار قوات النظام في حرب على شمال شرقي سوريا، فيما بدا النظام السوري أكثر هدوءاً في التعامل مع سعار بهجلي ومحاولة إغرائه دمشق باسم «المصلحة المشتركة». وبالمثل، كرر أردوغان وعيده بالحرب، فيما نسج على النول نفسه وزير دفاعه يشار غولر الذي شدد على رفض حكومته فكرة إجراء الانتخابات، رغم معرفة أنقرة بعدم قدرتها على شن الحرب خارج الموافقتين الروسية والأميركية.ورغم أن أوضاع واشنطن لا تسمح لها حالياً بالخوض في جدال مُجهد مع الرسميين الأتراك، إلا أن موقف الخارجية الأميركية أبدى شيئاً من المواربة فيما خص الانتخابات البلدية، إذ اكتفت بربطها بـ«الظرف الحالي» في قراءة تمس جوهر القرار 2254 فيما خص «الانتقال الديمقراطي». وفُهم من ذلك بأنه رغبة أميركية بإبعاد غيوم الحرب التركية عن مناطق الإدارة الذاتية. بدا التصريح الأميركي أقرب للنصيحة منه للرفض، وهي نصيحة قوبلت بتفهّم من الجسم السياسي للإدارة الذاتية، وعُبّرَ عنها من خلال سرعة استجابة الإدارة لفكرة التأجيل، والتي تشبه استجابتها لنصيحة أميركيّة أسبق بإبعاد «قسد» قوّاتها عن الحدود التركية عام 2019 لئلّا تتسبب في حرب تركية مفتوحة على شمال شرقي سوريا. إذاً، فميزان العلاقة بين الولايات المتحدة و«قسد» يقوم، في جزء منه، على فكرة تعطيل أيّ عدوان تركي مهما كانت مبرراته أو توقيته.
تزدان وسائل الإعلام الموالية للحكومة التركية بمقولة إن الضغوطات التركية (التهديدات) أفضت لتأجيل الانتخابات. هذا التبجّح بإمكانية إلحاق الأذى بمناطق الإدارة وسكانها أو تجيير الحدث كيفما حصل لصالح الحكومة هو سلوك معتاد، إلا أنه يعني كذلك أن تركيا «الديمقراطية» منعت شكلاً من الانتخابات في بلدٍ يفتقر إلى التمارين الأولية على الانتخاب والتحوّل الديمقراطي. وهو ما يقودنا لافتراض خياليّ يفيد بأنه لو كانت تركيا جارة يهمها ما يجري جنوب حدودها خارج فرض سياساتها الأمنيّة والتلاعب بالمشهد الديمغرافي في المناطق الحدودية والتدخّل بمستقبل سوريا، لنظّمت وأشرفت بنفسها على إجراء الانتخابات في المناطق التي تحتلها. بل أبعد من ذلك، وجدت الآلة التركية المضادة للانتخابات ضالتها في الموالين السوريين الذين بدرت عنهم مواقف هستيرية مناهضة للانتخابات جسّدتها بيانات تنظيم الإخوان المسلمين والمجلس الإسلامي السوري والائتلاف والمليشيات المسلحة.
من بين ذرائع تركيا والملحق التركي السوري المعارض، أن الانتخابات إنما هي تكريس للانفصال الكردي، رغم أن المساحة التي تحتكم عليها الإدارة الذاتية تتجاوز المناطق الكردية إلى حيث ينعدم الوجود الكردي أو يكاد. كما أن النسبة الأعلى ممن يحقّ لهم الاقتراع هم من العرب. بطبيعة الحال، ليس هناك فُرص أمام الإدارة أو من ينوب عنها في وسائل الإعلام لدحض تهمة الانفصال بالمحاكمة العقلية البسيطة والمنطق الرياضي أو من خلال استعراض البدهيات التي يمكن أن يشير أحدها إلى أن الانتخابات البلدية لم تكن في سوريا أو في أي مكان في العالم إعلاناً للانفصال، حتى وإن غابت السلطة المركزية عن عملية تنظيم الانتخابات. يضاف إلى ذلك، أن المحاججة بالقرار الأممي 2254 فيما خص الانتقال الديمقراطي لا تتعارض مع إجراء انتخابات محلية تساهم في وضع تصوّرات أولية لكيفية إدارة السكان لمناطق تواجدهم واختيار هيئاتهم المحلية التي ستتولى هذه المهمّة التي يقودها في الأثناء معيّنون من قبل الإدارة الذاتية. أي بمعنى: كان المتوخّى من الانتخابات بلوغ مستوى متقدّم من الحوكمة أو الحكم الرشيد وتضمين السكان في هياكل الحكم، وهو ما أنفق في سبيله المجتمع الدولي مخصصات مالية طائلة عبر منظمات المجتمع المدني المحلية.
كان من المتوقع أن تثير الانتخابات تركيا لاعتبارات تخص هوس طبقتها الحاكمة بأمنهم القومي الذي يمتد إلى حيث يتواجد الكرد، لكن أن يبلغ الأمر إمكانية شنّ عدوان أو حرب على مناطق الإدارة لأجل انتخابات محلّية، فهو ما لم يكن في الحسبان بالنظر إلى طبيعة هذه الانتخابات وأثرها المحلي وطابعها الخدمي. من المثير للسخرية أن تطاول عمليات قمع الكرد داخلياً، وخارجياً، صناديق الاقتراع. فبعد أن كشفت الانتخابات البلدية التركية الأخيرة هشاشة «الديمقراطية» التركية وقدرة حكومتها على التزوير وعزل رؤساء البلديات المنتخبين وتعيين الأوصياء في الولايات الكردية، فإن مرحلة ملاحقة صناديق الاقتراع خارج تركيا باتت المهمّة الجديدة للحكومة التركية.