«أميركا أولاً» ولا شيء ثانياً
حسين جمو
خلال إحياء الذكرى 80 لإنزال النورماندي في فرنسا، انشغل قادة الغرب، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، بعقد مقارنات بين روسيا وألمانيا النازية. وهي مقارنة لا وظيفة لها أوروبياً سوى الأمل في إقناع غالبية الناخبين الأميركيين بفكرة المسؤولية العالمية للولايات المتحدة خارج حدودها، في وقت تشير استطلاعات الرأي أن فرص فوز الرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل تتعزز تحت شعار ترامب «أميركا أولاً».
في حفل النورماندي، استذكر بايدن في خطابه بطولات «فرقة الموت» الأميركية التي اقتحمت أولى الخطوط الألمانية بعد الإنزال.
وخلال كلمته، اعتبر أن الوضع السائد عشية الإنزال في 6 يونيو/حزيران 1944 مشابه لما يعيشه «العالم الحر» حالياً في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا. لكن لم يتجنب بايدن مخاوف ما يمكن تسميته «الليبرالية السياسية الأممية» التي تربط بين ضفتي الأطلسي (أميركا – أوروبا) من كابوس فوز ترامب بالرئاسة وما يحمله ذلك من تعزيز انتشار انعزال أميركا عن العالم.
لذلك، حرص بايدن على التشبث بالمقارنة بين زمنين متصلين، زمن النورماندي المتصل بحلف الناتو، وزمن هتلر المتصل بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقدم هذا الربط حين وجه التحية للمحاربين المشاركين في إنزال النورماندي: «بفضلهم، انقلبت الحرب. لقد وقفوا ضد عدوان هتلر. هل يشك أحد في أنهم يريدون أن تقف أميركا ضد عدوان بوتين هنا في أوروبا اليوم؟». وتساءل في خطابه عما إذا كان أي شخص يعتقد أن هؤلاء المحاربين لو كانوا بيننا اليوم يريدون أن «تسير أميركا بمفردها».
يتقاطع خطاب بايدن مع قلق الأوروبيين من السير في العالم بدون الولايات المتحدة في حال تسلم ترامب الرئاسة مجدداً وواصل نهج «أميركا أولاً» الذي يعني في الوقت نفسه أن «لا شيء ثانياً». والواقع أن ترامب نجح في دفع الحزب الديمقراطي إلى عدم التقليل من مركزية «أميركا أولاً» لكن مع فارق أن الديمقراطيين لديهم «ثانياً» وهم حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وإسرائيل وشرق آسيا، إضافة إلى اختلاف في مقاربة كل من الطرفين لـ«الآخرين في الشرق الأوسط غير إسرائيل». ما العمل مع شركاء وحلفاء «الدرجة الثانية» في الشرق الأوسط؟ وما حجم الالتزام الأميركي تجاههم في حال تعرضهم لمخاطر أمنية كبيرة؟ تجربة بايدن تشير إلى أن إسرائيل وحدها من لها امتياز الالتزام الأميركي الثابت تجاه أمنها باعتبار إسرائيل فقط هي حليف من «الدرجة الأولى» في الشرق الأوسط. أما البقية، بما في ذلك السعودية، فإنها تراجعت في سلم التحالف مع واشنطن، حتى أن الرياض وأبوظبي لم تشاركها في عملية أمن البحر الأحمر ضد الحوثيين رداً على قصفهم المتكرر لإسرائيل، رغم أن إسقاط الحوثيين من أولويات العاصمتين.
أما الالتزام الأميركي تجاه الشركاء الأمنيين في العراق وشمال وشرق سوريا، فهو مرتبط بما إذا كانت الولايات المتحدة ستعيد تعريف هذه الشراكة بما هو أبعد من مكافحة تنظيم داعش الإرهابي وإدخالها في إطار أمني جديد بالتوازي مع مساعي الولايات المتحدة نقل ثقلها الاستراتيجي إلى منطقة المحيط الهادئ، والتي تواجه عقبات كبرى جراء المخاطر المحدقة بإسرائيل واضطرار الولايات المتحدة إلى التواجد – مؤقتاً على الأقل – في محيط إسرائيل عسكرياً. وقد تضطر الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في كافة خططها طويلة الأمد في إخلاء الشرق الأوسط، بما في ذلك إعادة تعريف وجودها في شمال شرق سوريا، ليصبح في إطار استراتيجي شامل وليس محصوراً فقط بمحاربة تنظيم داعش. ومثل هذا التغيير ليس سهلاً من الناحية التشريعية في الولايات المتحدة، ويتطلب تجديد التفويض من الكونغرس لتصبح منطقة شمال وشرق سوريا (الإدارة الذاتية) ضمن الأصول الاستراتيجية للاستقرار إلى جانب حلفاء – الدول – الولايات المتحدة، مثل دول الخليج والأردن. ولن ينجح هذا طالما أن الدبلوماسية الأميركية تعتمد على أدوات قديمة في واقع جديد كلياً، ومنها اعتمادها على قواعد مطلع التسعينيات بعد نهاية الحرب الباردة، مثل اعتبار تركيا عنصر توازن أمام إيران، وهذا افتراض ساذج، لأن حدود التنافس والصراع بين إيران وتركيا صلبة وواضحة وغير قابلة لتوتر استثنائي، وهو ما أثبتته سنوات الحرب في سوريا.
«أميركا أولاً»
ما أوضحته خطابات النورماندي ونتائج الانتخابات الأوروبية وتقدم تيارات اليمين المتطرف أن الليبرالية تتعرض لضربات قاتلة في معاقلها التاريخية. وتحتاج هذه الليبرالية إلى خطاب جديد وأدوات مغايرة. ولعل التيارات اليمينية والشعبوية أفادت في إجبار هذه «الليبرالية السائدة» بنفحتها اليسارية الأطلسية بمراجعة بطيئة لا تتناسب مع وثبة «الليبرالية اليمينية» و«الليبرالية القومية» السريعة. لذلك، تعد الانتخابات الرئاسية الأميركية حدثاً تأسيسياً في مسار الأيديولوجيات الكبرى الجديدة، ففي حال فاز ترامب، وهو احتمال تستعد له أوروبا جيداً، سيكون العالم أمام عملية إعادة تشكيل قاسية للنفوذ الجيوسياسي.
قدم الكاتب هال براندز قراءة في مستقبل الولايات المتحدة والعالم في ظل شعار «أميركا أولاً»، فكتب في مجلة «فورين أفيرز» أن «نسخة كهذه من الولايات المتحدة لن تنسحب بالكامل من الشؤون العالمية. وفي بعض القضايا، قد تكون أكثر عدوانية من ذي قبل، لكنها ستكون أيضاً أقل اهتماماً بالدفاع عن المعايير العالمية وحماية الحلفاء البعيدين. وسوف تصبح سياستها الخارجية أقل التزاماً بالمبادئ والقيم. ستمتلك هذه النسخة من الولايات المتحدة سلطة هائلة لكنها ستفتقر إلى أي إحساس كبير بالمسؤولية».
يضيف براندز أن العواقب ستكون وخيمة؛ فالسياسة الخارجية الأميركية في وضع متراجع كهذا من شأنها أن تنتج عالماً أكثر شراً وفوضوية.
الصبر على صراخ ترامب!
في مقال آخر، كتب رئيس وزراء أستراليا الأسبق مالكولم تورنبول في «فورين أفيرز» عن تجربته مع ترامب، خاصة المكالمة الشهيرة التي صرخ فيها الرئيس الأميركي حينها على تورنبول بسبب اتفاق نقل لاجئين من أستراليا إلى الولايات المتحدة كانت وقع في عهد سلفه باراك أوباما.
وصف تورنبول المكالمة بالقول: «كان من المخيف أن يصرخ في وجهي رئيس الولايات المتحدة، لكنني صمدت. وبحلول نهاية المكالمة، وافق ترامب، على مضض كبير، على المضي قدماً».
توجه تورنبول بالنصيحة إلى نظرائه الأوروبيين وحلفاء الولايات المتحدة في حال فوز ترامب. طلب منهم أن يتركوا ترامب يصرخ عليهم على أمل أن يهدأ أخيراً!
التسليم بالهزيمة
في عهد الرؤساء أوباما وترامب وبايدن، ارتكزت استراتيجية الدفاع الأميركية على فكرة متفائلة مفادها أن الولايات المتحدة لن تحتاج أبداً إلى خوض أكثر من حرب واحدة في وقت واحد. خلال إدارة أوباما وفي مواجهة التقشف المالي، تخلت وزارة الدفاع عن سياستها طويلة الأمد المتمثلة في الاستعداد لخوض حربين كبيرتين والفوز فيهما للتركيز على اكتساب الوسائل اللازمة للقتال والفوز في حرب واحدة فقط. أدت هذه الخطوة إلى تسريع الاتجاه نحو جيش أميركي أصغر. كما أنها أدت إلى تضييق الخيارات المتاحة لصانعي السياسات في الولايات المتحدة، نظراً لأن الالتزام بها يتطلب إنفاقاً أكبر وانتشاراً أوسع في الخارج. اليوم، باتت هذه الاستراتيجية في موقع المساءلة. ويبدو أن التوترات المتباعدة جغرافياً تتطلب العودة إلى استراتيجية جورج بوش الابن في خوض حربين كبيرتين في وقت واحد أو التسليم بهزيمة «عولمة الليبرالية»، وهي أيديولوجيا باتت رثة ومستفزة أمام نسخة جديدة من الأيديولوجيات القومية.