المركز الكردي يناقش مسألة اللامركزية في سوريا

قدم المركز الكردي للدراسات في التاسع من شهر يونيو/حزيران الجاري برنامجاً حوارياً، باللغة العربية، تحت عنوان «سؤال اللامركزية في سوريا: التجارب والمطالبات». واستضاف البرنامج، الذي قدمه الزميل شورش درويش، الباحث في قضايا الحوكمة د. زيدون الزعبي.
وبدأ البرنامج بتقييم مسألة اللامركزية في سوريا تاريخياً، بدءاً من إنشاء ولاية سوريا عام 1861، مروراً بالدستور الهاشمي في عهد الملك فيصل عام 1920، والتجارب الإدارية في تقسيم سوريا إلى أربع دويلات خلال الانتداب الفرنسي، وصولاً إلى النظام شديد المركزية ومن بعده المرسوم رقم 107 لعام 2011.
وقال د. زيدون الزعبي إن سوريا شهدت إصدار دستورين ديمقراطيين لم يكونا تحت سلطة الاستبداد أو الانتداب، وهما: مشروع دستور عام 1920 وكان ذا محتوى فيدرالي لا مركزي، ودستور عام 1950 وكان دستوراً لدولة أحادية تتمتع بقدر كبير من اللامركزية، موضحاً بأن سوريا عبر تاريخها كانت تتمتع بعدة مراكز أو دويلات فيدرالية مثل حلب ودمشق ودير الزور وغيرها من المناطق.
ولفت د. الزعبي إلى أنه هناك خلط بين مصطلحي الفيدرالية واللامركزية السياسية. فالفيدرالية نظام يتضمن مستوي حكم وطني ومحلي، وهو شكل من أشكال التشريع المحلي. وفيه، ينقسم البرلمان إلى غرفتين، واحدة تمثل المناطق والأخرى تمثل الشعب، بشرط أن تكون غرفة المناطق هي الغرفة العليا، وأن يكون لها صلاحيات حصرية وليست استشارية. بمعنى، أن يتم تشارك السلطة بين المركز والإدارات المحلية. وبيّن أن فكرة الغرفتين نشأت في الولايات المتحدة، حيث كان هناك غرفة مجلس النواب في البداية بحيث يتم تمثيل كل ولاية حسب عدد سكانها. ولكن بسبب التفاوت الكبير في الكثافة السكانية للولايات، تم إنشاء غرفة مجلس الشيوخ حيث يكون نسبة تمثيل كل الولايات متساوياً. والغرفتين معاً، تشكلان الكونغرس الأميركي الذي يملك الصلاحيات العليا مثل إقرار الحرب والسلم وغير ذلك من القرارات الكبرى.
وللمزيد من الشرح في فكرة الفيدرالية، قدم د. الزعبي مثال الاتحاد الأوروبي. وقال إن دولاً صغيرة، مثل بلجيكا وسويسرا، تتمتع بنظام فيدرالي، وكذلك الدول الكبيرة مثل كندا وروسيا تعتمد الفيدرالية، مشيراً إلى أن المؤشر الأهم للديمقراطية في دول الاتحاد الأوروبي يعتمد على مستوى اللامركزية المطبق فيها. ويتم تقسيم مؤشر اللامركزية إلى ثلاثة أقسام: لامركزية إدارية، لا مركزية سياسية، لا مركزية مالية. وأوضح أن هناك دول أحادية مثل لاتفيا تتمتع بمؤشر جيد جداً بالديمقراطية لأنها استطاعت أن تحقق اللامركزيات الثلاث إلى حدّ كبير وأن توزع الصلاحيات على الإدارات المحلية بشكل فعلي. كما نلاحظ أن هناك دولاً فيدرالية ولكن مؤشر اللامركزية السياسية أو المالية لديها متدني، مثل إسبانيا أو إيطاليا.

وبالحديث عن تجربة العرب في عهد الامبراطورية العثمانية، قال د. الزعبي إن العرب، إلى جانب القوميات الأخرى كالكرد والأرمن وغيرهم من سكان بلاد الشام، كانوا يطالبون العثمانيين باللامركزية والاعتراف باللغة العربية لغةً رسمية في مناطقهم وببعض الصلاحيات المالية، دون المطالبة بالانفصال عن الدولة العثمانية. ولكن عندما قوبِلت مطالبهم بالرفض القاطع من قبل السلطان العثماني، عملوا على تأسيس تشكيل سياسي هو «عصبة الإدارة اللامركزية»، وقرروا بعدها الانفصال بمساعدة الفرنسيين والبريطانيين.
وتابع د. الزعبي أنه وطيلة فترة السلطنة العثمانية لم تكن هناك سوريا موحدة بشكلها الحالي. وعندما تم إنشاء ولاية سوريا عام 1861، أرادوا أن يؤسسوا نظاماً فيدرالياً، حيث كان الخوف من أن تؤدي المركزية الشديدة إلى تعزيز رغبة الانفصال لدى المناطق، موضحاً أنه بالنسبة إلى دستور سوريا عام 1920 كان لكل ولاية مجلس منتخب، وهناك مجلس شيوخ يمثل الولايات ومجلس نواب يمثل الشعب. وكان ثمة إعجاب بالنموذجين الأميركي والبلجيكي. وأردف: «نستطيع القول هنا إن السوريون اختاروا النموذج الفيدرالي عندما أعلنوا الاستقلال عن الدولة العثمانية درءاً لمخاطر التقسيم». أما عن دستور سوريا عام 1950، فأشار د. الزعبي إلى أنه تم تعديل النظام إلى دولة أحادية. وجاء هذا التعديل كردّ فعل على مخاوف أن تتحول كل ولاية إلى دويلة مستقلة. ولكن كان النزوع نحو اللامركزية السياسية واضحاً كذلك في دستور 1950، حيث نصّت إحدى مواده على أن يُنتخب ثلاثة أرباع مجلس المحافظة ويتم تعيين الربع الباقي من قبل المركز، مع منح صلاحيات سياسية وإدارية ومالية لمجلس المحافظة.
ولفت الباحث في قضايا الحوكمة إلى أن اللامركزية ليست أيديولوجيا حتى يتم رفضها أو تبنّيها، إنما هي نظام تقني لإدارة البلاد. ومن هنا، فلا مخرج لسوريا بدون اللامركزية، فالأمر ليس خياراً. فإما أن تكون سوريا لا مركزية أو أن وجودها سيكون مهدداً. فالتجارب الديمقراطية في سوريا كلها أخذت باللامركزية وذلك باستثناء النظام السوري في عهد الانتداب الفرنسي 1928-1930.
وبالحديث عن الوضع الحالي في سوريا، أشار الباحث إلى أن المركزية الشديدة للدولة السورية تعتبر السبب الرئيسي في خلق حالة «اللاانتماء» للهوية الوطنية السورية. فالتعددية الاثنية التي تتمتع بها سوريا تتطلب بشكل لا بد منه نظاماً تعددياً لا مركزياً. وذكر أن سياسة التهميش التي اتبعها النظام السوري على مدى عقود طويلة تجاه الهويات المحلية واحتكار الموارد والتفرّد بالصلاحيات لدمشق جعلت المواطنين أكثر تمسكاً بهوياتهم المحلية وأكثر نفوراً من الهوية الوطنية الجامعة. وأوضح أن هذا لا ينطبق على الكرد أو التركمان أو الشركس فحسب، إنما على العرب ممن عانوا من التهميش والذين أضحت نزعتهم المحلية أعمق في دير الزور والسويداء وغيرها من المناطق السورية.
كما لفت الباحث إلى أن الدستور السوري، منذ بداية تشكيله وحتى السبعينات، تميز بنوع من احترام الهوية الوطنية السورية كهوية جامعة للاثنيات المتعددة. ولكن في عام 1973، جاء الدستور بمركزية وتطرّف شديدين للهوية العربية أو «العروبة» كهوية الدولة المفروضة على الجميع، حيث بالإمكان القول إن الهوية الوطنية السورية ماتت حينها.
وفي نهاية الحوار، وعند سؤال الزميل شورش درويش عن الصيغة الناجعة لتطبيق اللامركزية في سوريا المستقبل والذي سينقذها من التقسيم، بيّن الباحث في قضايا الحوكمة أن أنجع صيغة للنظام السوري القادم هو تطبيق اللامركزيات الثلاث (السياسية، الإدارية، المالية) مع الحفاظ على شرط تطبيقها بشكل مترافق دون إهمال إحداها. وعند تطبيق هذه اللامركزيات، لا يهم حقاً ماذا ستكون التسمية المستخدمة للنظام، سواءً كان فيدرالية أو إدارة ذاتية أو ما إلى ذلك من التسميات. فالأمر الوحيد الذي سيوحّد الأراضي السورية المقسمة حالياً هو تطبيق نظام تعددي لامركزي ديمقراطي.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد