الاتفاق السعودي الأميركي يحدد ملامح الشرق الأوسط

 شورش درويش
تحثّ واشنطن والرياض الخطى لإكمال الاتفاقية الأهم في تاريخ البلدين منذ عام 1933، إذ ستشمل حال نجاحها خططاً لتزويد السعودية بأسلحة متطوّرة تشمل مقاتلات إف- 35 بالشكل الذي يمكّنها من تعزيز منظومتها الدفاعية وتصبح طرفاً قادراً على مواجهة المخاطر الجيوسياسية التي تحيق بها، وتعزيز التعاون في مجالات الذكاء الاصطناعي. والأهم من ذلك، مساعدتها في إنشاء مفاعل نووي مدني من شأنه أن يعادل من حدّة الاندفاعة الإيرانية لأن تصبح قوة نووية في المنطقة.
تتوخى الولايات المتحدة من وراء هذه الاتفاقية إطلاق عملية التطبيع الدبلوماسي بين السعودية وإسرائيل، وتشكيل كتلة باتت يسري الحديث عن أنها ستكون بمثابة «ناتو شرق أوسطي» لمجابهة إيران والحد من أدوارها الإقليمية. داخل هذا المشهد المبني على كسر الاحتمالات من أن تكون عملية 7 أكتوبر التي قامت بها حركة حماس عطّلت جملة السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، يُبرز الاتفاق دور الرياض كقوة قادرة على قيادة المنطقة على أنقاض الصعود المؤقّت للقطبين الإقليميين، إيران وتركيا، وتهافت مشاريعهما في التوسع داخل المنطقة العربية.

الاتفاقية تمهّد الطريق لتشكيل حلف دفاعي شرق أوسطي

في وقت سابق من عام 2022، جرى الحديث عن إنشاء تحالف دفاعي عربي أو «ناتو عربي» حين اضطلع العاهل الأردني عبدالله بن الحسين بمهمة التذكير بأهمية الحلف التي ظهرت أول مرة خلال قمّة جمعت الرئيس الأميركي باراك أوباما بالدول الخليجية في كامب ديفيد عام 2015. كما استكمل الرئيس السابق دونالد ترامب الفكرة، مؤيّداً هذا المسعى الذي بات أكثر وضوحاً في فترة الرئيس الحالي جو بايدن. وتبدو صيغة الناتو العربي قابلة للتوسعة لتشمل إلى جوار الدول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر، إسرائيل أيضاً، وكل ذلك ضمن مظلة شرق أوسطية غايتها مجابهة التوسع الإيراني في المجال العربي والحدّ من انتشار المجموعات المرتبطة بها.
داخل البيت الخليجي، يمكن ملاحظة حصول تبدّلات تأتي في صالح ترتيب القاطرة الخليجية بقيادة سعودية. فإذا أضفنا الكويت إلى السعودية والإمارات والبحرين وعُمان، فإن الواضح أن سلطتها التنفيذيّة أضحت طليقة اليدين مع صدور الأمر الأميري للشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح القاضي بحلّ مجلس الأمة الكويتي ووقف العمل ببعض مواد الدستور لمدة لا تزيد عن أربع سنوات، وهو ما يعني إراحة الحكومة الكويتية من ضغوطات مجلس الأمة وتحرّكات القوى الإسلامية بداخله وقدرة الحكومة تالياً على المضي في مشاريع جديدة. أما فيما يخص الجانب القطري، فتلقّى انتقادات أميركية لاذعة نتيجة دوره المنحاز لصالح حركة حماس، ما تسبب في إعادة نظر القطريين لسياساتهم المؤيّدة للحركة تحت غطاء أدوار الوساطة.
قد يكون وضع دول مجلس التعاون الخليجي في أمثل حالاته، رغم امتعاض قطر غير المعلن، للبدء في الخوض في مشاريع دفاعية تتجاوز الحماية الأميركية الثابتة. إن التصوّرات الأولية عن قيام حلف دفاعي شرق أوسطي لا يكتمل دون انخراط الأردن ومصر بداخله، وهو ما قد يتحقق بالنظر إلى رغبتهما في أن يبقيا داخل لعبة التبدّلات الكبرى في المنطقة. يضاف إلى ذلك، تراجع أدوار مصر الإقليمية وعدم رغبتها في أن تتحوّل إلى قطب على الطريقتين التركية والإيرانية على ما يحمله مثل هذا الأمر من أكلاف ومغامرة غير مجدية.
يعتمد الانتقال من صيغة «الناتو العربي» إلى آخر «شرق أوسطي» دخول مجموع الدول العربية هذه في حلف دفاعي مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما يعني تشكيل كتلة شبيهة بحلف الناتو الذي كانت مهمته منذ تأسيسه في 1949 وقف التمدد السوفيتي غرباً والتصدي لاحقاً للمعسكر الشرقي بمسمى حلف وارسو الذي تأسس في 1955. وفي الحالة الراهنة، قد تكون إيران هي المكافئ لما كان يمثّله الاتحاد السوفيتي. ولأجل تحقيق مزيد من التوازن، فإن تحييد سوريا عن المدار الإيراني يدخل في الأهداف القريبة للسعودية التي أبدت انفتاحاً على دمشق وأعادت سفيرها إليها. ثمة إشارات ضعيفة حتى الآن تشي بإمكانية أن تخفّض دمشق من حدة تشبيكها السياسي والعسكري بإيران مقابل عوائد سياسية واقتصادية عربية برعاية سعودية. وداخل هذه الأجواء أيضاً، فإن أوضاع العراق الداخلية تعرقل انضواءها في أي حلف خارجي رغم الحضور الإيراني الوازن في المشهد العراقي.

التطبيع و«تعريب» القضية الفلسطينية

داخل هذا التصوّر، تحتل السعودية الموقع القيادي الأوّل للمضي في تأسيس مثل هكذا حلف دفاعي لاعتبارات متصلة بقدرتها على إنجاح مشروع الممر الهندي الأوروبي عبر ميناء حيفا، وقدرة قيادتها الحالية على تجديد المضيّ في طريق التطبيع العربي مع إسرائيل انطلاقاً من تطبيعها نفسها، رغم أن التطبيع أمسى معقوداً على الوصول إلى تهدئة في غزة وأنه يتطلّب «مساراً موثوقاً به لإقامة دولة فلسطينية» على ما قاله وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في جلسة استماع أمام لجنة المخصصات المالية في مجلس النواب. ولعل كلمة السر في الاتفاق الدفاعي العريض، الذي بات «على بعد أسابيع» وفق بلينكن، يتوقّف أولاً وأخيراً على التطبيع، فمستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان رفض الفكرة ما لم تؤدي إلى تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
في المستوى النظريّ، من شأن التطبيع أن يعيد ترتيب صورة المنطقة حال اقترانه بإنشاء دولة فلسطينية بالشكل الذي يعيد القضية الفلسطينية لأفقها العربيّ بعد أن أدخلتها إيران وتركيا في مدار مساوماتها السياسية مع الغرب واستثمرتها محلّياً. قد يؤدي «تعريب» الملف الفلسطيني إلى الحد من البعد الدعائي الذي يجيد نظامي إيران وتركيا الاشتغال عليه مع إلحاقهما لمليشيات وقوى سياسية إسلامية تتغذّى على شعارات المقاومة والممانعة، وحالياً «المقاطعة» كما في الحالة التركية. وبالتالي، فإن عملية التطبيع دون إيجاد مخرجات متصلة بالدولة الفلسطينية سيبقي على ظهر حركة التطبيع، والسعودية أولاً، مكشوفة لعداء المعسكر الإيراني، وهو الأمر الذي تدركه الإدارة الأميركية الحالية في محاولاتها لعقلنة خطاب اليمين الإسرائيلي وسياسات رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو التي تعرقل قطار التطبيع وما يلحقه من مشروعات ضخمة كالممر الهندي الأوروبي، وربما إجهاض فكرة الناتو الشرق أوسطي.

في المحصّلة

تتخطى العوائد السياسية للاتفاق الأميركي السعودي ما هو راسخ بين البلدين قبل إبرام الاتفاق. فهو يعني تطويب السعودية قطباً إقليمياً في موازاة إيران بعد تراجع أدوار مصر الخارجية وسوء تصرّف تركيا لجهة إلحاقها الضرر بالسياسات الأميركية في الشرق الأوسط، في مقابل إفساح الاتفاق المجال لجملة منافع منها: إمكانية اعتماد المنطقة العربية عن نفسها في مواجهة السياسات التوسّعية الإيرانية، وإيجاد بديل محلّي (شرق أوسطي) بدل عمل إسرائيل والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي كلّاً على حدا. ويعني ذلك تخفيف الضغط على الولايات المتحدة للتفرّغ لمسائل أهم كتطويق التمدد الروسي غرباً، وتعقّب الصين، ذلك أن دخول واشنطن في حالة اللا حرب واللا سلام مع طهران يستنزف قواها في معركة مستدامة وهامة لكنها غير مصيرية بطبيعة الحال للولايات المتحدة.
ولئن كان كل شيء يبدو يسيراً أمام إبرام الاتفاق، فإن ثمّة محاذير داخل واشنطن تشير إلى احتمال تورّطها في سباق التسلّح النووي في المنطقة. فإذا كان صحيحاً أن الحروف الأولى للاتفاق نصّت على أن يكون المفاعل النووي مدنياً، إلّا أن رغبة السعودية في امتلاك السلاح النووي، حال امتلاك إيران ذلك، يعني إمكانية أن ينزاح المشروع النووي السعودي عن مسعاه الأساسي. إذ سبق لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن صرح بأن «بلاده ستطوّر قنبلة نووية إذا أقدمت إيران على تلك الخطوة». وتثير هذه المسألة بعض الأوساط النافذة داخل واشنطن التي بدأت تبحث عن ضمانات لمنع انتشار السلاح النووي. ومن ناحية أخرى، هناك احتمال ضعيف من أن لا يتوقّف الاتفاق على مشروع التطبيع، إذ يمكن لواشنطن أن تمضي في تعزيز شراكتها في المملكة إذا استمرّ الاستعصاء السياسي داخل أروقة تل أبيب السياسية وعدم انصياعها لنصائح إدارة بايدن، خاصة تلك التي بدأت تشير إلى وجوب وضع تصوّرات لنهاية الحرب في غزة والتفكير بشكل أوضح باليوم التالي لتوقّف الحرب وإعادة الحياة لفكرة إقامة دولة فلسطينية مرة أخرى.
في المحصلة، ثمة ملامح لشرق أوسط مغاير لذلك الذي حاولت إيران وتركيا ترسيخ صورته بوصفهما «شرطيي المنطقة»، ودائماً بالاتكاء على حضور القضية الفلسطينية. إن اعتماد حلفاء واشنطن على أنفسهم هذه المرّة يدخل في عداد السياسة الجديدة التي جهدت الإدارات الأميركية الثلاث الأخيرة للعمل على إنجاحه، وهو ما قد يتحقق خلال الفترة اللاحقة ما لم تقطعه أسباب طارئة جديدة مثل ما جرى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد