عن الجماعة السياسية
محمد سيد رصاص
في عام 1862، نُشر كتاب في مدينة لايبزغ الألمانية بعنوان «روما وأورشليم: المسألة القومية الأخيرة». في الكتاب، تأكيد على استحالة اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية، خاصة في ألمانيا، مع بدء صعود الموجة القومية الألمانيّة، والتي تنبّأ الكتاب بأن اليهود الألمان سيكونون من ضحاياها، مع دعوة اليهود للهجرة إلى فلسطين، ما دام أن ذوبانهم بالمجتمعات الأوروبية غير ممكن، من أجل إقامة «كومونويلث يهودي اشتراكي زراعي هناك».
كانت المفاجأة الكبرى في الكتاب، ليس كون طرحت فيه لأول مرة الفكرة الصهيونية قبل أربعة وثلاثون عاماً من كتاب تيودور هرتزل «الدولة اليهودية»، بل اسم الكاتب وهو موزس هس، الذي كان حتى نهاية الأربعينيات من كبار مفكري ورموز الفكر الاشتراكي – الشيوعي، وكان مشاركاً لكارل ماركس في «الجريدة الرينانية» في النصف الأول من ذلك العقد، وهو الذي أتى بفريدريك إنجلز إلى الفكر الاشتراكي- الشيوعي.
في الكتاب، هناك انزياح فكري عند الكاتب من التفسير الاقتصادي- الاجتماعي الطبقي للتاريخ إلى التفسير القومي الذي يقول بأن الصراعات القومية هي المحرك الأكبر للتاريخ. وبالتالي، أصبح يرى بأن اليهود، وهو ابن حاخام وحفيد حاخام، هم «جماعته السياسية»، التي يعمل فكره السياسي وممارسته السياسية من أجلها، وليس كما ما كان عليه في الأربعينيات حينما كانت الطبقة العاملة هي «الجماعة السياسية» بالنسبة إليه. وكان هو وماركس وإنجلز عملوا وفق برنامج ديمقراطي لألمانيا بمجموعها كبلد التي كان ثلاثتهم يرون بأنها ما زالت ما قبل رأسمالية، بخلاف انكلترا. وبالتالي، لا يمكن طرح برنامج اشتراكي لها بل برنامج ديمقراطي «يناضل فيه الحزب الشيوعي بالاتفاق مع البرجوازية ما دامت هذه البرجوازية تناضل نضالاً ثورياً ضد النظام الملكي المطلق وضد الملكية الإقطاعية العقارية وضد البرجوازية الصغيرة الرجعية» (1) بحسب نص البيان الشيوعي عام 1848 الذي كتبه ماركس وإنجلز. ولكن ظل تفكيرهم طبقياً. وبالتالي، فإن «الطبقة العاملة» هي الجماعة السياسية الخاصة بهم وليس «البلد» كمجموع مكاني لسكان وطن، والذي كان يرون بأنه لا يمكن النظر إليه إلّا من خلال الصراع الطبقي، حتى وهم يطرحون برنامجاً ديمقراطياً ألمانياً، فهو برنامج مرحلي تجري فيه تحالفات مرحلية للاشتراكيين- الشيوعيين مع البرجوازية الألمانية.
يمكن الانتقال إلى العراق للتوضيح أكثر. في عام 1959، برزت شخصيتان هما حسين أحمد الرضي (سلام عادل) ومحمد باقر الصدر. الاثنان من النجف، وكلاهما من أسرة تنتسب إلى آل البيت الهاشمي. كان سلام عادل وقتها سكرتيراً للحزب الشيوعي، الذي كان أقوى حزب في العراق، فيما كان باقر الصدر في طور التأسيس لحزب الدعوة في ذلك العام. وهو من أجل أدلجة هذا التأسيس، كان يكتب كتابه «فلسفتنا» الموجه كفكر فلسفي وسياسي أساساً ضد الماركسية، في لحظة سياسية سيّر فيها الشيوعيون العراقيون مسيرة في بغداد بمناسبة عيد العمال مطلع مايو/أيار 1959 شارك بها 300 ألف شخص، ومليون شخص في تقديرات الشيوعيين، يطالبون فيها بمشاركة الحزب في الحكم (2). وكان الحزب قادراً على الاستيلاء على السلطة من خلال وزنه الجماهيري وتغلغله في الجيش، ولكن دور موسكو «كان العامل ذو الوزن الأكبر في قرار التراجع هو الضغط الذي يبدو أن الحزب الشيوعي السوفييتي مارسه على القيادة الشيوعية العراقية» (حنا بطاطو: ص214).
كان سلام عادل يفكر كشيوعي يعيش في بلد متخلف يرزح تحت النفوذ الأجنبي. لذلك، كانت مشاركة الحزب في انقلاب 1958 بالتشارك مع العروبيين وتنظيم الضباط الأحرار من أجل ليس أبعد من إسقاط الحكم الملكي والانسحاب من حلف بغداد وإلغاء الاتفاق الثنائي مع بريطانيا ومقاومة مبدأ ايزنهاور وإطلاق الحريات الديمقراطية لجماهير الشعب وإطلاق المساجين السياسيين وتبنّي إجراءات فعالة لحماية ثروتنا الوطنية واقتصادنا الوطني وحل المشكلات المتعلقة بمعيشة الجماهير» (تعميم حزبي داخلي عشية ما قبل يومين من حركة 14 يوليو/تموز، بطاطو: ص 113-114). أي أن سكرتير الحزب الشيوعي كان ينظر للعراق من نظارة حزبية يرى فيها أن جماهير الشعب، العمال والفلاحون ومجموع الفقراء، هم مجال فكره وممارسته السياسية، وأن تحقيق مصالح هؤلاء هو الطريق لبناء جديد للعراق، إضافة لضرب النفوذ الأجنبي السياسي والعسكري من خلال الأحلاف والمشاريع الغربية، وجعل العراق متحرراً وفاكاً للارتباط بها. هؤلاء هم الجماعة السياسية، ككتلة اجتماعية، لسكرتير الحزب الشيوعي العراقي. أما السيد باقر الصدر، كان في الضفة الأخرى من مواطنه النجفي. فهو كان يفكر في حزب الدعوة كأداة من أجل خدمة جماعة سياسية هي الطائفة الشيعية التي رآها الصدر وحزبه في موقع الكتلة الاجتماعية المغبونة والمحرومة والمنتقصة حقوقها، وهي التي تشكل غالبية سكان العراق بحوالي الثلثين. وبالمجمل، توجه سلام عادل وباقر الصدر بشكل مباشر من أجل خدمة الجماعة السياسية لدى كل منهما وفق رؤيتهما الفكرية- السياسية الخاصة بهما.
كان في العراق شخص ثالث سيرته معقدة من أجل خدمة جماعته السياسية، ممثلة في كرد العراق، هو صالح الحيدري، الذي كان مسؤولاً بين 1944 و1945 عن الفرع الكردي للتنظيم الشيوعي العراقي «يكيتي تيكوشين». وفي ربيع 1945، دخلت قيادة هذا التنظيم في مفاوضات مع سكرتير الحزب الشيوعي العراقي فهد من أجل اندماج التنظيمين. وأمام إصرار فهد على اعتبارهم منشقين عن الحزب مع رفض فكرة الاندماج وفكرة أن يعودوا للحزب كجسم بل كأفراد، وافقوا على ذلك في نهاية المطاف، بينما رفض الحيدري ودخل هو ومسؤولو «يكيتي تيكوشين» مع فهد بمفاوضات منفصلة أجراها هو وممثل آخر عن الفرع هو نافع ملا يونس اشترطوا فيها «لانضمام الفرع إلى الحزب أن تتألف له لجنة خاصة به وجريدة خاصة أيضاً وتخويله بعض صلاحيات اللجنة المركزية» (3)، وهو ما رفضه فهد، ما دفعهم إلى تشكيل الحزب الشيوعي لكردستان العراق الذي عرف باسم جريدته: «شورش». ثم كانوا من المؤسسين، من وراء ستار تنظيمهم الشيوعي، لحزب آخر هو «رزكاري كرد: حزب التحرر الكردي» ليكون حزباً وطنياً عاماً لأكراد العراق من أجل خدمة مطالبهم القومية الكردية الخاصة في الوطن العراقي. وخلال مفاوضات التمهيد لتأسيس الحزب الديمقراطي «البارتي»، والذي ولد في 16 أغسطس/آب 1946، أصرّ الحيدري على استبعاد اثنين من المُلّاك الإقطاعيين عن قائمة المرشحين لقيادة الحزب الوليد (4). وجراء عدم قبول ذلك، رفضت قيادة «شورش» بغالبيتها حضور المؤتمر التأسيسي لـ«البارتي» ما عدا قلة في القيادة، مثل علي عبدالله، فيما ذهب الحيدري وملا يونس ومعهما غالبية التنظيم وانضموا بشكل فردي إلى الحزب الشيوعي العراقي. وكان من بين أفراد تنظيم «شورش» قادة كبار للحزب الشيوعي العراقي بفترات لاحقة مثل نافع ملا يونس وحميد عثمان وجمال الحيدري (شقيق صالح) وعزيز محمد. في صيف 1957، انضم صالح الحيدري، وكان سكرتيراً للجنة الفرع الكردي للحزب الشيوعي، إلى «البارتي» ومعه كل اللجنة وغالبية الفرع. وأصبح هو و حميد عثمان أعضاء في المكتب السياسي للحزب وشكّلا مع حمزة عبدالله غالبية يسارية في المكتب ضد عضويه إبراهيم أحمد وجلال الطالباني. وكان رأي صالح الحيدري أن يكون لكرد العراق حزب واحد يخدمهم كجماعة بعد أحد عشر عاماً من وجوده في الحزب الشيوعي العراقي، فيما كان رأي نافع ملا يونس وجمال الحيدري وعزيز محمد مخالفاً، أي حزب سياسي لعموم العراق يخدم كادحي كرده وعربه ولايتعامل مع العرب كجماعة سياسية لها حزبها أو احزابها الخاصة ولا مع الكرد كجماعة سياسية تتحدد من خلال كينونتها القومية. لم يطل الأمر بصالح الحيدري وحميد عثمان وحمزة عبدالله حتى طُردوا من عضوية «البارتي» في المؤتمر الرابع للحزب في أكتوبر/تشرين الأول 1959 بتهمة التبعية للشيوعيين العراقيين الذين كانوا في ذروة قوتهم آنذاك، ووقف بوجه هؤلاء الثلاثة تكتل (الملا مصطفى البرزاني- ابراهيم أحمد – جلال الطالباني) وأخرجوهم من الحزب، قبل أن يتفرق هذا الثلاثي الأخير في عام 1964.
بالنسبة إلى مصطفى بارزاني وإبراهيم أحمد وجلال الطالباني، فإن «الجماعة السياسية» هي الأمة الكردية. ولكن حالة صالح الحيدري مختلفة. فهو يرى الأمة الكردية بعين ماركسية. وسلك طرقاً مختلفة من أجل خدمتها وركب مراكب حزبية عديدة ومختلفة لأجل ذلك، ولكنه أُنزل وأخرج من المركب القومي الأخير الذي تردد في دخوله عند الإنشاء، ثم أصر بمعركة حزبية شيوعية كبرى على دخوله ثانية، ما اضطر سلام عادل وقيادة الحزب إلى تدبيج كراس كامل ضده في أغسطس/آب 1957. وعلى الأرجح، وهو الذي عاتب فهد حينما التقاه على اعتبار الكرد أقلية قومية في ميثاق الحزب عام 1944 (5)، كان أقرب للماركسي – الشيوعي الكردي العراقي، ولكنه وجد نفسه منبوذاً ومكروهاً من الشيوعيين ومن القوميين الكرد في النهاية.
هنا، يمكن لعبدالله أوجلان أن يكون في حالة الماركسي- القومي الكردي في القرن العشرين. ولكنه مع نظريته عن «الأمة الديمقراطية» في القرن الواحد والعشرين، لم تعد جماعته السياسية، التي يسعى بفكره وممارسته وأداته التنظيمية إلى خدمتها، هي الأمة الكردية فحسب، بل تمتد إلى كل مكونات البيت الوطني بتركه وكرده وعربه وبقية القوميات والإثنيات.
كتكثيف لهذا المفهوم الشائك، إذا أخذ الصراع الطبقي شكلاً سياسياً، ولكن مع محتويات اقتصادية -اجتماعية- ثقافية، فإن الصراعات القومية أو الدينية القومية أو الطائفية أو المناطقية تعبّر عن شكل آخر للصراع وبمحتويات اقتصادية- اجتماعية- ثقافية يحملها كل طرف من أطراف الصراع، وهي لا تعبّر عن عدم وجود طبقات اجتماعية، بل عن نزوع هذه مجتمعة أو بعضها إلى تغليب الشكل القومي أو الديني أو الطائفي أو المناطقي على الشكل الاقتصادي- الاجتماعي، ولو أن المصالح الاقتصادية- الاجتماعية (زائد الهوية الثقافية) هي الوقود المحرك لهذه الصراعات.
لا يعبّر كل ذلك عن ارتداد إلى الوراء، بقدر ما يعبّر عن مشكلات لم تحل بعد.
هوامش
(1) كارل ماركس – فريدريك إنجلز: مختارات:أربعة أجزاء، دار التقدم ، موسكو، بدون تاريخ، الجزء الأول، البيان الشيوعي، ص 94- 95.
(2) حنا بطاطو: العراق: الكتاب الثالث: الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1992، ص 211.
(3) عزيز سباهي : عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ( الجزء الأول)، منشورات الثقافة الجديدة، دمشق 2002، ص 247.
(4) جلال الطالباني: كردستان والحركة القومية الكردية، منشورات الاتحاد الوطني الكردستاني،2022، نسخة بي دي إف في 400 صفحة، ص 132.
(5) سباهي: المرجع السابق، ص 242.