شورش درويش
لم يكن الاحتفال بذكرى الجنود الذين قضوا في معركة جناق قلعة على الدردنيل دارجاً حتى عام 2006. لكن مع الاهتمام المفتعل بذكرى هذه المعركة، تقدّم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطوة أخرى نحو تشكيل عالم موازٍ للذي سعى مصطفى كمال إلى تكريسه، ذلك أن قبل هذا التاريخ كان الأتراك متحفّظين تجاه إقامة موقع أو مبنى رمزي يضاهي ضريح مصطفى كمال في أنقرة بوصفه المعلم القومي الوحيد لكل الأتراك. ولطالما كان مؤسس الجمهورية متحفّظاً بدوره من إقامة نُصبٍ للجندي المجهول أسوة بفرنسا التي أقامت نُصباً لجنودها عقب الحرب العالمية الأولى، لاعتبارات مرتبطة برفض مصطفى كمال تقسيم الهالة المنسوجة حوله على آخرين، ذلك أن التاريخ بحسبه، هو صنيعة الرجال العظماء المعروفين لا الجنود المجهولين. وكل ذلك رغم مركزية غاليبولي وجناق قلعة بالنسبة له والتي تمّ تكريسها في الكتب المدرسية بحيث أصبح تاريخ هذه المنطقة وجغرافيتها درساً واجباً حفظه على كل طالب في الابتدائية.
من خلال جعل جناق قلعة حدثاً مركزياً، توسّع الخطاب الأردوغاني على حساب اللغة الأتاتوركية الحسّاسة تجاه كل ما هو عثمانيّ أو حتى سلجوقي، إذ ستمحو مفردة «الشهيد» المستعملة بكثرة في أدبيات الرئيس الحالي، كلمة «الفدائي» التي دأب مصطفى كمال على نشرها مذ كان ضابطاً في برقة الليبية رفقة زملاء له حين أسسوا فرقة «الضبّاط الفدائيين» التي كانت النواة التي انطلقت منها «التشكيلات المخصوصة» (الفرقة الخاصة) في حرب البلقان التي اندلعت بعد قليل من المغامرة الليبية. وبطبيعة الحال، استحضر أردوغان مفردة «الجهاد» التي دأب على استعمالها في خضم مديحه «الشهداء والمحاربين القدامى». وإذا كانت الألقاب المبكّرة التي أسبغها مسلمو الهند إبان دعمهم لحركة مصطفى كمال قبل قليل من تأسيس الجمهورية وخلعه الخليفة الأخير محمد السادس عام 1922 حملت دلالات دينية مثل «سيف الإسلام» و«مجدّد الخلافة»، وأيضاً إطلاق لقب «المجاهد» عام 1919، إلّا أنّ مصطفى كمال ومريدوه أخرجوا هذه الألقاب من التداول، مع الإبقاء على لقب «الغازي» ذي المدلول الديني، على أن يبقى هو الغازي الأخير والأوحد طيلة تاريخ الجمهورية.
ولئن كنّا في إزاء تفشّي الخطاب الديني الذي ما كان له أن يجد لنفسه مكاناً في الخطاب السياسي التركي حتى في حقب سياسية متباعدة بدت خارجة نسبياً على اللغة الأتاتوركية، فإن ما لم يحققه الساعون إلى إحداث تبدّل في اللغة والمفاهيم السياسية التركية كجلال بايار ونجم الدين أرباكان وتورغوت أوزال وبمعزل عن أهوائهم السياسية، حققه أردوغان بالتدريج وبعد تمكّنه من ضبط إيقاع كل مؤسسات الدولة، ودائماً عبر التخليط بين القوميّ والديني. وبذا، يظهر أردوغان كمستعين جيّد بقاموس الطورانيين لمواجهة الكمالية، خاصة إذا أضفنا إلى وصفة اللغة السياسية متعددة الاستعمالات، الطبيعة التوسّعية التي طبعت الأردوغانية وظهرت بشدة بعد عام 2015 والتي توافق الهوى الطوراني وتشاكس مفاهيم مصطفى كمال «الأناضولي». ولعل قول أردوغان في إحدى تصريحاته الغاضبة بأن تركيا لا يمكن لها أن تعيش حبيسة حدودها الحالية، يتوافق مع الرؤية التوسعية التاريخية للطورانيين التي دأب مصطفى كمال، وحتى درجة أقل خلفه عصمت إينونو، على مكافحتهم والحد من هرطقاتهم.
بلغت الأردوغانية أقصى حالات التطرف في خطابها العام من خلال استخدام رئيس الجمهورية تعبيرات مأخوذة من متن التراث الديني الإسلامي لوصف عملية استقبال السوريين الفارين من الحرب الأهلية بوصفهم «مهاجرين» جاؤوا إلى بلاد «الأنصار». غير أن عملية تكريس اللغة الدينية مثّلت ضربة مزدوجة. فمن ناحية، كانت خروجاً عن اللغة الرسمية للدولة، ومن ناحية أخرى، جاءت كانفكاك عن مفهوم استقبال اللاجئين ومنحهم صفة اللجوء ذي البعد القانوني الدوليّ.
لا يكُمن خروج الأردوغانية عن المخيال الأتاتوركي المرسوم لتركيا في استخدامها لغتها الخاصة وحسب، بل طاوله إلى حيث إعادة اختراع مشروب رسميّ للأتراك. ففي إحدى خطاباته، أعلى أردوغان من أهمية مشروب العيران ليصفه بالمشروب «الشعبيّ» وأنه «من المؤسف في السنوات الأولى للجمهورية، قُدم مشروب كحولي على أنه مشروب شعبي تركي، في حين أن مشروبنا الشعبي هو العيران»، الأمر الذي مثّل عملية إحلال واضحة للعَرَق الذي رفعه مصطفى كمال لمصافي المشروب الوطني. لم يكن هذا التحدي الناعم والحركة المشهدية لأردوغان وهو يرتشف العيران أمام الملأ سوى إمعاناً في إلحاق الهزيمة الرمزية بالأتاتوركية السياسية وتلك العالقة في وجدان المجتمع التركي.
ثمة تفصيل آخر سعت الأردوغانية إلى تثبيته في الوجدان الشعبي. فعلى غرار مصطفى كمال «الرجل ذو الأسماء المتعدّدة» بحسب التوصيف الذي أطلقه عليه كلاوس كرايزر، جرى البحث عبثاً عن ألقاب لأردوغا.ن ولعل أشدّها إثارة للدهشة كانت مطالبة برلماني إطلاق لقب «الغازي» على أردوغان عقب احتلاله عفرين عام 2018. بيد أن أنصار الرئيس وجدوا ضالتهم عبر إطلاق لقب «الريّس» المنحول عن العربيّة كلقبٍ يفيض على مقام رئاسة الجمهورية. أخرجت هذه الحيلة الرمزية لآلة الرئيس الدعائية أردوغان من قالب رئيس الجمهورية إلى حيث يجب أن يضاهي مصطفى كمال في الألقاب، وهو أمر صعب للغاية في الجمهورية التي حافظ كل رؤسائها، عدا عصمت إينونو الذي لُقّب بـ«بالرئيس القومي»، على التسمية الرسمية لهذا المنصب. ولعل ما يزيد من صعوبة الأمر هي كثرة ألقاب مصطفى كمال. فهو «الرئيس الأبدي»، و«المخلّص»، و«المنقذ»، و«المنجّي»، و«المنجّي الكبير»، و«المعلّم»، و«الغازي»، إلى جوار لقبي «الشاف» و«الشاف الأكبر» الذي استخدمه جلال بايار للحديث عن مصطفى كمال في خطاب تنصيبه رئيساً للوزراء حيث ترادف الكلمة لقب «ريّس» العربية. علاوة على ذلك، فهو «المشير». وهذا اللقب العسكري لم يحزه طيلة تاريخ تركيا سوى مصطفى كمال ورفيق دربه فوزي جقماق. وإلى جوار لقب «ريّس» المستخدم في السفح الشعبيّ، فإن محاولة تبديل التسمية الرسمية: رئيس الجمهورية بـ «رئيس تركيا» التي حاول بيرقراطيو القصر الجمهوري تمريرها لوصف مقام أردوغان، أثارت حفيظة المراقبين لطموحات الرئيس، الأمر الذي دفع القصر لسحب هذا اللقب.
على أي حال، نجح أردوغان، من خلال إقحام لغته الخاصة في حقل السياسة التركية وتدخّله في شراب شعبه وتنقيبه عن ألقاب تضاهي تلك التي أسبغت على مصطفى كمال، في إحراز هدف في مرمى كل رؤساء الوزراء والجمهورية منذ وفاة مصطفى كمال. غير أنه ساهم دون قصد في تقسيم الأتراك على عالمين مختلفين غارقين في الماضي، الأول يضع كاتالوغ مصطفى كمال ونظرته للحياة والمجتمع والسياسة والاقتصاد ويقيس عليها، فيما يحاول العالم الآخر، الذي صاغه أردوغان، العودة إلى عوالم سلجوقية أو عثمانية وأخرى طورانية بائدة. وفي النتيجة، فإن أسلمة تركيا تبدو مهمة مستحيلة أسوةً بمحاولة إعادتها إلى صورتها الأتاتوركية الجامدة. وفي الحالتين، فإن تركيا العالقة بين ماضيين لا تبشّر بتركيا ثالثة تقدّمية وحداثية وقادرة على تحطيم نموذج الدولة – الأمّة.