العلاقات التركية-الإسرائيلية في ظل حرب غزة.. المال أولاً 

د. حسين الديك

تعتبر العلاقات التركية-الإسرائيلية استراتيجية منذ إعلان قيام دولة إسرائيل. وترتبط العلاقة بين البلدين بالمصالح الاقتصادية والعسكرية والتجارية، إذ كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بدولة إسرائيل في 1949. وكانت اتفاقية التجارة الحرة الموقعة بين البلدين في مارس/آذار 1996 نقطة تحول في العلاقات الاقتصادية بينهما. وتتعامل تركيا مع الشرق الأوسط من عدة منطلقات أهمها أنها تنظر للشرق الأوسط من منظور النفوذ الحيوي والاستراتيجي للدولة التركية. وتجلى هذا بشكل واضح بعد 2011 في ظل النظرة التاريخية التركية للمنطقة باعتبار الشرق الأوسط والمنطقة العربية جزءاً من ممتلكات الدولة العثمانية، وفي ظل الأهمية الاقتصادية والتجارية لها بوجود سوق استهلاكي ضخم، إذ تجلت التدخلات التركية بشكل واضح وصريح في محاولة لإعادة أمجاد الاحتلال التركي للشرق الأوسط وإعادة أمجاد الدولة العثمانية المنهارة. وتركز ذلك بالتحالف مع جماعات الإسلام السياسي أحياناً كما في مصر وسوريا وليبيا، وأحياناً أخرى بالتدخل العسكري في شمال سوريا والعراق، إضافة إلى استمرار رفض تركيا أي اعتراف بالحقوق الكردية وقمع ممثلي الشعب الكردي من خلال الزج بقادة ومسؤولي وكوادر الأحزاب الكردية في السجون، ومواصلة العمليات العسكرية ضد الكرد داخل تركيا وخارجها. وهنا تأتي المقاربة الفلسطينية-الكردية كشعبين يطالبان بالاستقلال وحق تقرير المصير، والمقاربة التركية-الإسرائيلية التي تعتبر حركات المقاومة والتحرر الوطني الكردية والفلسطينية «منظمات إرهابية».

في الوقت ذاته، حافظت الدولة التركية على علاقات قوية مع إسرائيل، لتصبح التدخلات الإقليمية في المنطقة ممثلة بثلاث دول وهي إسرائيل وإيران وتركيا. واحتفظت الحكومات التركية المتعاقبة، خاصة حكومات حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، بعلاقات جيدة مع النقيضين، أي كل من ايران وإسرائيل، على حساب القضايا العربية ومنها القضية الفلسطينية.

وعملت تركيا على الإعلان عن موقف مؤيد للقضية الفلسطينية واستضافة عدد من قادة حركة حماس على أراضيها وسمحت لهم بالتحرك والعمل السياسي. ولكنها في الوقت نفسه، حافظت على علاقات دبلوماسية واقتصادية مميزة مع إسرائيل. ومنذ اندلاع الحرب بين حركة حماس وإسرائيل قبل ستة شهور، اتخذت تركيا موقفاً مهادناً منذ البداية، إذ كان من المتوقع أن يكون الموقف السياسي التركي متقدماً وداعماً للشعب الفلسطيني. ولكن بقي الموقف التركي خجولاً ولم يتجاوز بعض التصريحات الصادرة عن سياسيين. ومن جانب آخر، شكلت تركيا العمود الفقري لواردات الاقتصاد الإسرائيلي خلال الحرب، خاصة بعد تعرض حركة التجارة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب للخطر بسبب مهاجمة الحوثيين للسفن التجارية المتوجهة الى إسرائيل. فكان البديل عن البضائع والسلع والمنتجات القادمة من جنوب شرق آسيا إلى إسرائيل هو تركيا التي عملت على تشكيل خطوط بحرية تجارية من الموانئ التركية إلى الموانئ الإسرائيلية، ما أدى إلى ظهور حالة من الاستياء والتساؤلات ضمن الرأي العام التركي من تلك السياسة التي استخدمت المعايير المزدوجة في التعامل مع الحرب في قطاع غزة.

وتعتبر التوترات الظاهرة والعلنية في التصريحات، وفق ما ذكرته مجلة «الآفاق» الفلسطينية، بين الجانبين التركي والإسرائيلي توترات شكلية لا تعبّر عن حقيقة وطبيعة العلاقة الاستراتيجية بين الدولتين التي تمتد لعقود طويلة في تحالف استراتيجي وتعاون عسكري ودبلوماسي واقتصادي. ووقعت الدولتان اتفاقاً سرياً عرف بـ«ميثاق الشبح» في خمسينات القرن الماضي ظل لفترة طويلة طي الكتمان. واعتمدت تركيا في علاقتها مع إسرائيل لتعزيز مصالحها وتعاونها مع الولايات المتحدة. وساعدت إسرائيل الأتراك في عملية اختطاف مؤسس وزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في 1999 من كينيا. وفي السياق الاقتصادي، يبلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل مليارات الدولارات سنوياً. وهذا التبادل والتعاون التجاري مستمر في التنامي والازدياد. وتركيا هي من أكثر الدول الإسلامية التي تربطها علاقات وثيقة بدولة إسرائيل، خاصة العلاقات العسكرية والأمنية والاستخباراتية والتي بقيت قوية رغم التباين في وجهات النظر والمواقف السياسية في بعض الأحيان. وتشكل عضوية تركيا في حلف الناتو معبراً أساسياً ودوراً بارزاً لاستمرار التعاون العسكري بين البلدين.

وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الاول 2023، تطورت العلاقات الثنائية بشكل ملحوظ بسبب التغيرات في حركة التجارة الدولية وحاجة إسرائيل إلى المواد الغذائية والمواد الخام بعد توقف القطاعات الاقتصادية والإنتاجية في إسرائيل بسبب منع إسرائيل دخول العمال الفلسطينيين للعمل فيها بسبب ظروف الحرب. فكانت تركيا هي البديل الأقرب والأنسب لتعويض النقص الكبير في السلع والمنتجات الأساسية وبطريقة سريعة جداً نظراً لقرب المسافة بين الدولتين والعلاقات المميزة بينهما. وذكرت صحيفة «النهار» اللبنانية أن «حجم الصادرات التركية إلى إسرائيل ارتفع من 319.5 مليون دولار في أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 430.6 مليون دولار في ديسمبر/كانون الأول 2023، بزيادة بلغت 34 في المئة». واستغلت تركيا حاجة إسرائيل المتزايدة للمواد الأساسية والأولية وبحثها عن مسارات وطرق آمنة لتجارتها، لتمثّل تركيا الحل بعد تعرض طرق التجارة عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب للاستهداف المباشر من قبل هجمات الحوثيين. وصرح أمريه غولسونار، وهو أحد الاكاديميين الأتراك، بأن «جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين الموالية للحكومة تقوم ببيع البضائع إلى الجيش الإسرائيلي الذي يرتكب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، ومن ثم يقومون بتحويل بعض الأرباح التي يحققونها من هذه التجارة إلى مؤسسات مثل (تقوى) التي تنظّم بدورها مسيرة لدعم فلسطين ولعن إسرائيل، وهذا النفاق الذي يجعلك تستسلم».

أثارت بعض التقارير الإعلامية جدلاً كبيراً في الرأي العام التركي بشأن استمرار تركيا بتقديم الدعم العسكري والذخائر والأسلحة لإسرائيل خلال الحرب التي يشنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة. واتهمت الكثير من الجهات المحلية التركية حكومة رجب طيب أردوغان بالازدواجية في التعامل مع قضية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وبناء على البيانات الصادرة عن معهد الإحصاء التركي، ارتفع حجم التبادل التجاري بين إسرائيل وتركيا منذ بداية يناير/كانون ثاني 2024 بمستويات كبيرة. وبينت التقارير الصادرة أن «تركيا قامت بتصدير ذخائر وأسلحة بقيمة مليونين و919 ألفاً و58 ليرة تركية إلى إسرائيل. كما بلغت قيمة صادرات البارود والمواد المتفجّرة مليوناً و940 ألفاً و36 ليرة تركية، في حين سجّلت الصادرات الكيميائية – تضمنت الديزل الحيوي ومواد إطفاء الحريق والمطهرات ومبيدات الحشرات- قيمة بلغت 33 مليوناً و75 ألفاً و119 ليرة تركية».

كما ذكر تقرير لقناة «الجزيرة» القطرية بعنوان «استمرار التبادل التجاري مع إسرائيل يغضب الشارع التركي»، استناداً إلى ما أعلنته جمعية المصدرين الأتراك، أن هناك نمواً ملحوظاً ولافتاً في حجم الصادرات التركية إلى إسرائيل. وأورد مقارنتين بين شهري فبراير/شباط 2024 ويناير/كانون ثاني بزيادة بنسبة 26 في المئة في شهر فبراير/شباط مقارنة بسابقه، إذ ارتفعت قيمة الصادرات من 318 مليون دولار الى 400 مليون دولار. وتصدرت السلع الغذائية والإنشائية من الفواكه والإسمنت والحديد والمواد الكيميائية قائمة الصادرات وبلغت أعلى معدلات التصدير.

من جانب آخر، نشر موقع «آي 24» الإسرائيلي رد أوزغور أوزال، زعيم حزب الشعب الجمهوري، على  نجل الرئيس التركي بلال أردوغان، حينما قال له أن يطلب من والده، قبل الآخرين، مقاطعة المنتجات الإسرائيلية ووقف تصدير البضائع والمنتجات التركية إلى إسرائيل التي ترتكب الجرائم بحق الشعب الفلسطيني. وأكد أن حجم التبادل التجاري بين إسرائيل وتركيا وصل في نهاية 2023 الى حوالى عشرة مليارات دولار، وأصبحت تركيا تغطي ما نسبته 70 في المئة من احتياجات السوق الإسرائيلية، خاصة قطاع الإنشاءات والمواد الغذائية والمشتقات النفطية والمواد الكيماوية والحديد و الفولاذ والإسمنت والألمنيوم.

وعملت تركيا على تلبية احتياجات إسرائيل خلال الحرب، خاصة في مواد الإنشاءات مثل الحديد والصلب. وذكرت صحيفة «الأخبار» اللبنانية أن تركيا قامت بتغطية حوالى 65 في المئة من احتياجات إسرائيل من الحديد والصلب خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. كما صدر عن المركز الإحصائي التركي، وهو جهة رسمية، بأن تركيا عملت على تلبية احتياجات إسرائيل خلال الحرب، خاصة المواد الأساسية اللازمة للمجهود الحربي مثل المشتقات النفطية والزيوت المعدنية والشموع المعدنية والمواد الكيميائية غير العضوية والمعادن الثمينة والعناصر المشعة والمركبّات العضوية وغير العضوية من المعادن والبارود والمتفجرات ومنتجات الألعاب النارية والسبائك القابلة للاشتعال والمواد الكيميائية المختلفة مثل الديزل الحيوي ومستلزمات إطفاء الحرائق والنيران والمطهرات والأجهزة الميكانيكية والتقنية وأجزاء ومعدات وقطع غيار الطائرات والأسلحة والذخائر وأجزاء منها.

من جانب آخر، استمرت الشركات التركية بتزويد إسرائيل بالبضائع بكافة أنواعها، وهو ما أدى إلى ردود غاضبة من قبل مؤسسات المجتمع المدني التركي التي نظمت احتجاجات ضد هذه الشركات وطالبت الحكومة التركية بالتدخل. وتظاهر ناشطو حركة «آلاف الشباب من أجل فلسطين» أمام شركة «سوكار» التي تستورد النفط من أذربيجان وتعيد تصديره إلى إسرائيل، إذ تقوم هذه الشركة بتوفير حوالى 60 في المئة من احتياجات إسرائيل من المشتقات النفطية سنوياً، إذ تستوردها من أذربيجان وكازاخستان وتقوم ببيعها إلى إسرائيل بمعدل 44 ألف برميل يومياً. ومع استمرار الحرب، فإن حركة التجارة بين إسرائيل وتركيا لم تتوقف. إذ أن ما يبحر من الموانئ التركية باتجاه الموانئ الإسرائيلية كل يوم يبلغ حوالى ثمان سفن. ووصل عدد السفن التركية التي وصلت الموانئ الإسرائيلية خلال الحرب نحو ألف سفينة محملة بكل ما تحتاجه إسرائيل من إسمنت وفولاذ ومواد غذائية ومشتقات نفطية. وصرح فاتح أربكان، رئيس حزب «الرفاه الجديد»، قائلاً «إن تركيا تعطي الأسلاك الشائكة لإسرائيل من أجل تطويق المسجد الأقصى وتعطيها الفولاذ والقطع العسكرية، وهذا أمر مخجل. كما أن التظاهرات المنددة بالعدوان على غزة في تركيا لم تكن مماثلة لتلك التي خرجت في بعض العواصم العربية والأوروبية، وهنا يظهر مدى تناقض الحكومة التركية مع قاعدتها الانتخابية الرافضة للحرب في غزة». وانتقدت صحيفة «مللي غاز بيتيه» التابعة لحزب السعادة الإسلامي الأمر قائلة إن «كندا فرضت حظراً على تصدير السلاح إلى إسرائيل، بينما تركيا لاتزال تواصل تجارتها مع إسرائيل الصهيونية». وأما صحيفة «قرار»، فوضعت في افتتاحيتها أسماء وصور الشركات التي تستمر بالتجارة مع إسرائيل، وقالت: «كفى أوقفوا التجارة القذرة». ونشرت تقريراً عن التجارة بين تركيا وإسرائيل، موضحة أن التجارة مع إسرائيل ارتفعت بنسبة 20 في المئة في فبراير/شباط الماضي.

إن ما يحكم العلاقة الإسرائيلية التركية هو المصالح المشتركة بين الدولتين استناداً إلى نظرية المصالح في العلاقات الدولية. ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تنامت علاقة المصالح بين الجانبين التركي والإسرائيلي. وهذا يعود إلى اعتبارات داخلية في إسرائيل وسوء الوضع الاقتصادي وتوقف عجلة الإنتاج والاقتصاد، ورغبة تركية في فتح سوق جديد لها في إسرائيل، خاصة للسلع الاستهلاكية والمواد الغذائية والمواد الإنشائية. وفي المجمل منذ الحرب في غزة، غلبت المصالح التركية على العلاقة الأخلاقية أو الاعتبارات الإنسانية والتعاطف مع الشعب الفلسطيني، والتي لطالما عبّرت عنها تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي أردوغان. ورغم أن الشارع التركي بكل مكوناته كان متعاطفاً مع الشعب الفلسطيني ومناهضاً للحرب في غزة، إلا أن لغة المصالح طغت وتفوقت على الاعتبارات الأخرى التي استخدمها حزب العدالة والتنمية وأردوغان لأهداف سياسية وانتخابية دائما عبر الإعلان عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني. ونمت التجارة بين الدولتين بمستويات كبيرة عما كانت عليه قبل الحرب، وهذا يكشف سياسة المعايير المزدوجة التي تستخدمها الحكومة التركية وأردوغان الذي لطالما استخدم خطاباً شعبوياً لاستمالة شرائح واسعة من المجتمع التركي للتصويت له من خلال إعلان دعمه الشعب الفلسطيني واحتضانه قادة حركة حماس على الأراضي التركية.

*خبير في العلاقات الدولية والاستراتيجية، مقيم في القدس.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد