عقد المركز الكردي للدراسات في السادس من الشهر الجاري جلسة حوارية بعنوان «تركيا في ضوء نتائج الانتخابات البلدية». واستضافت الندوة التي أدارها الزميل الباحث في المركز شورش درويش، عبر تطبيق زووم، الكاتب والصحفي المتخصص في الشأن التركي سركيس قصارجيان.
بدأت الجلسة بتقييم نتائج الانتخابات البلدية في تركيا بعد أن حققت المعارضة التركية فوزاً ساحقاً وتراجع تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية بنسبة كبيرة.
وقال الكاتب والصحفي سركيس قصارجيان أن هذه الانتخابات هي نقطة تحول كبيرة، ووصفها بـ “الزلزال الانتخابي”، مشيراً إلى أنها ستفضي إلى خطوط صدع في تحالف حزب العدالة والتنمية والحركة القومية الحاكم، وأنها ستكون بداية النهاية لهذا التحالف. وأرجأ “قصارجيان” هذا الرأي إلى عدة أسباب؛ أولها، أنها المرة الأولى التي يحصل فيها حزب العدالة والتنمية على المرتبة الثانية، وثانيها أن حزب الشعب الجمهوري، الذي يمثل إطار المعارضة الأكبر، فاز في ولايات جديدة معروفٌ عنها أنها قاعدة قومية، وتسيطر عليها ما يسمى ب”الذئاب الرمادية”. ومن جهة أخرى ظهر حزب لم يكن موجوداً على الخارطة السياسية من قبل وهو حزب الرفاه الجديد الإسلامي.
وأشار “قصارجيان” إلى أهمية الانتخابات البلدية الأخيرة بالنسبة لمستقبل تركيا، واعتبرها بمثابة “استفتاء” لرصد تقبل الشعب لسلطة الرئيس التركي إردوغان. وقال بأن التقييم الموضوعي للانتخابات لن يكون بمقارنتها مع الانتخابات التي سبقتها فحسب، إنما يجب أن يتم دراسة الموضوع من كافة جوانبه، وعدم تهميش الكتلة الكبيرة التي امتنعت عن التصويت، والتي من الممكن أن تغيّر الموازين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة. واعتبر “قصارجيان” أن الناخب التركي يعرف جيداً أن يفرّق بين توجهه الإيديولوجي وردّ فعله “العقابي” على السياسات التي تظهرها الأحزاب حول القضايا الساخنة في البلاد. ومن جهة أخرى يبحث الناخب عمن سيقدم أفضل الخدمات ويطور الاقتصاد في الإدارات المحلية.
وبتقييم بانورامي لنتائج الانتخابات، وضح الكاتب والصحفي سركيس قصارجيان أن حزب الشعب الجمهوري قد حقق أفضل نتيجة يحصل عليها منذ أيام احتلال تركيا بقيادة “بولنت أجاويد” لقبرص، وأصبح الآن يسيطر على 80% من إجمالي ناتج الاقتصاد التركي في ما يخص المعابر والسياحة والضرائب المستحصلة من المدن والمناطق التي فاز بها. كما سيطر حزب الشعب الجمهوري على المدن ذات الوزن السياسي والثقافي والاقتصادي الكبير في البلاد. واعتبر “قصارجيان” أن هذا الأمر سوف يؤثر بشكل كبير على المستقبل السياسي للأحزاب الحاكمة والمعارضة على حدّ سواء.
وأشار “قصارجيان” إلى مستقبل النظام الرئاسي الذي وضعه إردوغان، والذي هو أقرب إلى “حكم الرجل الواحد”، موضحاً أنه بعد الخسارة الفادحة التي لحقت بالحزب الحاكم بزعامة إردوغان، من المحتمل أن يعمد إلى تحويل النظام التركي إلى نظام برلماني بعد التوصل إلى تسويةٍ ما مع المعارضة مستقبلاً.
وفي ما يخص النتائج غير المسبوقة التي حققها حزب الرفاه الجديد، اعتبر “قصارجيان” أن الناخب التركي صوّت له نتيجة ردّ فعله الغاضب من أداء حزب العدالة والتنمية وموقفه من التعامل التجاري مع اسرائيل، ورفضه دعم المعارضة العلمانية. أن الكتلة التي انتخبت حزب الرفاه هي الكتلة الإسلامية التي تأثرت بمواقف الحزب تجاه حرب غزة وبعض المواضيع الإسلامية الأخرى التي تشغل الشارع التركي.
ولدى سؤال قدمه الزميل شورش درويش حول المستجدات التي طرأت بعد عشرة أشهر من الانتخابات البرلمانية بشأن الوعود الانتخابية في إعادة الإعمار بعد الزلزال وإعادة إنعاش ملفات التنمية والوعد بما يسمى “الوطن الأزرق”، وكذلك مواقف الحزب الحاكم تجاه حرب غزة وتصريحاته بشأن القضاء على ما يسميه “الإرهاب”. أكّد “قصارجيان” أن البلديات هامة جداً في التأثير على الموازين السياسية للبلاد، فبمقارنة بسيطة لمسألة “حرية التصرف بالاقتصاد” التي كانت تتمتع بها الحركات والجمعيات الإسلامية في اسطنبول في عهد العدالة التنمية، مع وضع تلك الجمعيات بعد تولي حزب الشعب الجمهوري، سنرى مدى التحول الذي ستشهده الحياة الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية في تركيا.
وبيّن “قصارجيان” أن العديد من الأمور تغيرت بعد مرو عشرة أشهر على الانتخابات البرلمانية والرئاسية، قائلاً: ” لو أن شخصاً آخر غير كمال كليجدار أوغلو تقدم لمنافسة أردوغان في الانتخابات الرئاسية (مثلاً: أكرم إمام أوغلو أومنصور يافاش) فكان من الممكن أن يفوز بمنصب الرئاسة وينتزعها من أردوغان”، وأرجع ذلك إلى المقاربات غير المدروسة لكليجدار أوغلو في ظل لعب إردوغان على وتر الأمن القومي التركي مع التركيز على ملفات الأمن والعسكرة قبيل الانتخابات. ووضّح “قصارجيان” أن إردوغان لم يعد قادراً على التعويل على الأمن القومي في الانتخابات البلدية كما في الانتخابات الرئاسية، كما إنه لم يتهجم على حزب المساواة والديمقراطية للشعوب، كما تهجم على حزب الشعوب الديمقراطي سابقاً، وذلك لعدم وجود تحالف معلق بين حزب المساواة وبين حزب الشعب الجمهوري، ورغبة أردوغان في تفكيك أصوات الأخير في الانتخابات البلدية.
وبالحديث عن حالة الاقتصاد التركي، تطرق “قصارجيان” إلى التضخم الكبير الذي شهده الاقتصاد موضحاً أن الأزمة الاقتصادية في تركيا عميقة جداً، وذلك نتيجة الحلول البعيدة عن الواقع التي طرحها أردوغان بشأن تحسين الاقتصاد، إلى أن وصلت الديون الواجب سدادها حتى نهاية العام إلى 122 مليار دولار، منها 22 مليار دولار من الديون لروسيا. وأوضح “قصارجيان” أن الديون في تركيا إلى تراكم مستمر، حيث توقع أن تصل في العام القادم إلى 215 مليار دولار، وهذا ما جعل أردوغان يتوجه إلى أمريكا وترتيبه للقاءات على مستويات عديدة مع المسؤولين الأمريكيين، معتبراً أن مضمون اللقاءات ستفضي إلى استحصال قروض كبيرة و”دولرة الليرة التركية”.
وعند سؤال الزميل شورش درويش عن الغياب النسبي لاستعمال ملف السياسة الخارجية في الانتخابات البلدية للتأثير على رأي الناخب التركي، وضّح “قصارجيان” أن هذا الأمر أيضاً مرتبط بالأزمة الاقتصادية، حيث أن الحالة التي وصل إليها الاقتصاد التركي، والفقر الذي تعاني منه شريحة كبيرة من المجتمع التركي لم يترك مجالاً كبيراً لأردوغان للاستثمار السياسي في الملفات الخارجية نتيجة خشيته من مواقف أمريكا وأوروبا من جهة، ومواقف روسيا من جهة أخرى، وتأثيرها على التعامل الاقتصادي معها مستقبلاً.
وبالحديث عن الفوز الساحق الذي حققه حزب المساواة والديمقراطية للشعوب في ولاية “وان” الكردية، وضح الكاتب والصحفي المختص بالشأن التركي سركيس قصارجيان أن هذا الفوز يعتبر سابقة في تركيا بأن يفوز حزب واحد بكل البلديات “المركزية والفرعية” في ولاية ما. وأن هذا الفوز جاء نتيجة “طرح الحزب لنفسه ليس كطرف متمّم للمعارضة، إنما كطرف ثالث معارض للسلطة الحاكمة ولديه مآخذ على المعارضة أيضاً”. وهذا ما أنشأ له هوية خاصة وخالصة حالت دون تشويش الناخب الذي يميل لخطاب الحزب. وبخصوص ما حصل في ولايتي “شرناخ” و”بدليس”، أفاد “قصارجيان” أنه تم نقل 54 الف عنصر عسكري تركي إلى الولايتين للتأثير في عملية التصويت لصالح الحزب الحاكم. ولم يكن لدى حزب المساواة اي خيار عدا أن يتقبل الخسارة لأنه كان أمام مواجهة عسكرية وقمع منقطع النظير لو اختار المقاومة، والتصعيد لم يكن ليكون لصالحه. إلا أن النجاح الذي حققه بزيادة عدد الولايات من ثمانية إلى عشر ولايات، بالإضافة إلى زيادة عدد الممثلين في المجالس البلدية في الولايات الكبرى، سيخوله فيما بعد أن يكون رقماً صعباً في المعادلة، ومنها مثلاً التصويت على هوية رئيس البلدية الذي سيخلف أكرم إمام أوغلو في حال استقالته من رئاسة بلدية إسطنبول وترشحه للرئاسة عام 2028.
وبسؤال الزميل شورش درويش عن احتمالية لجوء أردوغان إلى سياسية العزل بعد تجربة “وان”، ومدى استعداد الشعب للانتفاض على سياسة “سرقة البلديات”، توقع الكاتب والصحفي سركيس قصارجيان أن يذهب أردوغان مستقبلاً باتجاه تكتيكي آخر، وهو أن يحيّد نفسه عن حزب العدالة والتنمية ويجعل نفسه رئيساً رمزياً فوق الأحزاب. وأضاف أن المواقف التي أبدتها الأحزاب الأخرى وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري أثناء محاولة السلطة عزل “عبد الله زيدان” من رئاسة بلدية “وان” وتعيين شخص من العدالة والتنمية مكانه، كانت مواقف ايجابية صارمة في وجه سياسة العزل التي قد يفكر أردوغان بالعودة إليها لمصادرة إرادة الجماهير الكردية.