الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط (1945-2024)

محمد سيد رصاص
بعد انتهاء أعمال مؤتمر يالطا، بين الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والزعيم السوفياتي جوزيف ستالين ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، توجه الرئيس الأميركي بحراً لمقابلة الملك عبد العزيز آل سعود. جرى اللقاء عند قناة السويس يوم 14شباط/فبراير1945على ظهر البارجة التي أقلّت الرئيس الأميركي. خرج اللقاء بخلاصة رسمت العلاقات الأميركية – السعودية، هي: “النفط السعودي لأميركا مقابل الحماية الأميركية للمملكة”. وقد كان مجمّع الشركات الأميركية المسمى “أرامكو” قد أخذ بالترافق مع الزيارة الامتياز الحصري للنفط السعودي، حيث اكتشف حقل (السفانية) عام 1952، كأكبر حقل نفطي على وجه اليابسة.
كان النفط عنوان اهتمامات روزفلت من اللقاء في ظل ظرف قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومع توقعات بأن الولايات المتحدة ،التي كانت مصدرة للنفط حتى عام 1945، ستصبح مستوردة للنفط في ظل الازدهار الاقتصادي المقدر بعد الحرب، والذي كان من المتوقع أن يجرّ معه زيادة في عدد السيارات التي أصبحت عام 1950 تصل إلى 40 مليون سيارة بعد أن كانت 26 مليوناً في عام 1945، وهو ماجعل قطاع النقل الأميركي يستهلك 70%من النفط، وفي الخمسينيات والستينيات أصبح النفط الشرق أوسطي المزوّد الرئيسي للولايات المتحدة بنسبة استيراد تصل إلى 6 مليون برميل يومياً تمثل ثلث الاستهلاك، ولم تكن محصورة بالاستهلاك المدني بل شمل هذا الجيش الأميركي بمافيها سفن الأسطول الحربي(1).
ولكن خَلفُ روزفلت (توفي في 12نيسان/ابريل1945)، أي هاري ترومان، أصبحت لديه اهتمامات مرافقة وأبعد من النفط، هي “الدعم الأميركي للديمقراطيات بمواجهة التهديدات الشمولية والتهديد الخارجي والتمردات المسلحة المدعومة من الخارج التي تشكل تهديداً للأمن القومي للولايات المتحدة”، وفق ما أعلنه ترومان أمام الكونغرس في يوم 12 آذار/مارس1947، في ظرف كانت فيه الحرب الأهلية اليونانية بين الشيوعيين وأنصار الملكية وفي فترة كان ستالين يضغط على الأتراك لفرض حرية ملاحة السفن الحربية السوفياتية في مضيقي البوسفور والدردنيل.
كان خطاب ترومان ذاك إعلاناً عن “مبدأ ترومان” الذي أطلق شرارة الحرب الباردة مع السوفيات، وكان ملفتاً أن ما قدح زناد المجابهة الأميركية – السوفياتية، لم يكن فقط سيطرة الشيوعيين على بلدان أوروبا الشرقية والوسطى، برعاية الجيش الأحمر، في العامين السابقين، وإنما أيضاً اشتعال بلد قريب من منطقة الشرق الأوسط، واحتكاكات سوفياتية مع بلد شرق أوسطي هو باب موسكو إلى المياه الدافئة.
لذلك كله، توازت السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط بين محوري النفط ومجابهة السوفيات، حيث تم إنشاء خط نفط التابلاين، من السعودية إلى لبنان، في عام 1950، وهناك وثائق أميركية تكشفت لاحقاً عن دفع أميركي للزعيم حسني الزعيم للانقلاب العسكري السوري الأول على حكومة مدنية بيوم 30 آذار/مارس 1949 بعد أن عرقل الجانب السوري المصادقة على الاتفاقية مطالباً بجعل مصب الخط في الساحل السوري بدلاً من اللبناني (2)، وحيث بعد الانقلاب على حكومة رئيس الوزراء الايراني محمد مصدق في آب/أغسطس1953، أصبحت الشركات الأميركية هي المستحوذة على النفط الإيراني، وقد كان الدور الأميركي في الإنقلاب الإيراني يترافق فيه الهاجس النفطي مع حمّى المجابهة الأميركية للسوفيات حيث برز الشيوعيون الإيرانيون كقوة رئيسية بفترة ما بعد تأميم مصدق للشركة الإنكليزية – الفارسية للنفط بعام 1951.
في هذا المجال، كان ملفتاً التفكير الأميركي بعدم الاكتفاء بجعل أوروبا ساحة للمجابهة الأميركية – السوفياتية بالخمسينيات بعد إنشاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعام 1949، بل بمد المجابهة هذه إلى الشرق الأوسط، وكانت فاتحة هذا التفكير هي ما أعقب بثلاثة أسابيع مصادقة مجلس الناتو على ضم تركيا لعضوية الحلف عندما طرح مشروع أميركي- بريطاني- فرنسي- تركي في يوم 13 تشرين الأول/أكتوبر 1951، أُسمي بـ” قيادة الشرق الأوسط “، وهو مشروع لربط المنطقة بحلف الناتو من الناحية العسكرية – الأمنية، وهو ما رفضته مصر الملك فاروق ورئيس الوزراء الوفديّ مصطفى النحاس باشا، وكان تشكيل الوزارة السورية برئاسة شخص معادي للمشروع، هو الدكتور معروف الدواليبي، دافعاً لإنقلاب أديب الشيشكلي في ليلة 28-29 تشرين الثاني/نوفمبر1951،الذي أبدى للأميركان قبل أيام تأييده للمشروع(3).
كان مشروع “قيادة الشرق الأوسط” يتضمن موافقة الدول المنخرطة فيه بالمنطقة على إقامة قواعد عسكرية وفتح أراضيها لقوات أجنبية حليفة في حال الحرب. عندما فشل المشروع بسبب المعارضة المصرية، والتي ترافقت مع طلب القاهرة للموافقة على المشروع بالاعتراف البريطاني بفاروق ملكاً على مصر والسودان وجلاء القوات البريطانية من منطقة السويس، سارعت الولايات المتحدة بعد أن أتى العسكر المصريون للسلطة بالعام التالي إلى طرح نسخة منقحة جديدة عن المشروع، أسميت “منظمة دفاع الشرق الأوسط”، وبعد رفض وتردد الحكام المصريين الجدد أمام المشروع الجديد، أتى وزير الخارجية الأميركية جون فوستر دالاس عام 1953 بمشروع “الجدار الشمالي”، الذي يعتبر فيه الشرق الأوسط حاجزاً شمالياً لصد التمدّد السوفياتي جنوباً، كما كان الناتو “الجدار الغربي”. كان رفض العسكر المصريين لمشروع دالاس بداية توتر في العلاقات بين واشنطن والقاهرة (4)، ما دفع الأميركان إلى دعم خفي لحلف بغداد الذي بدأ بين أنقرة وبغداد في شباط/فبراير 1955 ثم انضمّت له تباعاً بريطانيا وباكستان وإيران وهو كان عملياً بمثابة ذلك “الجدار الشمالي”، ولم تنضم له واشنطن كعضو مراقب سوى بعد “مبدأ أيزنهاور” عام1957، الذي هو نسخة شرق أوسطية لمجابهة السوفيات فيما كان “مبدأ ترومان” عالمي الطابع والنطاق، ثم انضمت عضواً كاملاً في عام 1959 بعد أن أصبح اسمه:”منظمة المعاهدة المركزية- السنتو” أو”منظمة معاهدة الشرق الأوسط- ميتو”، بعد أن لم يعد اسمه “حلف بغداد” إثر انسحاب العراق منه عقب الاطاحة بالعهد الملكي عام 1958.
وفق باتريك سيل في كتابه :”الصراع على سورية”،كان سقوط حكومة فارس الخوري في 7 شباط/فبراير 1955 بسبب ميوله نحو الغرب والعراق، وهو ما يسجله سيل كبداية لأفول اليمين السوري التقليدي وبداية الاتجاه الداخلي السوري نحو قوة أكبر لليسار السوري بفرعيه البعثي والشيوعي وبداية اتجاه دمشق نحو القاهرة وموسكو(5)،وذلك قبل أسابيع قليلة من تشكيل”حلف بغداد”، ويبدو أن تطورات سوريا الجديدة قد أفزعت واشنطن، فبحسب وثيقة مؤرخة في 7 نيسان/إبريل1955، أي قبل أسبوعين من اغتيال العقيد عدنان المالكي، فإن المجموعة الاستخبارية في الإدارة الأميركية، المسماة مكتب تنسيق العمليات –OCB ، رأت أن “النفوذ المتزايد ليساريين ولقلة من الشيوعيين في داخل الجيش السوري، يمكن أن تقوّض الخطط الأميركية لإقامة دفاع الشرق الأوسط ، وذلك في حال استولى المالكي وضباط الجناح اليساري على السلطة أو اتجهوا للتحالف الرسمي مع ناصر في مصر”(6).
ويبدو أن قول وزير الخارجية الأميركية عام 1951 دين أتشيسون: “سوريا هي المفتاح إلى الوضع الإقليمي برمته ” (ليتل،ص 59)، هو الذي دفع بواشنطن إلى استخدام سوريا كمكان لتعويق المد الناصري والمد السوفياتي بالمنطقة، ومن دون هذا لا يمكن فهم اغتيال المالكي، ولا خطة ستراكل التي وضعت بالتنسيق بين المخابرات البريطانية (س ي س) والمخابرات المركزية الأميركية لمحاولة تنظيم انقلاب عسكري في يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر 1956 في دمشق، ثم اقترح البريطانيون تأجيله أربعة أيام ليتوافق من دون علم الأميركان مع الخطة البريطانية- الفرنسية- الإسرائيلية للهجوم على مصر(ليتل ص 66-67،وسيل ص 351- 352-353-354 ثم بين الصفحتين 359و 366) باشتراك القوميين السوريين والشيشكلي وضباط من أنصار العراق وسياسيون مثل منير العجلاني وميخائيل إليان وجلال السيد وحسن الأطرش، ثم أتبع الأميركان، بعد انكشاف (ستراكل) قبل وقوعها من قبل الاستخبارات السورية، بعملية (واغون) في آب1957 وهي عملية انفردت فيها واشنطن لإنشاء وضع سياسي سوري جديد في ظرف كان النفوذ الشيوعي المحلي في ذروته (سيل ص 383،وليتل ص 51-52و ص71) وهي عملية قادت لطرد ديبلوماسيين أميركان من دمشق بعد كشفها من المخابرات السورية(7)، ويبدو من شهادة ايفلاند، وهو من الاستخبارات الأميركية، أن الشيشكلي والعقيد إبراهيم الحسيني كانا ضمن عملية (واغون).
تقاربت واشنطن والقاهرة في فترة الصدام الشيوعي- الناصري الذي بدأ من بغداد مع تنامي قوة الحزب الشيوعي العراقي بعد الإطاحة بالعهد الملكي بيوم 14تموز/يوليو 1958 وعزل العروبيين العراقيين حلفاء القاهرة وهو ما قاد عبدالناصر لحملة اعتقالات للشيوعيين السوريين والمصريين في ليلة رأس سنة 1959 وهو ما انعكس في صدام علني بين عبدالناصر والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف. وهناك أطروحة لنيل شهادة الماستر في التاريخ مقدمة في جامعة ولاية كاليفورنيا للبولتكنيك عام 2006 تكشف عبر وثائق وشهادات تعاون الاستخبارات المصرية والأميركية في التخطيط والدعم لانقلاب العروبيين البعثيين والناصريين في بغداد 8 شباط 1963ضد حكم الزعيم عبدالكريم قاسم حليف الشيوعيين العراقيين وموسكو(8).
في ظرف تصاعد المواجهة الأميركية – السوفياتية، مع اقتراب نذر الحرب الفييتنامية، حصل تدشين لتحالف أميركي- اسرائيلي مع رئيس وزراء جديد هو ليفي أشكول خلف عام1963رئيس الوزراء دافيد بن غوريون الذي كان له سجل طويل من الصدام مع واشنطن بعهدي أيزنهاور ثم جون كينيدي1961-1963. بالتوازي مع هذا زار خروتشوف مصر في أيار 1964 بالترافق مع الافراج عن السجناء الشيوعيين المصريين. لا يمكن تفسير حرب حزيران 1967من دون هذين التقاربين الأميركي- الإسرائيلي والسوفياتي- المصري، ومن دون محاولة أميركا تغيير موازين الشرق الأوسط للتعويض عن صعوباتها الفييتنامية وللضغط شرق أوسطياً على السوفيات عبر هزيمة حليفهم المصري لتعديل سياساتهم الفييتنامية .
هنا يذكر هنري كيسنجر، أنه كمستشار للأمن القومي بعهد الرئيس ريتشارد نيكسون قد قال عام 1969، وأمام الصحافيين، بأن “الإدارة الأميركية الجديدة تسعى إلى طرد الاتحاد السوفياتي من منطقة الشرق الأوسط”(9)، وقد كان الخروج الأميركي من فييتنام بين عامي 1973 و1975متزامناً مع بداية المد الأميركي في المنطقة بدءاً من مصر وخروج واضمحلال النفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط، كما أن الانهيار السوفياتي بين عامي 1989و1991 كان متزامناً مع الدخول العسكري الأميركي المباشر للمنطقة عبر حرب 1991ضد العراق ثم استكمل هذا بغزوي أفغانستان 2001 والعراق 2003 من قبل الأميركان.
خلال عقدين من الزمن منذ احتلال الأميركان للعراق، تناوبت واشنطن موجات انخراط كثيفة في المنطقة، مثلتها إدارتي بوش الابن وترامب، وموجات انسحابية من المنطقة عند باراك أوباما، وترددية بين هذين الاتجاهين عند الرئيس جو بايدن، رغم أن حرب غزة مابعد7 أكتوبر2023 قد أظهرت انخراطية أميركية كثيفة في الشأن الشرق أوسطي وغلّبتها على النزعة الانسحابية، ولو الترددية، عند بايدن .
في مداخلة أمام الكونغرس الأميركي في شهر آذار/مارس 2023 قال الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية الأميركية والتي ميدانها المنطقة الممتدة من كازاكستان حتى الصومال ومن باكستان إلى مصر، أن “اثنان وسبعون من نفط الصين مستورد وهذا يجعلهم غير حصينين ومنه 98%عبر سفن”، في إيحاء منه بأن الشرق الأوسط، حيث تستورد الصين نصف نفطها، هو أداة ضغط كبرى على العملاق الصيني، ربما في حال غزوها لتايوان، ويبدو من كلام الجنرال كوريلا أن الشرق الأوسط هو ميدان للضغط عند واشنطن، التي استقلّت نفطياً منذ عام 2020،عن الآخرين المعادين مثل الصين وروسيا وربما ايران التي تتراوح السياسة الأميركية تجاهها بين المجابهة (ترامب) وبين الاحتواء منذ أوباما.
في تلك المداخلة قال الجنرال كوريلا مايلي:”منطقة القيادة المركزية الأميركية – سينتكوم ذات أهمية مركزية للتنافس مع الصين وروسيا. نحن كنا هناك في الماضي، ونحن هناك اليوم، وسنبقى هناك بالمستقبل”(10).

المراجع
(1)مجلس العلاقات الخارجية:”الاعتماد على النفط والسياسة الخارجية الأميركية1850-2022″
CFR.ORG\TIMELINE\OIL-DEPENDENCE-AND-US-FOREIGN.POLICY
(2)دوغلاس ليتل:”الحرب الباردة والعمل السري:الولايات المتحدة وسوريا1945-1958″،”ميدل ايست جورنال” ، المجلد44، العدد1، شتاء1990،ص ص 51-75،ص 54.
(3)”المصدر السابق”،ص60.
(4)باتريك سيل:”الصراع على سورية”،دار الأنوار، بيروت1968، ص257.
(5)سيل:”المصدر السابق”،ص 286.
(6)ليتل:ص 63.
(7)ولبر كرين ايفلاند:”حبال من رمل”،دار طلاس،دمشق1984، ص ص 449-450.
(8)وليام زيمان:”التدخل الأميركي السري في العراق 1958-1963″، نسخة ب د ف (52صفحة)
(9)هنري كيسنجر: “سنوات إعادة التجديد”، منشورات سيمون وشوستر، نيويورك 2000، ص353.
(10)”كيف تستطيع الولايات المتحدة قطع نفط الشرق الأوسط عن الصين إن أرادت”،إدوارد هانت،7\6\2023

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد