عن الثورة السورية وأهلها… في ذكراها
موفق نيربية
في مطلع العام 2011 انتفضت عدّة شعوب عربية على واقعها المتردّي منذ عقود، وانفتحت الأبواب لما حسبناه مقدم الربيع الحاسم وموسم التغيير الجذري. وفي آذار هذا، تكون قد مرّت على اندلاع الثورة السورية ثلاثة عشر عاماً. ولا يمكن البدء بهذا الحديث قبل توجيه التحية لأبطال تلك الثورة الذين قدّموا حياتهم- بكلّ المعاني المباشرة وغير المباشرة- من أجلها، والانحناء لجميع ضحايا الاستبداد والديكتاتورية.
لكنّ هنالك شيئاً من الزيف يغمرنا لو توقّفنا عند ما يبهج بالذكرى وحسب، وتجاوزنا نقد أنفسنا ونَظَرْنا في مسؤوليتنا عمّا حدث، وليس في مسؤولية القتلة المعروفين وحسب، وتلك القوى الخارجية التي ساعدتهم على وأد الثورة والغدر بها، تحت غطاء دعمها على الأغلب.
تتحمّل النخب السورية بتشكيلاتها المتنوّعة مسؤولية الفشل الذي حاق بالثورة وأودى بها إلى حيث صارت هي وسوريا نفسها حاليّاً. هنالك مثلاً نخب المدينة، ورثة” الأعيان” القدامى، الذين اختاروا كعادتهم الوقوف على الرصيف بانتظار جلاء الغبار؛ وهنالك نخبة عسكرية عجزت عن الارتقاء إلى مستوى الانضباط الوطني بدلاً من خيار الانضباط الأسلم والأكثر انسجاماً مع تاريخهم القريب فلم تقف حتى على الحياد وترفض سياسة القتل وسفك الدماء؛ وهنالك نخب الطوائف الذين ورثوا انعدام الثقة إلّا بغرائز قد تجنح إلى السلم استسلاماً، وإلى الحرب مشاركة في القتال، أو إلى التزام المعابد حتى صياح الديك، وكل ذلك رفضاً للقيام بدور لطالما كان مطلوباً… وغير ذلك أيضاً!
لكنّ الحديث هنا عن ثلاثة تشكيلاتٍ أخرى من النخب:
أولّها تلك المعارِضة السياسية، التي توارثت أدوارها، وتآكلها الحتّ والصدأ؛ واستطاع النظام تقليصها أو تقليص علاقتها بالسياسة الحقيقية، ليبقى منها جانب انتظاريّ غريب، وآخر ينتظر نداء النظام إلى المائدة، وثالث لا يستطيع انفكاكاً عن ثاراته المباشرة وراديكاليته المجرّدة، ورابع لا يمكنه الخروج من قوقعة الطائفية وتفسير العالم انطلاقاً منها.
كانت تلك المعارضة تنهل مع النظام من مَعين قومي واحد، مشغولة ولا ترى معظم الأحيان إلّا فلسطين والوحدة العربية أمامها… لا تعرف من السياسة إلّا ما هو وراء حدود بلدها، الذي تكاد لا تعترف بوجوده، ولا بوجود مكوّناته كلّها أيضاً.
قبل الثورة وفي عقود الأسد الطويلة، حاولت تلك النخبة السياسية محاولتين كبيرتين نسبياً: إحداهما في عام 1980 مع انطلاق التحالف الذي أسمي بالتجمع الوطني الديموقراطي، وقاد حراكاً مهماً إلى جانب- أو وراء؟- النقابات المهنية التي كانت ما زالت الدماء تسيل في شرايينها قبل مصادرة استقلاليّتها وروحها. ثم قادت حراكاً آخر إلى جانب- أو وراء؟- لجان إحياء المجتمع المدني والمنتديات مع ربيع دمشق في مطلع القرن الحالي.
وثانيها تلك النخبة الثقافية، التي يمكننا رؤية النقد والمعارضة جزءاً منها وطبعاً يطبعها وفي تكوينها، كان بعضها يميل إلى العمل في إطار التنظيمات السياسية، ليكون له دوره في قيادة عملية التغيير” السياسية”؛ لكنّ هذا البعض استغرق في وظيفته السياسية وأغرق فيها الكثير من وظيفته الثقافية- التغييرية- المستقلة نسبياً. كان هنالك بعض ثانٍ التزم بمهمته وأنتج زاداً جوهرياً للعمل السياسي والمنتظمين فيه أفراداً أو جماعات: كان بعض هذا البعض متواضعاً يقدّم الخدمات حيث تلزم للمستوى السياسي، أو متعجرفاً يرى نفسه فوقها أساساً. البعض الثالث العريض والأضعف كثافة- وثقافةً في الأعمّ الأغلب-، هو ذلك الذي بقي قريباً من النظام، من دون أن يتماهى معه تماماً.
كان صمت بعض تلك النخبة الثقافية غير مثير لغضب النظام، تعارضه وتتماهى مع أسلوب عمله في الوقت ذاته، أو تحسب أنها تستطيع القيام بالتغيير بمبادرة من” الحكماء” كما كان الأمر في التاريخ أحياناً. نقطة ضعفها في نقطة قوّتها، بعدها الاختياري، عن السياسة أو جهلها بطرائقها، خصوصاً تلك التي أبدعها الاستبداد في الجسد السياسي المعارض وأساليب عمله.
رغم ذلك، كان ما زال لتلك النخبة دور رائد في السبعينات، انتهى إلى لقائهم مع” الجبهة” الحاكمة وتقديم عرض ممتاز غير مسبوق لضرورة التغيير؛ كما قامت بإنتاج أعمال مختلفة تتصل بالعقلانية والديمقراطية والتغيير، فنية وفكرية وأدبية. كان السينمائيون السوريون في الطليعة يومها مع تقدّم عمر أميرالاي ومحمد ملص وهيثم حقي وأسامة محمد إلى الواجهة مع ما نفد من رياح ثورة شباب العالم؛ كما كان بعض المفكرين/ المثقفين يكتبون افتتاحيات وبيانات المعارضة، بل ويصيغون ويشاركون في تغيير فكرها وعصرنته: ومنهم ياسين الحافظ وإلياس مرقص وسعد الله ونوس وميشيل كيلو وآخرون.
ثالث تلك النخب ذات الفعالية، كانت في صفوف الشباب الجديد، الذي انتقل من حالة لا تبالي ولا تهتمّ كما كان يُقال عنها، لاغترابها في إطار التعليم والإعلام وطرائق الحكم البعثية- الاستبدادية؛ ودخلت في مرحلة انتقالية مزلزِلة مع العولمة والمعلوماتية، فربيع دمشق ثم تجربة الأسد الوارث المختلفة ببعض ألوانها عن تجربة أبيه. جاءت ثورة 2011 وتلك النخبة جاهزة لقيادة عملية التغيير على طريقتها ومثالها، وفعلت ذلك مباشرة ودون استئذان أحد. جاءت تلك النخبة من المدن والجامعات والتجمّعات الثقافية والفنية، واندفعت لتضع أنفها في” بوز” المدفع، تحمل إيماناً راسخاً بأن” الشعب السوري واحد”، و الشعب والجيش لا يمكن أن ينفصلا عند الاختبار العملي. كانت تلك خطيئة نخبة الشباب الأولى، التي غطّى عليها حلمهم- وحلم السوريين- بأن النصر على الأبواب، والعالم يتغيّر.
فشلت تلك النخب الثلاث في شراكتها فشلاً ذريعاً. وليسامحني الطرف الثالث منها أوّلاً على إقحامه مع الطرفين الآخرين، وليسامحني الطرف الثاني أيضاً على إقحامه مع الأوّل: لكن تلك هي الحقائق كما أراها من دون جَزْم!
ذلك يعني أن النخبة السياسية المعارضة كانت الأكثر فشلاً، والأكبر مسؤولية من الجهة المقابلة للنظام، من دون أن ننسى مسؤولية الأخير الحاسمة، ووحشيّته ودمويته؛ ومسؤولية” الداعمين” من الخارج، الذين كان دعمهم وحشياً بدوره في مسؤوليته عن وأد الثورة وحرفها عن مسارها وفشلها في تحقيق أهدافها.
في أواخر القرن الماضي، كان” التجمّع الوطني الديموقراطي” قد شاخ وهرم، وأصبح لزاماً على المعارضين السوريين بثّ الحياة والروح التجديد فيه أو استبداله ببنية أخرى. مع” ربيع دمشق”، ظهر عجز الهيكل القديم عن استيعاب متطلبات ما طرأ يومها على الحياة السياسية واحتمالات التغيير، وتقدّمت النخبة الثقافية والفنية إلى الأمام لتعطي لذلك الربيع روحه المختلفة. لقد توارى الدكتور جمال الأتاسي عن الحياة يومها- قبل الأسد الأب بقليل-، وهو الذي كان يكاد ينفض يده ممن يقودهم أن يستطيعوا التجدّد وعقلنة فكرهم وتنشيط روحهم التغييرية. في الوقت نفسه، كان العديد من المعتقلين السياسيين قد خرجوا إلى النور، ليبثّ بعضهم في الحركة خلفية ثأرية يحق للفرد أن يحملها، وليس للسياسي؛ وليتراجع بعضهم الآخر إلى الأبراج العاجية مع إدراك خطأ تجاوز المرحلة الليبرالية من العالم، كما ليعيد البعض الثالث دورته الأولى من حيث انتزعته الأجهزة الأمنية في السبعينات وما بعدها. كان هؤلاء جميعاً في قلب ربيع دمشق وحراكه… وتناقضاته أيضاً.
استطاعت النخبتان الأوليتان- واغتيال رفيق الحريري ومأزق النظام المعلن- أن يتّحدا في ائتلاف إعلان دمشق، أوسع تجمّع للمعارضة وأكثرها شمولاً وتنوّعاً، ليغرق بسرعة ما بين حدّيه: المتعجّل والمتأنّي، في موقفه من التغيير المأمول. لم يستطع ممثّلو النخبة الثقافية يومها أن يقوموا بدورهم المأمول، بل غرقوا في الصراعات ذاتها، أو أصابتهم- أو بعضهم على الأقل- غائلة القرف والارتكاس أو اليأس.
في الثورة ركّز النظام هجومه الأوّل على طليعة النخبة الشابة التي قادت الشارع في الأشهر الأولى، فاغتال بعضها، وسجن البعض الآخر أو أخفاه، ودفع بالآخرين إلى الهجرة سريعاً… اجتمع على ذلك جهد النظام وجهد القوى التي لجأت وأرادت منذ اللحظة الأولى جرّ الثورة إلى السلاح، ومن ثمّ إلي الثأرية والطائفية والأسلمة.
قد يقول البعض- وأنا منهم- أن النخبة الشابة، رغم إبداعها وسائل تنظيم خارقة للعادة وفعّالة منذ الأشهر الأولى، إلّا أن خبرتها الطويلة بالمعارضة السياسية” الرسمية” وفوات طرائقها وتهلهل روحها الثورية، جعلتها تتجنّب السياسة وتنظيم نفسها سياسياً لتقود بدلاً من تلك الهياكل القديمة… ولم تفعل.
أوصلها اليأس إلى الإغاثة والمجتمع المدني وإلى البناء البطيء من الأسفل، وإلى الاغتراب… ودفع بـ”رزان زيتونة” إلى الغوطة الشرقية مع رفاقها الثلاثة، حيث غابوا حتى الآن في أجواء تفوح منها رائحة الغدر والخيانة!
حين تخفت قليلاً أصوات الشعبوية التي تكسح حالياً أجواء السوريين، لا بدّ أن يبدأ البحث في جذور ما حدث. ويمكن منذ الآن محاولة تركيز الأسئلة النقدية وتصنيفها، التي ربّما كان منها:
هل كان صحيحاً البدء بالانتفاضة من دون تحضيرات كافية؟ أو هل كان يمكن تجنّب جاذبية العاصفة بعد طول انتظار؟ هل كانت قفزة في المجهول هرباً من إسار معلوم تفسّخ؟ وهل زاد ما خسرناه عمّا ربحناه؟ أم أن عوامل فوق قدراتنا قد أوصلتنا إلى حيث نحن؟! وكيف يمكن تجاوز معضلة الإسلام السياسي والعلمانية؟ والعشائرية والطائفية وعقدة المكوّنات والتنوّع، والأقلويّة والأكثروية؟
استطاعت الثورة أن تحسم نهائياً مصير الاستبداد والطاغية ولو تأخّر؛ وأن تفتح رؤوس شبابنا للريح وعيونهم للكون، وذلك ليس من أبواب الفشل إطلاقاً!