«الوطن الأزرق» عقيدة إيديولوجيا أم شعار «صفقاتي»؟

المركز الكردي للدراسات

مع تراجع المؤشرات الاقتصادية تركياً في السنوات الأخيرة، عادت عقيدة «الوطن الأزرق» لتحتل مكانة وتكتسب ثقلاً في الخطاب السياسي خاصة بالنسبة لشرق البحر الأبيض المتوسط.
فإلى جانب المكاسب الداخلية التي يحققها مثل هذا الخطاب في مجتمع تنحصر تفضيلاته السياسية بين اليمين الوسط واليمين المتطرف، رأت أنقرة طوال عقد من الزمن في ترداد مصطلح «الوطن الأزرق» أداة فعّالة لتنشيط نفوذها عبر آسيا وأفريقيا وأوربا وإعلاناً عن هدفها في استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية التجارية والبحرية في البحر الأبيض المتوسط، على درب التحوّل إلى قوّة إقليمية تفرض شروطها على طاولة المفاوضات وتقلبها عند رفض القوى الأخرى لهذه المطالب.
لكن يمكن القول بأن الرياح لم تتوافق مع أشرعة الرئيس رجب طيب أردوغان الذي أضطر خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى التراجع عن خطابات القوّة التي اعتاد إلقائها سابقاً، متّبعاً اليوم سياسة أكثر ليناً وبرغماتيةً وانفتاحاً قائمة على التعاون والتشارك بدلاً من رسم حدود برّية وبحرية جديدة تستفز أطرافاً إقليمية أخرى، وهو ما أدّى إلى تراجع مصطلح «الوطن الأزرق» في الأدبيات السياسية التركية.
تستعرض هذه الورقة ماهية عقيدة «الوطن الأزرق» وخلفيّاتها وتاريخها منذ نشأتها حتى تراجعها، إن لم نقل اختفائها، من الخطاب السياسي التركي مروراً بمرحلة الذروة.

«الوطن الأزرق» التركي مقابل «خريطة إشبيلية» اليونانية

يمكن القول أن عقيدة «الوطن الأزرق» دخيلة على إيديولوجيات حزب العدالة والتنمية، وهي التي تم تطويرها داخل المؤسسة البحرية التركية المتناغمة مع المذهب الكمالي والمتعارضة مع الإسلام السياسي.
شهدت السياسة التركية الخارجية في عهد حزب العدالة والتنمية، الذي وصل إلى السلطة عام 2002، نشاطاً مفرطاً في الشرق الأوسط وأفريقيا. لكن اهتمام أردوغان بالمنطقة البحرية جديد نسبياً، كما أنّه يتعارض إلى حد كبير مع الرؤية الجيوسياسية التي طورها حزب العدالة والتنمية.
في السنوات الأولى من حكم العدالة والتنمية أظهر الرئيس التركي الحالي، الذي شغل منصب رئيس الوزراء إلى حين تغيير نظام الحكم في البلاد من البرلماني إلى الرئاسي، عزمه التقرّب من الاتحاد الأوروبي وتخفيف حدة النزاعات مع اليونان. ودعم مع حزبه خطة عنان لإعادة توحيد قبرص التي يحتل الجيش التركي الجزء الشمالي منها منذ عام 1974.
اصطدم هذا الدعم برفض كبير من قبل التيار القومي الذي حذّر على الدوام من التضحية بالمكاسب التي حققتها العملية العسكرية في قبرص مقابل العضوية الافتراضية في الاتحاد الأوروبي. داخل القوى البحرية، نشأ تيار فكري يحمل مطالبات إقليمية طموحة: رؤية قانونية بأبعاد جيوسياسية.
مع توقيع قبرص للاتفاقية البحرية مع مصر في عام 2003، ومن ثم دخولها إلى الاتحاد الأوروبي في 1 مايو/أيار 2004، نشر الباحثان في جامعة إشبيلية الإسبانية خوان لويس سواريز دي فيفيرو وخوان كارلوس رودريغيز ماتيوس، بناء على طلب الاتحاد الأوروبي، خريطة سمّيت «خريطة إشبيلية» تحدد الحدود البحرية للاتّحاد الأوروبي في شرق المتوسط، والتي هي أيضاً المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل من اليونان وقبرص.
ردّاً على هذه الخريطة، عقدت قيادة القوات البحرية التركية في أنقرة في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2006 ندوة خصصت معظم مداخلاتها لمناقشة «خريطة إشبيلية» التي لاقت انتقادات لاذعة من الأدميرال جيم غوردينيز، المسؤول عن التخطيط الاستراتيجي في البحرية التركية، ليصبّ جام غضبه على الاتحاد الأوروبي لتبنيه الخريطة المعنية «دون أسس قانونية». ودعا غوردينيز تركيا إلى سحب الاعتراف باتفاقية خليج مونتيغو (التي تحدد حدود الاتحاد الأوربي البحرية وفق قانون الأمم المتّحدة لعام 1982)، والدفاع عن المنطقة الاقتصادية الخالصة التركية مسمّياً إياها «الوطن الأزرق»، معلناً بذلك ولادة الاستراتيجية الدفاعية ضد «خريطة إشبيلية» والتي تحوّلت لاحقاً إلى عقيدة إيديولوجية للدولة التركية.
ومع دخول عام 2009، قام الأدميرال جهاد يايجي بتطوير مخطط المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تطالب بها تركيا، مضيفاً إليها حدوداً بحرية مشتركة مع ليبيا، في كتاب شارك في تأليفه مع العقيد المتقاعد علي كوروماموت، الذي كان مستشاراً للحكومة التركية آنذاك. وضع يايجي، الذي بات يعرف بمنظّر عقيدة «الوطن الأزرق» مسوغّات قانونية وحقوقية لوجهة النظر التركية الرافضة لـ«خريطة إشبيلية» والخطوات الاستراتيجية الواجب اتّباعها في السياسة الخارجية للدفاع عما أسماه «حقوق تركيا البحرية».
لاقى الادميرال المتقاعد الدعم من العديد أدميرالات البحرية التركية ومنهم سونر بولات (توفي عام 2019)، أوزدن أورنيك، مصطفى أوزبي، وجيم عزيز جاكماك (توفي عام 2015)، والذين دافعوا عن هذا المفهوم بشكل كبير.
وطوال عقد من الزمن، حرصت تركيا على إظهار عزمها مواجهة المتحدّين لطموحاتها البحرية، وبدأت بتقديم خطابات متعددة وأحياناً متناقضة. ففي حين قدّمت نفسها لحلف الناتو باعتبارها آخر أسوار الحلف ضد روسيا، توجّهت إلى الشرق بخطاب أوراسي، مقابل إبراز واجهتها الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتركيز على تراثها “التوركي” في آسيا الوسطى، وإرثها العثماني في البلقان. لكن اجتمعت كل هذه الخطابات عند نقطة «الوطن الأزرق» الذي تحوّل إلى عقيدة وجودية تركية.
كانت العقيدة ستعزز قدرات أنقرة البحرية وتتيح لها نشر الوكلاء في أجزاء مختلفة من العالم، تيمّناً بالتجربة الإيرانية، وتشكّل غطاءً لإنشاء قواعد عسكرية بحرية وبرية وحتى جوّية في بقع تبعد عن تركيا آلاف الكيلومترات، وكل ذلك يجعل منها قوة عظمى تعطيها أفضلية استراتيجية في مفاوضاتها الإقليمية وحتى العالمية.
يتيح «الوطن الأزرق» التركي لأنقرة السيطرة على ممرات عبور الطاقة، ويمنحها نفوذاً استثنائياً ليس في البحرين المتوسط والأسود فقط، بل حتى في بحر قزوين ومنطقة آسيا الوسطى، ويحكّم قبضتها على طرق الهجرة إلى أوروبا بخريطة تقاطعات برّية وبحرية تتشابه في الكثير من خلفيّاتها مع «خطة النقاط التسع» الصينية في بحر الصين الجنوبي.

«الوطن الأزرق» في قلب السياسة التركية

مع نهاية العقد الثاني من القرن 21، كانت اليونان نجحت في حشد الدعم لـ«حدود الاتحاد الأوروبي البحرية» في مواجهة «الوطن الأزرق» التركي، بالإضافة إلى استقطابها استثمارات شركات أميركية وفرنسية وإيطالية وقطرية للغاز الطبيعي في الجرف القاري لقبرص وإسرائيل ومصر.
اعتبرت أنقرة، التي لا تعترف باتفاقية الأمم المتحدة للقانون الدولي للبحار لعام 1982، خطوات جارتها تعدّياً عليها، معلنة عدم اعترافها بالجرف القاري الذي أعلنته اليونان. وظهر الرئيس التركي في 2019 مرتين متحدّثاً أمام خارطة تشير إلى «الوطن الأزرق». كما أجرت أنقرة مناورات عسكرية تحت اسم «الوطن الأزرق» في كل من البحر الأسود وايجه والمتوسط بمشاركة 103 سفينة حربية وعشرات آلاف الجنود، في رسالة تؤكد على قدرتها على خوض معارك متزامنة في البحار الثلاثة.
واتبعت أنقرة خطواتها العسكرية بمناورة سياسية حيث قامت في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بتوقيع اتّفاقية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية للحدود البحرية المشتركة تتعارض مع المنطقة الإقتصادية الخالصة التي تطالب بها اليونان، بالتوازي مع تسريع عمليات التنقيب عن الهيدروكربونات، إذ أرسلت في أغسطس/آب 2020 سفينة «عروج ريس» تحت حراسة خمس سفن حربية لإجراء مسوحات للموارد الهيدروكربونية المحتملة في «الوطن الأزرق».
كما أصدرت مديرية الاتصالات التابعة للرئاسة التركية في سبتمبر/أيلول 2020 نشيد «الوطن الأزرق» على موقع «يوتيوب» يشبه في العديد من نواحيه النشيد الوطني التركي، مصحوباً بمقطع فيديو دعائي يسلط الضوء على تاريخ البحرية التركية الذي يمتد لقرون طويلة ومزجها بمواقف الرئيس التركي المؤيدة للدين.
مع تصاعد التوتّر، خاصة غداة اصطدام إحدى السفن الحربية التركية بسفينة حربية يونانية كانت تتعقب الأسطول التركي، أعلنت فرنسا إرسال قطع عسكرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لإظهار الدعم لليونان، التي تعهّدت بشراء المزيد من المعدات العسكرية لمواجهة تعدّيات جارتها على منطقتها الاقتصادية الخالصة.
كما نجحت أثينا في استثمار العلاقة المتوتّرة بين تركيا ومصر التي تمتلك موارد مهمة من الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط، وبادرت بتوقيع اتفاقية ترسيم للحدود البحرية مع القاهرة في 6 أغسطس/آب، مكللة جهود 17 عاماً من المفاوضات. لم تعترف مصر بالجرف القاري للجزر اليونانية بشكل كامل بموجب الاتفاقية، خاصة جرف جزر كاستيلوريزو. لكّن الاتّفاق اعتبر صفعة موجعة لأنقرة التي غدت مضطرة إلى التصادم مع القاهرة من أجل تثبيت حدود «الوطن الأزرق» بموجب الاتّفاق مع ليبيا.

«الوطن الأزرق» في السياسة الداخلية

وإن كانت عقيدة «الوطن الأزرق» تهدف إلى تعزيز مطالبات تركيا بالحدود البحرية الإقليمية والوصول إلى موارد الطاقة وزيادة النفوذ والنمو الاقتصادي، إلا أنّ تأثيرها لا يقتصر فقط على العوامل الخارجية المذكورة، بل تثير أيضاً جاذبية داخلية تتمثل في الايحاء بقدرة تركيا على «استعادة قوّتها وحقوقها البحرية الشرعية»، خاصةً إذا أخذنا بعين الاعتبار بأن المستهدف منها في الدرجة الأولى هو العدو التقليدي لأنقرة: اليونان.
وكما الحال بالنسبة لعسكرة السياسة الخارجية، استخدم الرئيس التركي عقيدة «الوطن الأزرق» في الداخل بشكل مكثّف للحفاظ على تحالفه مع اليمين القومي المتطرف والمتمثّل بحزب الحركة القومية ورئيسه دولت بهجلي وتمتين قاعدته اليمينية من التيارين القومي والديني. وعلى الرغم من تعارض عقيدة «الوطن الأزرق» مع الرؤية التقليدية للمحافظين الإسلاميين، إلا أنها مثّلت فرصة لأردوغان لتعزيز تحالفه مع الحركات القومية وتوفير إطار قانوني لوجوده العسكري في ليبيا.
في المنظور التقليدي لحزب العدالة والتنمية، رأى وزير الخارجية التركي ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو الأناضول كمركز بين أوروبا وأفريقيا وآسيا وجسراً للتواصل بين الدول الإسلامية في الشرق الأوسط مع التركية في وسط آسيا والقوقاز.
أما في عقيدة «الوطن الأزرق»، فإن شرق البحر الأبيض المتوسط هو المركز بين أوربا وأفريقيا وآسيا، من خلال موقعه على جانبي حوض المتوسط والشرق الأوسط وصولاً إلى المحيطين الهندي والهادئ، من خلال اشرافه على مصب قناة السويس، نقطة العبور الإلزامية لطرق التجارة التي تربط أوروبا بالمحيط الهندي، وبالتالي إلى جنوب شرق آسيا.
وتقع قبرص، التي يعتبرها التيار القومي التركي «الجوهرة التركية المتوسّطية»، في قلب المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تطالب بها أنقرة، حيث يعتبرها الأدميرال المتقاعد جهاد يايجي بأنها «أهم جزيرة في البحر الأبيض المتوسط من الناحية الجيوسياسية والجيواستراتيجية، وهي حاملة طائرات حقيقية توفر سهولة الوصول إلى تركيا وسوريا ولبنان وإسرائيل والأردن والعراق ومصر».
وباعتبار أن قلب الشرق الأوسط ينتظم حول مثلث بين خليج إسكندرونة وخليج البصرة وقناة السويس، يشير يايجي إلى أن قبرص تسيطر على أحد أطراف هذا المثلث (الإسكندرونة – السويس)، وهذا يفسّر معارضة أنصار «الوطن الأزرق» خطّة إعادة توحيد شطري قبرص، لأن قبرص التركية بالنسبة إليهم «يجب أن تحتفظ بموقعها في الشمال وتدافع عن المنطقة الاقتصادية الخالصة المقابلة». ومن خلال ذلك، ستحتفظ أنقرة بسيطرتها على حوض البحر الأبيض المتوسط الشرقي، وبالتالي على طرق الشحن البحرية الكبيرة العابرة للقارات.
تتعارض عقيدة «الوطن الأزرق» مع المنظور التقليدي للإسلاميين المحافظين في تركيا. فهي تحتّم على أنقرة التفاهم والاتّفاق مع كل من سوريا ومصر وحتى إسرائيل من أجل مواجهة الطروحات اليونانية. وهذا التفاهم يخالف رؤية الإسلاميين الأتراك «للاتّفاق مع الدكتاتوريات العربية المناهضة للسنّة، أو اليهود».
في أحد خطاباته الشعبية لحشد الدعم لممثلي حزبه في الانتخابات البلدية لعام 2019، قال الرئيس التركي: «بنفس الصلابة التي مزّقنا فيها اتّفاقية سيفر ورميناها في سلّة المهملات قبل عصر، سنحمي اليوم الوطن الأزرق».
يمكن اعتبار هذا التصريح وغيرها من التصريحات المشابهة استمراراً للخطاب الشعبوي الذي انتهجه الرئيس التركي في إظهار قوّته وعزمه على استعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية ومواجهة أطماع الدول الغربية وعلى رأسها اليونان لتقييد تركيا، وكل ذلك تحت مسمّى «معاهدة سيفر الثانية» تذكيراً بقيام القوى الغربية بتفكيك بقايا الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى من خلال معاهدة سيفر.
وتحت سقف هذه العقيدة القومية، اجتمع الرئيس التركي الإسلامي مع جنرالات البحرية التركية الأتاتوركيين من المعارضين لحكم حزب العدالة والتنمية ومنهج الإسلام السياسي بشكل عام، لتتوالى التصريحات المؤيدة للحكومة في توجّهها من قبل أدميرالات البحرية المعارضين الذين قضوا احكاماً بالسجن لسنوات في قضية «أرغينيكون»، وتطابق الخطاب العسكري الأتاتوركي مع السياسي العثماني للمرة الأولى منذ وصول «العدالة والتنمية» إلى السلطة.
أما البعد الثالث للعقيدة السحرية التي جمعت الإسلاميين والأتاتوركيين تحت مظلّتها، فتمثّل في قدرتها على ضم التيار الأوراسي إلى هذه الخلطة التي وجد فيها كل طرف وسيلة لمواجهة «أعدائه».
حرص منظّرو العقيدة إلى تقديمها للجمهور التركي، كل حسب ذائقته. فبالنسبة للإسلاميين، كان التمسّك بـ«الوطن الأزرق» نضالاً ضد المسيحيين الكفرة في اليونان والدول المسيحية المؤيدة لها، وبالنسبة للقوميين، كان استمراراً لإرث مصطفى كمال في طرد اليونان من الوطن المائي أيضاً بعد طردهم من سواحل المتوسط. أما بالنسبة لأتباع المفكر الروسي ألكسندر دوغين، كانت نقطة يلتقي فيها الروس والأتراك المناهضين لليونان وبقية دول حلف الناتو، وعلى رأسها الولايات المتحدة، الذين أبدوا دعمهم لأثينا من خلال المشاركة في مناورات عسكرية بحرية ردّاً على مناورات «الوطن الأزرق» البحرية التركية.
يعتبر الأدميرال جيم جوردينيز «الوطن الأزرق» بأنه «الميثاق الملي» الجديد. وبعد أن اعتمدها أردوغان، أصبحت العقيدة مدعومة أيضاً من حزب الشعب الجمهوري الكمالي، المعارضة الأم في البلاد، ولكنّها بقيت متأصلة في صفوف القوميين، التقليديين منهم والأوراسيين.
تتوافق الجغرافيا السياسية للبحر الأبيض المتوسط وفق «الوطن الأزرق» مع الرؤية التاريخية لحزب الحركة القومية الذي انتقد دعم حزب العدالة والتنمية خطة عنان لقبرص في عام 2004. ومثل الأدميرالات، يعتبر حزب الحركة القومية المطالبات اليونانية تهديداً لتركيا. وهذه الرؤية تقف وراء انتقاد الحزب للسياسات الحكومية التي أدّت إلى تدهور العلاقات مع مصر وإسرائيل وسوريا.
تحالف بهجلي مع أردوغان في عام 2017 ولّد انقساماً داخل الحزب وأدّى إلى نشوء «حزب الجيد» الأكثر التزاماً بالعلمانية. لكن، وعلى الرغم من التنافس بينهما، إلا أن الحزبين واصلا دعم عقيدة «الوطن الأزرق».
وهكذا، فإن فكرة إنشاء منطقة اقتصادية خالصة تبلغ مساحتها 460.000 متراً مربعاً باتت مفتاحاً للحصول على دعم الإسلاميين والقوميين، وأيضاً الأوراسيين الداعين إلى التقارب مع روسيا وإيران وحتى الصين، على حد سواء.

اختفاء عقيدة «الوطن الأزرق»

في أواخر العام الماضي، فجّر الأدميرال المتقاعد التركي ذو الآراء القومية المتطرفة ومنشئ عقيدة «الوطن الأزرق» مفاجأة بقوله إن بلاده منذ عام 2020 تعمل بما يتماشى مع «خريطة إشبيلية» المثيرة للجدل التي تدعم المطالبات اليونانية في شرق البحر الأبيض المتوسط، بهدف تحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي.
وقال يايجي، رئيس مركز الاستراتيجيات البحرية والعالمية التركي، في برنامج مع الصحافي التركي المخضرم فاتح أيتايلي في سبتمبر/أيلول 2023، أن تركيا وحتى 22 ديسمبر/كانون الأول 2020، لم تدخل المياه الإقليمية اليونانية وفق «خريطة إشبيلية».
وأضاف: «أعتقد أنه اعتباراً من عام 2020، تم تنفيذ جميع أنشطتنا داخل حدودنا وفق خريطة إشبيلية، ربما لتعزيز العلاقات الجيدة مع الاتحاد الأوروبي والهروب من انتقاداته».
في عام 2019، فرض الاتحاد الأوربي عقوبات على تركيا بسبب أنشطة التنقيب عن النفط في شرق البحر المتوسط. وتم تمديد العقوبات لمدة عام وانتهت في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
بالمقابل في 16 مايو/أيار 2020، تم تخفيض رتبة مهندس الاتّفاق بين تركيا وليبيا ومؤسس عقيدة «الوطن الأزرق» الأدميرال جهاد يايجي رسمياً بموجب مرسوم رئاسي، ما دفعه إلى تقديم استقالته بدلاً من القبول بخفض رتبته.
وفي 4 أبريل/نيسان 2021، حثّت رسالة مفتوحة موقعة من 104 أميرالات متقاعدين – بما فيهم غوردينيز ومصطفى أوزبي – الحكومة التركية على عدم تقويض اتفاقية مونترو، الموقعة في عام 1936. كما انتقد غوردينيز مشروع قناة إسطنبول لبناء معبر بحري جديد بين البحر الأسود وبحر مرمرة، لكونها خارج نطاق اتفاقية مونترو ما يعني «تحدي مونترو والتخلص منه خدمة للإمبريالية» لأن قناة إسطنبول بالنسبة إليه «هي عكس الوطن الأزرق».
كان رد فعل حزب العدالة والتنمية على هذا التحذير سريعا وقاسياً. اتّهم مدير دائرة الاتّصالات في القصر الرئاسي التركي فخر الدين ألتون الموقّعين على الرسالة بأنهم يمثلون «الطابور الخامس»، ويجسّدون «تركيا القديمة»، مشبهاً أفعالهم بالانقلاب الفاشل في 2016. وفتح مكتب المدعي العام في أنقرة تحقيقاً بحقّهم بتهمة «الاجتماع لارتكاب جريمة ضد أمن الدولة والنظام الدستوري». وفي اليوم التالي، تم اعتقال غوردينيز وعشرات الأدميرالات الآخرين، قبل أن يتم إطلاق سراحهم شرطياً في 13 أبريل/نيسان.
بالتوازي، سحبت أنقرة سفن التنقيب والاستكشاف خاصتها وغيّرت من لهجتها. وبينما كانت تؤكد في السابق على عزمها الدفاع عن حقوقها والاستفادة من الثروات الباطنية والمائية لـ«الوطن الأزرق»، تحوّلت إلى التباهي بعدم السماح للدول الأخرى من دخول حدود «الوطن الأزرق» والاستثمار فيه، متجاهلة بأنها هي الأخرى أوقفت محاولات الاستفادة من هذه المنطقة. بمعنى آخر، تحوّلت المساحات المائية لـ«الوطن الأزرق» التركي المتداخلة مع المنطقة الاقتصادية الخالصة اليونانية بحكم «خريطة إشبيلية» من مناطق تركية إلى مناطق محايدة.
تشير خطوة خفض رتبة يايجي وتوقيف الضباط الآخرين إلى مناورة تركية لتهدئة واشنطن والاتّحاد الأوربي، بعد تزايد دفء العلاقات الأميركية-اليونانية وتصويت الكونغرس الأميركي لرفع حظر الأسلحة المفروض منذ عقود على قبرص. ومع تعمّق الأزمة الاقتصادية التركية والحاجة إلى الوصول إلى موارد مالية خارجية واستمثارات أجنبية، باتت أنقرة أكثر حرصاً على توجيه رسائل اطمئنان إلى الغرب انطلاقاً من جارتها اليونان.
أما الحدث الأكثر تطوّراً فيما يخص «الوطن الأزرق»، فهو الزيارة التي قام بها الرئيس التركي إلى أثينا ولقائه رئيس الوزراء اليوناني، حيث تراجع خلال المؤتمر الصحافي المشترك عن جميع التهديدات السابقة التي أطلقها حول الهجوم على اليونان على حين غرّة.
ومع مطلع العام الحالي، أعلنت الإدارة الأميركية موافقة الكونغرس على بيع مقاتلات «إف-16» لأنقرة، بالإضافة إلى حزمة واسعة من قطع الغيار اللازمة لتحديث الأسطول الجوي التركي، مقابل بيع مقاتلات «إف-35» لليونان. وربط الكونغرس الأميركي الموافقة التركية بتعهّد الأخيرة عدم استخدام هذه المقاتلات في أي نشاط عسكري مستفز لأثينا.
وإذا اخذنا بعين الاعتبار بكون عقيدة «الوطن الأزرق» موجّهة بشكل خاص ضد اليونان وقبرص، فإن قبول أنقرة التنازل عن الورقة العسكرية لتنفيذها يعني إلى حد كبير التراجع عن العقيدة نفسهت أو وضعها على الرف لفترة من الزمن على الأقل.
إن هذا التراجع من قبل أنقرة انعكس أيضاً في تراجعها عن خطط ربط المساحات الجيوسياسية في كل من مصر، التي زارها أردوغان في منتصف فبراير/شباط الجاري، وليبيا، التي قررت محكمة استئناف طرابلس فيها إلغاء مذكرة التفاهم التي وقعتها حكومة طرابلس مع أنقرة عام 2022 بشأن التعاون في مجال الطاقة كون «الحكومة المؤقتة ورئيس الوزراء لا يملكان صلاحية التوقيع على أي اتّفاق طويل الأمد».

خلاصة:

– دافعت أنقرة مع بداية «الربيع العربي» عن عقيدة «الوطن الأزرق»، وأظهرت تمسّكها بها ودعمتها من خلال إقامة منشآت عسكرية ووجود عسكري في قطر وليبيا والصومال وسوريا والعراق إلى جانب قبرص. كما دعمت عقيدتها بخطوات لوجستية من خلال الحصول على سفن استكشافية وأجهزة حفر وبرنامج لبناء السفن البحرية التركية تهدف إلى صناعة 15 وحدة حربية حديثة وضمها إلى البحرية التركية بحلول عام 2027، بالإضافة إلى الغواصات الألمانية وحاملة طائرات الهليكوبتر «الأناضول»، وطائرات العمل البحري المشترك.
– ترى تركيا في عقيدة «الوطن الأزرق» ضمانة لعدم استبعادها من تخصيص الموارد في شرق المتوسط ومشاريع نقل الطاقة فيها، وتجميد خطط التعاون الثلاثي التي تشارك فيها اليونان وقبرص، بمباركة واشنطن.
– يرى أردوغان في «الوطن الأزرق» وسيلة لضمان الإجماع السياسي الداخلي حيث تدعمها كافة الاحزاب السياسية في البلاد عدا حزب المساواة حزب المساواة والديمقراطية بين الشعوب (حزب الشعوب الديمقراطي سابقاً)، ما يزيد من احتمالات إحيائها قبل وأثناء الاستحقاقات أو الأزمات السياسية والاقتصادية لرصّ القواعد في الداخل.
– تبدو عقيدة «الوطن الأزرق» متأصلة ضمن سياق استراتيجي تركي غير مرتبط بشخص أو حزب أو إيديولوجيا سياسية. ويمكن النظر إلى اختفائها كتكتيك سياسي فرضته الظروف الاقتصادية والعزلة السياسية التي عانت منها أنقرة خلال السنوات الأخيرة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد