المركز الكردي للدراسات
في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، أطلقت قوى الأمن الداخلي، بدعم من قوات سوريا الديمقراطية «قسد» ووحدات حماية المرأة «YPJ» ، المرحلة الثالثة من حملة «الإنسانية والأمن» داخل مخيم الهول، جنوب شرق مدينة الحسكة. وأرجأت قوى الأمن المرحلة الثالثة نتيجة الهجمات التركية على شمال شرقي سوريا، رغم أعمال الشغب التي قمن بها نسوة تنظيم داعش وتهديدهن المتكرر لإدارة وقوى حماية المخيّم، مع توافر معلومات عن رغبة التنظيم شنّ عمليات هجومية داخل وخارج المخيم لإحداث فوضى تساهم في تراخي القبضة الأمنية وفرار العديد من القاطنين الخطرين.
يكاد ملف مخيّم الهول، الذي يشار إليه بأخطر مخيّم في العالم أن يصبح واحداً من الملفات المنسية، رغم شيوع محاذير تشير للمخيم بأنه قنبلة موقوتة أو أنه في وضعه الحالي يمثّل «دويلة للتنظيم» وهدفاً دائماً لخلايا «داعش» التي تسعى لتنفيذ عمليات داخله.
على أن تراجع الاهتمام الدولي بمخيم الهول ومخاطر شن «خلايا التنظيم» هجمات دامية، يعود للملفات الدولية التي طرأت على الساحة، كالحرب على أوكرانيا والحرب في غزة وتنامي أنشطة إيران ووكلائها في المنطقة. إلّا أن تراجع الملف دولياً لم يقلل من اهتمام القوى المعنية بمتابعة مايجري في المخيم وما يدور من خطط وأنشطة تستهدف المخيم من داخله.
تجابه الإدارة الذاتية المخاطر المستمرة لتركة «داعش» الثقيلة في المخيمات والسجون، ذلك أنها تمثل قلقاً مزمناً للإدارة وإمكانية أن تخرج الأمور عن السيطرة كما في حالة استمرار القصف التركي على مناطق الإدارة الذاتية وتشتيت جهود قوات سوريا الديمقراطية وقوى الأمن الداخلي.
الحملات السابقة: النتائج والاستنتاجات
كشفت حملة «الإنسانية والأمن» الأولى في 28 مارس/آذار 2021، التي شارك فيها نحو خمسة آلاف فرد من قوى الأمن الداخلي بدعم من «قسد» و««YPJ، المخاطر التي تجول في المخيم والأنشطة الإجرامية، إذ ألقي القبض على 125 عنصراً من خلايا التنظيم، كان 20 منهم من متزعمي الخلايا أو من فرق الاغتيالات التي نفّذت عملياتها المخيم. كما عُثر على مستلزمات عسكرية أثناء حملة التفتيش، بالإضافة إلى دارات إلكترونية تستخدم في تحضير العبوات الناسفة.
نبهت الحملة الأولى قوى الأمن للمخاطر الكبيرة داخل المخيّم وإمكانية أن يتحوّل إلى بيئة مواتية جديدة لتجديد قدرات التنظيم الذاتية، إضافة إلى تفشّي الخلايا النائمة وإلى أدوار قيادية تقوم بها نساء «داعش» في سبيل جعل المخيم معسكراً للإعداد والتنظيم وإعادة التسلّح.
أما الحملة الثانية، التي بدأت في 25 أغسطس/آب 2022 واستمرت 24 يوماً، جاءت بعد سلسلة جرائم ارتكبت داخل المخيم. نفّذت خلايا التنظيم والأسر المرتبطة بها 43 عملية أفضت إلى قتل 44 شخصاً بينهم 14 امرأة وطفلان داخل المخيم باستخدام كواتم الصوت والبنادق والآلات الحادة، فيما أخفت الخلايا الجثث برميها في حفر الصرف الصحي، إضافة إلى حرق الخيم أثناء نوم السكان ومحاولات إزالة جدران الحماية حول المخيّم وحدوث 13 حالة خطف وإتلاف المواد والمستلزمات الطبية والخدمية.
أسفرت الحملة عن اعتقال 226 شخصاً، بينهم 36 امرأة شاركن في جرائم القتل والترهيب، والكشف عن 25 خندقاً ونفقاً وكمية كبيرة من الأسلحة وتدمير الكثير من النقاط والأوكار التي خصّصتها الخلايا لتلقين فكر التنظيم شديد التطرّف. واعتقلت قوى الأمن العديد من أخطر النساء اللواتي تولّين مهام التدريب والتلقين واستقطاب العناصر داخل وخارج المخيم والقائمات على الدعاية للفكر المتطرّف، وكذلك النساء اللواتي قمن بعمليات إجرامية بحق القاطنين. كما شتّتت القوات جهاز ما يسمى بـ«الحسبة وأشبال الخلافة» باعتقال المسؤولين عنه وإعادة تنظيم بعض القطاعات.
تم الكشف، خلال التحقيقات التي أجريت في تلك الفترة، عن ثلاثة مصادر للأسلحة كانت بحوزة خلايا «داعش»، الأول، تورّط بعض موظفي المنظمات في إدخال الأسلحة والأموال وتهريب البعض من نساء «داعش». والثاني، الأسلحة الفردية والمتفجرات التي أخفتها نساء التنظيم بين حوائجهن وملابسهن أو عن طريق أطفالهن خلال نقلهم من الباغوز؛ فيما تمثّل المصدر الثالث باستغلال عناصر «داعش» الإمكانات المقدمة من المنظمات في صناعة الأسلحة الحادة كالخناجر والسكاكين والهراوات وأجهزة التعذيب المروّعة لترهيب القاطنين، ودفعهم للرضوخ والإذعان.
وتمكّنت وحدات حماية المرأة «YPJ» من إنقاذ شابتين إيزيديتين من قبضة نساء التنظيم المتشددات ونقلتهما إلى مساحة آمنة. كما تمكنت الوحدات من تخليص أربع نساء كنّ مقيدات بالسلاسل تعرضن لتعذيب وحشي من قبل نساء «داعش».
تركت الحملة الثانية جملة استنتاجات فيما خص درجة تطوّر قدرات نسوة التنظيم وقدرتهن على القيام بأدوار قيادية وتعبوية وتطويرهن لوسائل وأدوات العقاب، إضافة إلى عمليات تهريب الأسلحة وتطوّر العمل اللوجستي داخل المخيم، إلى جانب انكشاف طبقة جديدة من الخلايا داخل المخيم، ما عنى وقتها وجوب القيام بحملات لاحقة. إلّا أن الشرط الأمني العام في مناطق شمال شرقي سوريا، المرتبط بحدّة الهجمات التركية على شمال شرقي سوريا، عطّل المساعي الرامية للقيام بحملة ثالثة في وقت أقرب للحملة الثانية.
سير العملية الثالثة في المخيم
بدأت المرحلة الثالثة من عملية «الإنسانية والأمن» في مخيم الهول يوم 27 يناير/كانون الثاني الماضي. ساهم الانقطاع الطويل بين المرحلتين الثانية والثالثة في تمكّن خلايا التنظيم من مراكمة السلاح وتنظيم الخلايا مجدداً. فطيلة الفترة الفاصلة بين العمليتين الأخيرتين، كانت نساء «داعش» يقمن بأعمال شغب وتهديد القوى القائمة على تأمين المخيّم. كما أن تقاطع المعلومات التي اعترف بها سجناء التنظيم والأفراد الذين تم القبض والتحقيق معهم، أشارت إلى نية التنظيم شن عمليات هجومية من داخل وخارج المخيّم، إضافة إلى فرض الإتاوات على القاطنين وتهديد بعض العائلات للرضوخ والإذعان للأوامر الصادرة عن «قادة الخلايا».
كان يفترض أن تشكل الكثافة النسائية في المخيم سبباً إضافياً للاستقرار نظراً لأن النسبة الأعم من عناصر التنظيم هم من الرجال. إلّا أن الجانب العقائدي يبدو متفشّياً داخل أوساط عائلات «داعش» بمعزل عن الجنس أو العمر، إذ شهد «القسم الخامس» و«قسم المهاجرات» في المخيم تهديدات وهتافات أطلقتها نساء التنظيم وجهت للقوى الأمنية المشاركة في الحملة ولإدارة المخيم. كما أثبتت التحقيقات ضلوع نساء في عمليات الخطف والقتل والتهديد.
أفضت المرحلة الثالثة في مختلف أقسام المخيم إلى القبض على 85 عنصراً للتنظيم. وعثرت القوى الأمنية على قنابل يدوية وألغام وأحزمة ناسفة وأسلحة رشاشة وذخائر بالإضافة إلى معدات عسكرية، مع تدمير خمسة أنفاق. وتمكّنت قوى الأمن الداخلي من الوصول إلى المدعو «أبو سفيان اللّهيبي»، المسؤول عن الخلايا ضمن المُخيَّم ومحيطه ومنسق العمليات الإرهابيّة ضمن المخيم وخارجه وتحييده، إلى جانب عنصر آخر كان معه بعد تحديد مكان اختبائه. وقبل ذلك في 28 ديسمبر/كانون الأول 2023، تمكّنت قوى الأمن من تحييد المدعو «أبو عبيدة العراقي» داخل القسم الخامس الذي شهد اضطرابات عكست نفوذ التنظيم داخله. وكان «العراقي» المخطط لعمليات الانتقام ومتورطاً في مقتل وتهديد العديد من قاطني المخيّم.
كما تمكّنت وحدات حماية المرأة من تحرير مختطفة إيزيدية تدعى كوفان عيدو خورتو من قبضة التنظيم الإرهابي، إذ كانت اختطفت منذ عشر سنوات أثناء هجوم التَّنظيم الوحشيّ على قريتها حردان التابعة لشنكال (سنجار) في إقليم كردستان العراق في أغسطس/آب 2014.
مع كل مرحلة جديدة لعمليات «الإنسانية والأمن»، يترسخ اعتقاد مفاده أن مسألة مكافحة خلايا التنظيم ومجنّداته وعمليات تنشيط خطاب «داعش» المتطرّف تزداد مع الأيام. فالمخيم الذي يقطنه زهاء 50 ألف شخص يمثّل بيئة ملائمة لإعادة إنتاج أفكار التنظيم لا سيما بين من يسمّون «أشبال الخلافة». كما أن ضعف الروابط الأهلية بين السكان أدى إلى تحكّم الخلايا بالعائلات التي لا تريد الانصياع مجدداً لأهداف التنظيم. كذلك، فإن ثقل تواجد مواطني 45 دولة داخل المخيم ممّن يعرفون بأنهم الأشد تطرّفاً يعزز من الأفكار المتطرفة، فوق أن «حلم الفرار» من المخيم لا يزال يمثل أحد الديناميات الأساسية التي تدفع خلايا التنظيم لمواصلة جهودهم في إثارة الفوضى أو الإصرار على بسط سيطرتهم على بقية العائلات داخل المخيم.
سعت الإدارة الذاتية عقب هزيمة «داعش» في الباغوز عام 2019، عبر مراسلة الدول الأجنبية وتوجيه النداءات للمجتمع الدولي، إلى وضع حد لملف المقاتلين الأجانب في السجون والعائلات الأجنبية القاطنة في المخيم. إلّا أن جهودها لم تلقَ آذاناً صاغية، رغم أن بعض الدول التي تتجاهل مواطنيها الدواعش تمتلك الإمكانيات التي لا تقارن مع إمكانيات الإدارة الذاتية لجهة نظم المراقبة والسجون والمحاكم المختصّة. يمكن كذلك تفهم سلوك هذه الدول بأن الرأي العام فيها لا يطالب باستعادة عناصر وعائلات التنظيم، وهو الأمر الذي يريح الحكومات حتى وإن كانت حكومات ديمقراطية تزعم امتداد رعايتها لمواطناتها ومواطنيها في خارج دولها أيضاً.
معضلة «أشبال الخلافة»
يبلغ تعداد الأطفال ما دون سن الثامنة عشر أكثر من 26 ألف نسمة، أي أكثر من نصف سكان المخيم البالغ عددهم بموجب الإحصاء الأخير لإدارة المخيم قرابة 43 ألف مقيم، وبواقع يتجاوز 12 ألف عائلة. فيما الأطفال، ذكوراً وإناثاً، مقسّمون على أربعة فئات: سوريين، عراقيين، أجانب، ومجهولي النسب. برز استخدام الأطفال في الحرب من قبل «داعش» على نطاق واسع في الفترة التي بات يعاني منها نقصاً في المقاتلين، أي قبيل خروج مدينة الرقة عن سيطرته، إذ كثّف من الأفلام الدعائية التي تستعرض الأطفال بثياب متميزة عن بقية عناصر التنظيم وهم يتنكبون الأسلحة أو يستعرضون السكاكين. وكان الهدف من استخدام الأطفال تحميل الجانب الآخر مسؤولية أخلاقية خلال القتال وإثقال كاهل قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي بالموجبات الأخلاقية عند مواجهة الأطفال.
في بيئة مواتية كمخيم الهول، يجري إعداد جيل جديد من المقاتلين. تصر آلة التنظيم الدعائية على تسميتهم «أشبال الخلافة»، وكذلك الأمر في سجن الصناعة بالحسكة في القسم المخصص للقاصرين، والذي تعرّض إلى قصف بمسيّرة تركية منتصف يناير/كانون الثاني الماضي. يؤمّن هذا الجيل الفتيّ للتنظيم نقل التجارب والخبرات العسكرية والأمنية والتعاليم المتطرّفة من جيل لآخر بالشكل الذي يبقيه على قيد الحياة. وخلال الحملة الأخيرة، ألقت قوى الأمن الداخلي القبض على شرعي من خلايا «داعش» داخل مخيم الهول يتولى مسؤولية نشر فكر التنظيم بين الأطفال وأبناء المخيم، الأمر الذي يشير إلى وجود عناصر تتمثّل مهمّتهم بالإعداد العقائدي.
من المفزع ترك الأطفال لمصيرهم داخل المخيم ودون دعم دوليّ جدّي يساهم في تجفيف الأفكار المتطرفة داخل آخر مجتمع داعشيّ، إذ إن تنوّع جنسيات العائلات يعني إمكانية أن يعمم الأطفال تجاربهم التي يكتسبونها ونقلها إلى مكانٍ آخر فيما بعد. كما أنه من غير المنطقي ألا تُبذل جهود حقيقية لتضمين وإدماج الأطفال في مجتمعات صحّية يعيشون فيها كأطفال طبيعيين يتلقون التعليم والرعاية ويخضعون لدورات إندماج جديدة.
ملاحظات ختامية
مع كل حملة لقوى الأمن الداخلي، تترسخ القناعة بوجوب إيجاد حل جذري لمشكلة مخيم الهول أو التخفيف من حدّة الاكتظاظ. لذا، يتعيّن على الدول استعادة مواطنيها من المخيم، إذ إنه من بين قرابة 50 ألف قاطن فيه، تمت إعادة حوالى 2700 لبلدانهم التي وفدوا منها وقرابة 6500 عراقي، وهي أرقام ضئيلة قياساً لمن تبقّى في المخيم والسجون.
يتعيّن كذلك على المجتمع الدولي دعوة تركيا لوقف الأعمال العدائية التي تساهم في منح التنظيم فرصاً جديدة للتمرّد داخل السجون والمخيمات. فالهجمات الجوية التركية ساهمت بدرجة بكبيرة في إنعاش تطلّعات الخلايا داخل المخيم وحدوث حالات شغب تزامنت مع الضربات التركية.
ينبغي على المجتمع الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة المعنية تقديم دعم يتناسب مع حجم الضغط على كاهل الإدارة الذاتية، وبالتالي المساهمة في إعادة هندسة المخيم وتطوير نظم المراقبة والسيطرة وإيجاد بدائل جديدة لتسريع التدخل من قبل القوى الأمنية المسؤولة عن حماية المخيم حال حدوث مشكلات أو حالات اعتداء أو تهديد من قبل خلايا «داعش» بحق بقية القاطنين.
من الصعب الإبقاء على الأطفال في بيئة غير آمنة وشديدة التوحّش رفقة الخلايا في مكان واحد وبالشكل الذي يمكنهم من إخضاع القاصرين لدورات غسيل دماغ والتأثير في تفكير الناشئة وتلقينهم الأفكار المتطرفة.
إن استمرار حملات القوى الأمنية بدعم من «قسد» و«YPJ» يساعد في التحوّط لعمليات كبرى يسعى إليها التنظيم. لكن الفاصل الزمني بين الحملات، نتيجة الظروف المرتبطة بالهجمات التركية، يقيّد التدخل السريع للقوى المسؤولة عن عمليات التفتيش. وقد يكون من الأمثل إيجاد صيغة تعاون بين القوى الأمنية وقوات التحالف الدولي لتسريع الحملات الأمنية بالشكل الذي يطمئن العائلات داخل المخيم من أن تدخل خلايا «داعش» والمتعاطفين معهم يصبح أخف مما هو عليه في الفترات التي تفصل بين الحملة والأخرى.