أزمة الهوية والاندماج الوطني في إيران (2-2)
د. طه علي أحمد
مع تسارع وتيرة الانخراط الإيراني في البيئة الصراعية، وتبوأها مكانة مركزية في أتون المستجدات الخطيرة التي تشهدها المنطقة، تتجه أزمة الهوية التي يعيشها المجتمعُ الإيراني، التي خلفتها ممارسات السلطات الإيرانية المتعاقبة بشأن إدارة التنوع القومي في إيران، نحو المزيد من الاختناق، لاسيما وأن غالبية هذه المكونات لديها تطلعات نحو تأكيد هويتها واستغلال “الفرص السياسية” Political opportunities التي توفِّرها بيئة النظام الساسي الإيراني داخلياً وخارجياً من أجل تحقيق مكتسبات قومية. وبجانب الصيرورة التاريخية للتطور الفكري في إيران على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين التي كشف عنها الجزء الأول من هذه الدراسة، فقد تضافرت العديد من العوامل السوسيو – سياسية Socio – political المتصلة بالتنوعات القومية المكونة للمجتمع الإيراني لتشكل “أزمة هوية” تزداد حدة وقابلية للانفجار مع التطورات الصراعية في الشرق الأوسط، وهو ما يكشف عنه الجزء الثاني من الدراسة:
جوانب أزمة الهوية في إيران
نتيجة للتنوع القومي الشديد في إيران، لطالما كانت الهوية غير متجانسة تاريخياً بشكل أدى لتحولات جادة في مفاهيم الهوية الوطنية بإيران. ويرجع ذلك إلى التناقض والتنافس بين البُعدين القومي والديني الذين تضمَّنَا خطابين متنافسين، يسعى كلاً منهما لتهميش الآخر. فالخطاب القومي بُني على أساس تمجيد التراث ما قبل الإسلامي باعتباره مصدر الأصل والمجد الإيراني، وقد تم تبني هذا الخطاب خلال الحقبة الملكية لتعزيز هيمنة النظام الملكي وإعادة الشعور القومي الإيراني. وقد تمركزت في إطار هذا النظام مكانة اللغة والثقافة الفارسيتين.
لقد شكل الخطاب القومي لبناء الهوية الإيرانية محاولة لبلورة هوية وطنية في إطار دولة مركزية راسخة تتجاوز كافة الولايات الفرعية Primordial Loyalties، واعتبار أن هذا البناء الفوقي هو مصدر الهوية والثقافة السياسية ووعاء لكافة الأبنية الفرعية. وقد سعى رضا شاه لتطبيق ذلك بشكل قسري على كافة المجموعات العرقية لدمجها في إطار مشروع تفريس. وقد ارتكز هذا النهج على تكريس تصورات خاصة بالماضي القديم. وفي هذا الإطار تم تغيير أسماء المدن والمعالم الثقافية إلى الفارسية مع تهميش كافة الروابط مع الهوية الإسلامية لإيران. وقد لعب هذا الخطاب دوراً يُذكر في تعزيز الوحدة الإقليمية. لكن في المقابل، انعكست ممارسات الحكومات المتعاقبة تجاه الجماعات “غير الفارسية” على خلق توترات دائمة بين هذه الجماعات والسلطة المهيمنة بما خلف مع الوقت أزمة اندماج وطني Social Integration عميق بين الإيرانيين.
في مقابل الخطاب القومي، برز مع “الثورة الإسلامية” خطابٌ يسعى بعيداً عن الأساس القومي للنظام الملكي، ويذهب لإعادة فرض الخطاب المؤيد للإسلام تحت شعار “الدعوة إلى رسالة عالمية وحكم إسلامي واسع”، وهو ما كان له دور في الاصطدام بالفكر الغربي ومن ثم الصدام الذي برز لاحقاً.
وقد تمثل جوهر الخطاب الديني “الخُمَيني” في أن “القومية ظاهرة علمانية ترفض الأمر الإلهي لتأسيس المجتمع الصالح، ومن ثم سعت الحكومات المتعاطفة لمحو كل ما له علاقة بالقومية الإيرانية، وجعلت من الاسلام الهوية الأصيلة الوحيدة للإيرانيين، وتم توظيف كافة مؤسسات الدولة للحفاظ على الأيديولوجية الإسلامية والترويج لها. وقد ارتكز هذا الخطاب على “التشيع” و”الأمة الإسلامية”. رغم ذلك، لم يختفي الخطاب القومي، بل ظل مُتجذراً في ممارسات السلطة وبخاصة تجاه المكونات العرقية غير الفارسية كالكرد والعرب وغيرهم. وعلى ذلك بقيت القومية والإسلام هما المكونان الرئيسيان للهوية القومية الإيرانية تاريخياً، لكن السيرورة التاريخية تكشف أن كُلاً من “القومية” (الفارسية)، والدين (الإسلام الشيعي) قد تم توظيفهما بما يكرس سلطة النظام الحاكم سواء خلال الحقبة الملكية أو بعد الثورة في 1979م، وحتى اليوم. وقد ترتب على ذلك تراكم أزمة هوياتية معقدة، ومتشابكة جعلت المجتمع الإيراني متربعاً على قمة “بركان هوياتي” تزيد درجة غليانه مع تسارع وتيرة التناقضات الصراعية التي انزلقت إليها السياسات الإيرانية على المستوى الداخلي بما يتمثل في تردي أوضاع الحريات العامة وقمع المكونات العرقية والقوى السياسية المعارضة، وعلى المستوى الخارجي نتيجة للنهج التصادمي الذي اتعبته إيران في سياساتها التي رفعت شعار “تصدير الثورة” بما جعلها بمثابة أحد مهددات الأمن الإقليمي من جانب دول الجوار وبخاصة على مستوى الخليج فضلاً عن اسرائيل. وقد امتزجت هذه المؤشرات الداخلية والخارجية لتشكل ملامح أزمة خانقة تهدد مستقبل الدولة والمجتمع في إيران، ويمكن الإشارة إلى مؤشرات هذه الأزمة على النحو التالي:
1- الارتباط بخريطةٍ قوميةٍ تتجَاوز حدود الدولة الإيرانية
نتيجة لتشكل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط بإرادة استعمارية في مطلع القرن العشرين، لم يحظى التماسك القومي بين الجماعات العرقية في المنطقة أي قدر من الاهتمام من جانب القوى التي قامت بصياغة خريطة المنطقة قبل قرنٍ من الزمان. وفي هذا الإطار، لم تكن إيران استثناءً في هذا الواقعٍ العرقي المُتَعَدِّد والمعقد، وقد تعزَّز تعقيد هذا الواقع بارتباط غالبية مكوناته بخرائطٍ قوميةٍ تتجاوز حدود الدولة الإيرانية. فالأذريون، وهم أكبر الجماعات العرقية في إيران، ورغم أنهم يتوحدون مع المذهب الرسمي للدولة (الشيعي الاثنى عشري) ولهم نفوذٌ واسعٌ في الحوزات الدينية والجيش والحرس الثوري، ويوجدون في كافةِ الوظائف العامة المهمة، رغم ذلك، إلا أن ثمة إحساسٌ قوميٌ قويٌ يبدو راسخاً بينهم تقوده الرغبة في الانفصال عن إيران والاتحاد مع “أذربيجان الأم” وذلك في إطار ما يُعرَف بـ “أذربيجان الكبرى”. وكانت جمهورية أذربيجان قد نشرت في عام 2002 خريطة أذربيجان الكبرى والتي ضَمَّت جمهورية أذربيجان والمحافظات الأذرية في إيران ومناطق أخرى شمالي إيران (جنوب بحر قزوين)، وقد احتجَّت طهران على ذلك رسمياً في حينها عن طريق سفيرها في “باكو” عاصمة أذربيجان. كما تأسَّسَت في عام 1995 “حركة الصحوة الوطنية لأذربيجان الجنوبية” بغرض ما تُسميه “التحرر من الشوفينية الفارسية”، والاستقلال عن سيطرة الحكومة المركزية في طهران، لذلك لطالما واجهت هذه الحركة معارضةً قوية من السلطات الإيرانية وملاحقة لمسؤوليها.
أما الكرد، وهم ثالث أكبر القوميات في إيران بعد الفارسية والأذرية، فيرتبطون بإطارٍ أكبر من كرد الشرق الأوسط تحت لواء “كردستان الكبرى” والتي تنقسم بين كلٍ من سوريا (غرب كردستان) والعراق (جنوب كردستان) وإيران (شرق كردستان) وتركيا (شمال كردستان). كما تتداخل عشائر الكرد الإيرانيين مع عشائر الكرد العراقيين (مثل عشيرة البشدرين وعشائر الجاف، وبلباس، وغيرها). وقد شهدت إيران محاولة تأسيس “جمهورية مهاباد” كـ “كيان كردي” في أقصى شمال غرب إيران، إلا أنها لم تدم أكثر من 11 شهراً نتيجة لضربات الجيش الإيراني المدعومة من القوى الغربية وبخاصة بريطانيا. وفي 2004 قامت “جبهة كرد المتحدة” في إيران بمظاهرات تأييد لحصول كرد العراق على حقوقهم. بجانب ذلك، يرتبط “حزب الحياة الحرة” الكردستاني في إيران بالإطار الفكري لـ “منظومة المجتمع الكردستاني، التي تقوم على أساس أفكار زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، المعنية بسُبل الحل الديمقراطي لإدارة أزمات التنوع العرقي وأزمة الاندماج الوطني في دول المنطقة، وتتعدد التنظيمات ذات الصلة بهذه المنظومة في كل من إيران (حزب الحياة الحرة الكردستاني)، وسوريا (حزب الاتحاد الديمقراطي)، والعراق (حركة حرية المجتمع) وغيرها.
كذلك يرتبط البلوش بتجمعٍ قبليٍ يمتد بين الحدود الإيرانية والباكستانية والأفغانية. ففي فترة السبعينات نشأت حركةٌ تطالب بـ “بلوشستان الكبرى” مما دفع الدل الثلاث للتعاون في إخماد ثورة اندلعت في باكستان عام 1972. أما العرب، فنتيجة للأهمية الاستراتيجية للمناطق التي يتركزون فيها (عربستان- الأحواز)، فإنهم يسعون لتشكيل جِسْرٍ يربط إيران بالعالم العربي، ونتيجة لأهميته الاقتصادية والجغرافية، فقد تحول هذا الإقليم إلى ورقة ضغطٍ على الحكومة في طهران بما انعكس على قيام الأخيرة بالكثير من الممارسات القمعية ضد العرب.
2- تاريخ ثوري ومطالب انفصالية
نتيجةً للممارساتِ القمعيةِ التي دَأَبَت عليها السُلطات الحاكمةُ في إيران، لم يُمَثِّلَ خيارُ الوحدةِ والانضواءِ في إطارِ الدولةِ الإيرانيةِ الأُم الخيارَ الأمْثَل بالنسبةِ لغالبيةِ المكوناتِ العرقيةِ في إيران. وقد اِنْعَكَسَ ذلك على الكثيرِ من الثوراتِ والانتفاضات التي قام بها أبناءُ هذه القوميات. ففي عام 1945 قام الأذريون بتشكيل ما عُرِفَ بـ “حكومةِ أذربيجان” بزعامة جعفر بيشوري. وفي الفترة 1925م – 1925م قام كرد إيران بثورةٍ مسلحةٍ بقيادة اسماعيل أغا “سمكو آغا”، وطالب باستقلال كردستان. وفي 1945 أيضاً، تأسَّسَ أقدم حزب كردي في إيران، وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني_ إيران على يد “قاضي محمد” في مدينة مهاباد، حيث طالب بالديمقراطية والفيدرالية في إيران. وفي عام 1946 أعلن قاضي محمد عن قيام جمهورية كوردستان في مهاباد على أساسِ الحُكْمِ الذاتي ضِمْن الدولةِ الإيرانية، واعتبار اللُّغة الكردية لغةَ التعليم ولغةً رسميةً في البلاد، والاستفادة من الرسوم والضرائب التي تجمعها السُّلْطَةُ المركزيةُ من كردستان إيران، لكن القوات الإيرانية تمَكَّنت من القضاء عليها بعد 11 شهراً، وتم إعدام قاضي محمد ورفاقه في مارس 1947. وقد تعدَّدَت موجات التظاهر بالمدن الكُردية (في أعوام 1999، 2005، 2010، 2018، 2022).
كما شهد إقليمُ “عربستان” العديد من الثورات والانتفاضات بدايةً من الانتفاضة التي تزعمها الشيخ عبد الله بن الشيخ خزعل في 22 يوليو1925، وثورة الحويزة (1928)، وانتفاضة حيدر بن طلال (1930)، وثورة بني طرف (1936)، وثورة عشيرة كعب الدبيس (1940)، وانتفاضة جاسب بن الشيخ خزعل (1943)، ومعركة الشيخ عبد الله بن الشيخ خَزْعَل (1944)، وثورة بني طرف (1945)، وثورة الشيخ مذخور الكعبي (1946)، وثورة عشير النصار (1946)، وانتفاضة الشيخ يونس العاصي (1949)، ثم تَشَكَّلت جبهةُ تحرير عربستان في 1956، حيث تَبَنَّت العمل المسلح وطالبت برفع الظلم عنهم من قبل نظام الشاه وتحرير أقاليمهم من سيطرة السلطة المركزية. لكن أشهر هذه الانتفاضات التي وقعت في 15 أبريل2005 حيث شاركت فيها كافة القوى العربية في الإقليم، وقد طالبت جميعها بالحكم الذاتي لـ “عربستان”.
3- الارتباط بأحزاب سياسية وتنظيمات مسلحة
نتيجةً للتاريخ الطويل من العلاقات المُضْطربةِ بين النُظم الحاكمة في إيران والمكونات العرقية التي كانت تطالب بحقوقها، أو بالحفاظ على هوياتها الثقافية، لجأت هذه المكونات إلى تأسيس أحزابٍ سياسيةٍ تتبنى مطالب وقضاياها هوياتية أو تنظيمات مسلحة لمواجهة السلطات المركزية. ففي عام 2002 تأسَّسَت جماعة “جند الله” على يد شخصٍ يدعى عبد المالك ريجي، ضد السلطات المركزية، وكان من بينها محاولة اغتيال الرئيس الإيراني في عام 2005، كما وقعت اشتباكات مسلحة بين الحرس الثوري والجماعة في عام 2006، وبعد إعدام زعيم حركة جند الله شنقاً، في 20 يونيو 2010، قام رفاقه بتأسيس حركة “جيش العدل المسلحة”، وقد رفع مؤسسوها راية “الدفاع عن أهل السنة” و”إضعاف الآلية العسكرية الإيرانية في بلوشستان” و”إرجاع حقوق البلوش المسلوبة من ملالي طهران”، بحسب أدبيات هذه الحركة. وقد قامت بالعديد من العمليات المسلحة فاختطفو 5 جنود حرس حدود إيرانيين 9 فبراير2013، وأسقطوا طائرة هيلكوبتر تابعة لحرس الحدود في 26 نوفمبر 2013، وقتلوا 20 جندي في 25 أكتوبر 2013 وغيرها من العمليات. كما تأسَّسَت حركة “جيش النصر البلوشي” في عام 2014، وقام بمواجهات عسكرية ضد السلطات الحكومية. كما أسَّسِ البلوش أحزاباً سياسية مثل “حزب الشعب البلوشي”، و”الحركة الوطنية لبلوشستان إيران”، و”الجبهة المتحدة لبلوشستان”.
أما على الجانب الكردي، فقد تأسَّسَت تنظيمات سياسية من الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكذلك منظمة “كادحي الشعب الكردي” ذات التوجهات اليسارية وقومية بقيادة عبد الله مهتدي، وحزب الحياة الحرة الكردستاني(بيجاك) وهناك أيضا جبهة الكرد المتحدة (جبهة متحد كرد) في كردستان إيران التي تناضل من أجل حقوق الكرد بإيران وقد تأسَّسَت في عهد الرئيس الأسبق أحمدي نجاد.
سياسات الاندماج الوطني في إيران
تبنَّت إيران عدداً من الملامح المميزة التي عكسها النظام التعليمي في البلاد والذي ارتبط بإعادة هيكلة الهوية الاجتماعية الثقافية والدينية للدولة، وتم بناء الهوية الثقافية الإيرانية على أساس أربع عوامل رئيسة، على النحو التالي: 1) إرث الدولة قبل الإسلام، أي منذ عصر الأخمينيين حتى هزيمة آخر سلالة فارسية حاكمة “الساسانيين” عبر غزو الجيوش العربية بمنتصف القرن السابع.
2) الإسلام، أو أكثر تحديداً الشيعة، حيث أصبح مذهباً لغالبية السكان.
3) خلق روابط قوية متداخلة “المصير والقدر الواحد”، تم بثة بين الشعب الذي سكن نفس الأرض التي تحمل نفس الاسم وواجه نفس الأعداء وكافحوا نفس الحكام الطغاة واشتركوا في مصير تاريخي واحد.
4) اللغة الفارسية: حيث أصبحت اللغة الأم للأغلبية العظمى من السكان ولغة الدراسة واللغة الرسمية.
وفي هذا الإطار، أدت السياسةُ التي انتهجتها الدولةُ الإيرانيةُ، سواءً خلال عَهْدِ الدولةِ الصفويةِ (1501 – 1736) أو حقبةِ الدولةِ البهلويةِ (1925 – 1979)، إلى صَهرِ القوميات الإيرانية في بوتقةِ القوميةِ الفارسية؛ ففي إطار مساعيه لتوحيد إيران والسيطرة عليها، حاول الشاه “رضا بهلوي” (1919م- 1980م) ان يختزل عدداً كبيراً من السكان بتنوعاتهم العديدة في نطاقٍ ثقافيٍ ضيقٍ من خلال المؤسسةِ العسكريةِ والجهازِ البيروقراطي ومؤسسة النظام الملكي، وذلك من خلال منهجٍ فوقيٍ (سلطوي) لبناء القومية بما يتعارض مع التصورات التحتية للهوية. ولم يتغير ذلك، مع الثورةِ الإيرانيةِ في 1979، والتي أطاحت بنظامِ حُكْمِ الشاه، فقد حافظ النظامُ الثوري، على تكريسِ وضعيةِ التَشَيُّعِ كركنٍ رئيسٍ لهويةِ الدولة، مما أسْفَرَ عن وقوع الكثير من المصادمات العنيفةِ بين السلطات الإيرانية والأقليات المختلفة التي طالبت بإعادة النظر في الهوية ِالإيرانية. غير أن الشكلَ العامَ لواقعِ التنوع العرقي وإدارته في إيران قد تَمَيَّزَ بوجود فجوةٍ بين النصوص الدستورية وممارسات الدولة المُنَاقضة لهذه النصوص، فضلاً عن وجود مدركاتٍ عنصريةٍ تجاه مكونات هذا التنوع من جانب النخب الفارسية، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:
1- الفجوة بين التشريعات والممارسات
تمَيَّزَت إدارةُ التنوعِ العرقي في إيران بوجودِ فجوةٍ واضحةٍ بين النصوص التشريعيةِ والممارسات تجاه المكوناتِ العرقيةِ ورغبَتِها في الحفاظِ على هوياتها الثقافية في إطارِ دولةٍ مركزية. فَرُغم أن المادةَ (15) تَنُصُّ على “أن اللغةَ والكتابةَ الرسميةَ والمشتركةَ هي اللغةُ الفارسيةُ لشعبِ إيران، فيجب أن تكون الوثائق والمراسلات والنصوص الرسمية والكتب الدراسية بهذه اللغة والكتابة، ولكن يَجِب استعمالُ اللغات الأخرى المحلية والقومية في مجالِ الصحافةِ والإعلام وتدريس أدابها في المدارس إلى جنب اللغة الفارسية”، كما تَنُصُّ المادةُ (16) على “إن اللغةَ العربيةَ بما أنها لغة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، وإن الأدب الفارسي مُمْتَزِجَ بها بشكلٍ كامل، لذا يجب أن تُدَرَّس هذه اللُّغَة بعد المرحلةِ الابتدائيةِ حتى نهايةَ المرحلةِ الثانويةِ في جميع الصفوف والاختصاصات الدراسية”، وكما تَنُصُّ المادةُ (19) “يتَمَتَّع جميعُ أفراد الشعبِ الإيراني من أيةِ قوميةٍ أو قبيلةٍ كانوا بالمساواةِ في الحقوق، ولا يُعتَبر اللَّون أو العُنصر أو اللغة أو ما شابه ذلك سَبَباً للتفاضل”. رُغْمَ ذلك، إلا أن واقع الممارسة يكشف عن خلاف ما نَصَّت عليه المواد الدستورية السابقة، سواءً بعد الثورةِ الإيرانيةِ في عام 1979، أو قبلها، فَكَمَا حَظَرَ الشاه رضا بهلوي الكتابةَ باللغةِ غير الفارسية في دواوين الحكومة ومدارسها، قامتُ السلطات الإيرانية بعد الثورة، وبخلاف النصوص الدستورية السابقة بمواصلة نفس النهجِ الإقصائي، حيث رفضت الأحزاب الكُردية في الدستور الإيراني، رُغم فرض القومية الفارسية دستورياً، كما يَمْنَع النظامُ الإيراني مشاركةَ الكرد في الحياةِ السياسيةِ بشكلٍ مُسْتَقل، حتى وإن لم تطالب بإقامة نظام فيدرالي مثل حزب الكوملة والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، كما يُمنَع الكرد من تسجيل مواليدهم بأسماءٍ كردية. بجانب ذلك، يُحظر استخدام اللغات غير الفارسية، بما فيها الكُردية، والأذرية والعربية وغيرها. ففي اكتوبر 2022، وعلى خلفية احتجاجات الأكراد ضد السلطات الحكومية وقمع الأخيرة لهم في مدينة سنندج، أرسلت الأمم المتحدة بعثةً لِتَقَصِّي الحقائق حول استخدام قوات الأمن للقوة المفرطة ضد المتظاهرين، وقد خلص تقرير البعثة الأممية إلى وجود العديد من الانتهاكات التي مارستها القوات الحكومية بما يتجاوز القوانين الدولية لحقوق الإنسان. والحال نفسه بالنسبةِ للبلوش الذين يواجهون قدراً من القَمْعِ بِحَقِ ممارسة طقوسِهِم وتقاليدهم الثقافية، وذلك رغم كُثْرَتِهم العددية (نحو 30% من السكان)، ووجود الكثير من موظفي الدولة من بينهم، حيث ترفض السلطات الإيرانية تعليم اللُّغَةِ البلوشية في المدارس. وفي إقليم الأحواز تتعدد انتهاكات السلطات الإيرانية بحق العرب والتي أبرزها مصادرة الأراضي، واستقدام الكثير من عناصر الميليشيات الموالية لإيران في العراق لقمع انتفاضات العرب المتكررة في المنطقة ذات الأهمية الاقتصادية الأكبر في إيران (وإما بحكم الموقع الاستراتيجي، أو وجود البترول والغاز الطبيعي، والموارد الطبيعية). كما تُشِير العديدُ من المصادر أن الحكومةَ الإيرانيةَ تَنْتَهِجُ سياسةَ تغيير البنيةِ الديمغرافية (العربية) في الإقليم بهدف تقليص نسبة العرب من 70% إلى 30%. ورداً على ذلك، انتفض عرب الأحواز، في 15 أبريل 2005، ضد ما عُرِفَ بـ “وثيقة أبطحي”، معاون الرئيس الأسبق محمد خاتمي، التي كانت تهدف لإحداث تغيير في النسيج السكاني للعرب في الأحواز.
2 – المُدركات العنصرية لدى النُخب الحاكمة
تنطلق مُدركات النخبةُ الفارسية في إيران من نظريةِ “التَعَصُّبِ القومي والثقافي الفارسي”، أو ما يُعرَف بـ “نظرية العرق الآري”، والتي تقوم على اعتبار أن الأراضي الإيرانية من إبداعات الآريين دون سواهم، بالإضافة إلى التأكيد على وحدة الدم والعرق. وعلى هذا الأساس، قابلت النُخَب الإيرانية أية مطالب بالحقوق الثقافية بالقمع واسع النطاق، سواء ضد عرب الأحواز، أو التركمان والأذريين في مناطق تركزهم، أو الكرد في غرب إيران، وقد تعزَّزَت تلك الرؤى بفتوى أصدرها الخميني بإجازة ذلك القمع باعتباره “جهادا” من جانب الدولة الإيرانية. فالأكراد على سبيل المثال، وفقاً لفتوى الخميني، يعتبرون “كفاراً”.
وقد ترتب على ذلك تصدي القوات الإيرانية المُسَلَّحة لأيةِ مطالبٍ ثقافيةٍ للكرد، وقمع كافةِ الانتفاضات التي قاموا بها خلال الفترة (1979 – 1988)، كما نَفَّذَت عناصر الاستخبارات الإيرانية عددً من عمليات الاغتيال بحقِّ قادة كرد، مثل عبد الرحمن قاسملو، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في يوليو 1989، ثم اغتيال خلفه محمد صادق شرف كندي في برلين عام 1991. وفي سبتمبر 2018، شَنَّ الحرس الثوري الإيراني هجوماً صاروخيا عبر الحدود على الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في مدينة “كويه”، وفي 10 أكتوبر 2022، أطلقت قوات الأمن النار على منازل في مدينة سنندج الكردية، وفي 28 سبتمبر2022 قام الحرس الثوري بقصف صاروخي واستخدم طائرات مسيرة لأهداف عسكرية في المنطقة الكردية شمال العراق، مما أسفر عن 14 قتبلا وإصابة 58 مصاباً. وفي الأحواز، وصف الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني، في مايو 1985، قبائل الأحواز بأنها مجاميع من (الغَجَر)، وقد استُخْدِمَت مِثْل هذه العِبَارات من مسؤولين إيرانيين بحق الأذريين والبلوش والكرد وغيرهم. ورُغم قيام الرئيس حسن روحاني بتعيين مساعدٍ له لشؤون “القوميات والأقليات”، هو وزير الاستخبارات السابق على يونسي، إلا أن يونسي نفسه لا يعترف بالتنوع القومي، بل تُنْسَب له مواقف مناهضة لأبناء القوميات غير الفارسية، كما ينسب له تصريحا صحافيا في 21 أبريل2018م انه يعارض تشكيل أحزاب في الأقاليم غير الفارسية معتبراً أن ذلك “ليس في مصلحة النظام”.
آفاق المستقبل
لا تنفصل آفاق المستقبل عن السياق الإقليمي المحيط بإيران، والذي تشغل فيه موقعاً مركزياً، لاسيما وأن منطقة الشرق الأوسط يمر حالياً مرحلة مفصلية من تاريخها أُطلِقَت شرارتُها في 7 أكتوبر 2023، عندما قامت “حركة حماس” في قطاع غزة (فلسطين) بمهاجمة إسرائيل واندلاع حربٍ تعد هذه الأخطر في تاريخ الصراع العريب الإسرائيلي منذ نشأة إسرائيل في عام 1948، ورغم حرص غالبية القوى الدولية الداعمة لإسرائيل على حصر القتال بين الإسرائيليين والفلسطينين، إلا أن مسار الأحداث في الشرق الأوسط يؤكد وجود إيران في قلب الصراع الدائر مع تشكل حشد دولي ضدها، إما لتحجيم النفوذ الإقليمي للنظام الإيراني، والذي يتعارض مع استقرار المنطقة، وفقاً لمدركات الدول الخليجية، أو التصدي لطموحات إيران النووية التي تُشَكِّل تهديداً مباشراً وفقاً للمدركات الإسرائيلية. وعلى هذا، تقوم القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة بحشدٍ دولي ضد الإيران والعمل على كسرِ شوكةِ قوى إقليمية تابعة لإيران في العراق واليمن وسوريا ولبنان، فيما يعرف بـ ” وكلاء إيران” Iran’s Proxies .
وفي آتون هذا الصراع، ينشط هؤلاء الوكلاء ضد المصالح الأمريكية وإسرائيل بشكلٍ مباشر وغير مباشر. ففي البحر الأحمر تنشط جماعة “الحوثيين” اليمنية في اعتراض سفن الشحن الدولية بما يهدد حركة التجارة الدولية في منطقة مفصلية للاقتصاد العالمي، حيث يوجد بها رابع أكبر الممرات الدولية، وهي منطقة باب المندب التي يمر منها نحو 12% من التجارة العالمية. وفي المقابل تعمل الولايات المتحدة على تشكيل تحالف عسكري لتأمين المنطقة في مواجهة “الحوثيين”. وفي العراق تتعرض القواعد الأمريكية لهجمات الجماعات المسلحة التابعة لإيران بأدوات مختلفة من الصواريخ الموجهة والطائرات المسيرة التي تكررت عشرات المرَّاتمنذ انطلاق الحرب في غزة في 7 أكتوبر2023م. وفي لبنان يتسع نطاق المواجهة بين إسرائيل وحزب بالله بما يضاعف احتمالات التصعيد الإقليمية ويزيد التهديدات التي تواجهها إيران بحكم ارتباطها بما يطلق عليه الخطاب السياسي الإيراني بـ “محور المقاومة”.
إن هذا السياق الإقليمي المتأزم، والتصعيد المتنامي بين إيران والقوى الغربية، وفي مقدمتها إسرائيل، وبالتزامن مع المؤشرات التي سبقت الإشارة إليها، بل ويمتزج معها، يُنذر بانتقال مستوى التهديد الذي يواجهه المجتمع والدولة في إيران إلى ذروته لاسيما مع اتساع نطاق الاستهدافات التي عبرت عنها سلسلة الاغتيالات لشخصيات محورية بالنسبة للنظام الإيراني مثل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وأحد أهم القادة العسكريين الإيرانيين، الذي تم اغتياله في 3 يناير 2020 في مطار بغداد الدولي، والعالم النووي الإيراني محسن فخري زاده الذي تم اغتياله في 27 نوفمبر2020، وكذلك بعض التفجيرات التي يتسع نطاقها في إيران والتي كان آخرها في مدينة كرمان الجنوبية خلال الاستعداد لإحياء ذكرى اغتيال قاسم سليماني في 3 يناير 2024، وغيرها من الأحداث المماثلة، التي تنطوي في مجملها على رسائل تهديد وجودي بالنسبة للنظام الإيراني.
أخيراً، وفي آتون هذا السياق الصراعي المتأزم، تنتقل إيران بسرعة نحو مجهول تعززه مطرقة الضغوط الدولية خارجياً، وسِنْدان الأزمات الداخلية المتزايدة، والتي يُسَرِّعُ وتيرتها الحراك السياسي والاجتماعي الراهن، لاسيما تلك التي تقوم بها الأشكال غير التقليدية للحراك التي تتصدرها النساء الإيرانيات كحلقةٍ أخيرةٍ في مسار التحولات المجتمعية التي انطلقت في القرن الثامن عشر، كما كشفت السطور السابقة. إن ذلك يعكس هشاشة البيئة الداخلية للنظام السياسي بما يقودنا إلى نتيجةٍ مفادُها إن تراكم الممارسات القسرية التي اتبعتها النظم الحاكمة في إيران، سواء خلال الحقبة الملكية أو بعد ثورة 1979م، تجاه المكونات القومية غير الفارسية، وبالتزامن مع مساعي القوى الدولية، والتحولات العميقة التي شهدها المجتمع الإيراني تأثراً بسياق العولمة، وكذلك الحساسية الجيوستراتيجية والأهمية الاقتصادية لإيران، قد أسهم كل ذلك مع تشكيل أزمةٍ مُرَكَّبةٍ تزداد قابليتُها للاشتعال مع الوقت، ليبقى المجتمع الإيراني، وبفضل كافة العوامل والمتغيرات السابقة فوق بركان هوياتي ذات امتدادات وتداعيات إقليمية عميقة.