أزمة الهوية والاندماج الوطني في إيران (1-2)

د. طه علي أحمد

مقدمة

يعيش المجتمع الأيراني، خلال العقود الأخيرة، على واقع تغييرات اجتماعيةٍ وسياسيةٍ تراكميةٍ ومتلاحقةٍ. وحفَّزَت هذه الحركية بدورها أشكالاً متنوعة من ردود الفعل والتعديلات التي شملت طائفةً واسعةً من الحركات الاجتماعية التي انكبَّت على تسريع وتيرة تغير الواقع الاجتماعي في البلاد. وارتبط ذلك بالعديد من الاضطرابات المتتابعة التي شهدها المجتمع الإيراني التي ارتبطت بكل من النمو السكاني والتغيرات الديمغرافية والتحولات نحو الحداثة الرأسمالية والصناعة وانتشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهو ما يترك آثاراً عميقةً على بنيةِ المجتمع والدولة في إيران. غير أنه منذ أن تأسَّسَت الدولةُ الصفوية واستقلت عن الخلافة العباسية على يد اسماعيل الصفوي في مطلع القرن الـ16 (1501)، اعتمدت السلطةُ الحاكمةُ المذهب الشيعي كمذهبٍ رسميٍ لإيران وفَرَضَه على كافة المكونات العرقية للمجتمع. وأثَّرت الدولة الصفوية التي بلغت من القوة قدراً كبيراً على مُحيطها الإقليمي الذي طال كُلاًّ من العراق وتركيا وأفغانستان وتركيا، بل انعكس موقعها الجغرافي على تفاعلات السياسة العالمية في المراحل التالية إما بحكم وضعها الجيوسياسي، أو على خلفية السلوك السياسي للدولة المتأثر بالأبعاد العقيدية، أو على خلفية الموارد الاقتصادي التي تم اكتشافها في مراحل لاحقة. وامتزجت هذه العوامل الثلاثة لتمنح إيران مكاناً واهتماماً متميزاً في استراتيجيات القوى العالمية. وبطبيعة الحال، تفاعل ذلك، تأثيراً وتأثراً، مع التحولات التي تطرأ على البنية السوسيولوجية للمجتمع الإيراني بحكم تطور الأفكار، الأمر الذي انعكس على أنماط الحكم، ومن ثم تعامل النخب الحاكمة مع التكوين القومي في إيران.
وبطبيعة الحال، مَثَّلت الهويةُ مُعضلةً شغلت مساحةً واسعة لتفاعلات السلطة مع هذه التحولات التي أسفرت عن أزمة «اندماج وطني» Social integration problem خانقةً يحيا عليها المجتمع الإيراني حتى اليوم. إن ذلك يدفعنا للقول بأن المجتمع الإيراني يتربَّع على قمة بركانٍ هوياتي تُضاعِف من شِدَّةِ غَليَانه العديد من العوامل التي يتناولها هذا المقال أملا في الوصول إلى رؤية أكثر وضوحا بشأن مستقبل الدولة الإيرانية في ظل تعقيدات أزمة الهوية المتجذرة بحكم ممارسات النخب الحاكمة التي تعاقبت على الإيرانيين عبر العصور المختلفة.
تنطلق هذه الدراسة من فرضية مفادُها إن التكوين القومي في إيران ينطوي على تعقيدات فرضتها التركيبة العرقية على المجتمع الإيراني على مر تاريخه، الأمر الذي امتزج مع ممارسات النخب الحاكمة، وتعزز بمساعي القوى الدولية الراغبة من الاستفادة مما تمتلكه إيران لمزايا اقتصادية بحكم الموارد التي تتمتع بها، أو جيوستراتيجية بحكم الموقع الجغرافي. ما سبق، أسهم بشكلٍ تراكمي في خلق أزمة مركبة تتمركز فيها مكانةُ الهويةٍ كوسيطٍ حاضر في كافة الصراعات السياسية والتحولات الاجتماعية التي شهدها المجتمع الإيراني.
ولذلك، تتبع الدراسة، من خلال سردٍ تاريخي، سيرورة تأثير التكوين القومي على شكل الدولة وممارساتها، وانعكاس ذلك على حالة الاندماج الوطني في المجتمع الإيراني، وتداعيات ذلك على مستقبل الدولة الإيرانية، لاسيما أن محيطها الإقليمي يشهد تحولات تتوسطها إيران كونها أضحت أخيراً هدفاً مركزياً في الأزمة الإقليمية المتفجرة في الشرق الأوسط.

التكوينُ القومي وتَشَكُّل الهوية الإيرانية

تَشَكَّلت البنية القومية للمجتمع الإيراني في مسارٍ تراكمي عبر محطات تاريخية ثلاث، تمثَّلت الأولى في وصول الآريين لإيران في منتصف الألفية الثانية بعد الميلاد، والثانية مع وصول العرب في أواخر القرن السادس الهجري. أما الثالثة، فكانت مع وصول الأتراك بداية القرن التاسع. غير أن هذه البنية تأثرت بالشكل الجغرافي لإيران التي تتكون من الناحية الجغرافية من «قسم المركز» Center الذي يتسم بالتجانس من ناحية القومية واللغة والمذهب، وهو مركز فارسي شيعي، و«قسم الأطراف» Peripheries وهو قسمٌ غير متجانس من الناحية القومية واللغوية والمذهبية. وتتشكَّل البنية القومية من مجموعتين أحدهما آرية وتشمل الأفغانيين، والفرس، والبلوش، والبختياريين، والأصفهانيين، والكرمانيين، والأيزيديين، والكيلانيين، والكرد، واللر، والمازندارين. والأخرى هي المجموعة غير الآرية وتشمل الترك، والفشقانيين، والتركمان، والمغول، والأرمن، والعرب، واليهود، والآشوريين. بجانب ذلك، هناك مجموعة ثالثة تضم جماعات ثقافية قومية وقبائل وعشائر وطوائف وأعراق متنوعة ومتباينة، لكنها متقاربة في كونها ضئيلة الحجم.
وانعكس ذلك التباين على شكل الخريطة العرقية شديدةُ التنوع لبنية التكوين القومي للمجتمع الإيراني ذات الفُسَيفساء الهوياتي الذي يتصدره المكون الفارسي الأكبر والمُسَيطر Dominant (يمثل نحو 51% من الإيرانيين)، ثم يليه الأذريون الذين يسكنون منطقة أذربيجان ويتكلمون لغة مُشتقة من اللغة التركية. ويتمتع الآذريون بثقلٍ اجتماعيٍ كبيرٍ (تتراوح نسبتهم بين 18-24% من الإيرانيين). وهناك الكرد؛ ثالث أكبر مكون عرقي بالبلاد، حيث تتراوح نسبتهم بين 7 – 9%، ويتركز وجودُهم في شمال غرب إيران حيث جبال زاغروس التي تمتد على الحدود مع تركيا والعراق، وأهم المدن التي يتركز فيها وجودهم هي (مهاباد، سقز، سنه، كرمانشاه). وفي الأجزاء الجنوبية الغربية وعلى السواحل المواجهةَ لسواحل الخليج، يوجد العرب (تقدر مساحة المنطقة التي يتواجدون فيها بنحو 160 ألف كيلو متر مربع). وتُقَدَّرُ نِسْبَتُهم بنحو 4% من إجمال السكان. وهناك البلوش، الذين يعيشون بالمناطق المحاذية للحدود الإيرانية الباكستانية الأفغانية، (تقدر مساحتها بنحو 70 ألف ميل مربع)، وتقدر نسبتهم بما بين 2- 3% من إجمالي السكان. وهناك أيضا التركمان (نسبتهم 1.6-2%)، والبختيار (نحو 2%)، واللُّر (نسبتهم 2-4%) والأرمن (نحو 0.6%).
أما على المستوى الديني، فلا يختلف الأمر كثيراً عن التكوين العرقي المتنوع؛ حيث ينقسم المجتمع إلى أغلبية ساحقة للمسلمين الذين يزيد عددهم على 98% من المجتمع (يمثل الشيعة منهم حوالي 89% والسنة 9%)، وأقليات صغيرة تقل في مجملها عن 2%، وهي المسيحيون (0.7%) واليهود (0.3%) والزرادشتيون (0.1%)، وآخرون (0.9%).
بجانب ذلك، ألقت الطبيعة الجغرافية بظلالها على السمات العامة للتكوينات العرقية لاسيما تلك التي سكنت المناطق الحدودية بما أسهم في حماية الأقليات حينما وفرت ما يشبه «الملاجئ الأمنية» لقاطنيها بشكلٍ ساعد الفئات المجتمعية في المناطق المحمية بالجبال والغابات والصحاري على الحفاظ على ثقافاتها ولغاتها وأنماطها المعيشية. فالمناطق الحدودية – مثلاً – ساعدت المسيحيين وشكَّلَت لهم ملاذا آمنا. كما استفاد من ذلك الكرد في كردستان والبلوش فيما يعرف بـ«بلوشستان». بل ظهرت اتحادات قبلية، كما في حالة الكرد، أو على الحدود الغربية والشمال الغربي. والحال نفسه بالنسبة لجماعة الزرادشتيين التي وفرت لها البيئة الصحراوية النائية ميدانا للعيش في قلب إيران بمدينتي يزد وكرمان.
وفي المحصلة، انعكس ذلك على الوضع الجيوستراتيجي لإيران، حيث عملت كمعبرٍ للمواصلات البرية بين الشرق الأقصى في آسيا والبحر المتوسط وأوروبا، وهو ما ساعد حكام إيران في بسط نفوذهم في العصور التاريخية على شرق الهضبة الإيرانية وغربها فأسَّسوا أول امبراطورية كبيرة في العالم. وظلت طرق التجارة الرئيسية بين الشرق الأقصى والغرب تمر عبر شمال إيران لمئات السنين. وحينما أصبح للطرق البحرية نفس أهمية الطرق البرية، وجدت إلى جانبها طرق برية تصل بين الثغور الواقعة على الخليج والمراكز التجارية الرئيسية. لكن شق قناة السويس في مصر أثر على طرق التجارة البرية عبر إيران، الأمر الذي انعكس على وضعها الجيوستراتيجية.

مسيرة التغيير والإصلاح الفكري في المجتمع الإيراني

رغم حالة الركود الفكري التي عاشها المجتمع الإيراني، خاصة خلال حقبة الحكم القاجاري، إلا أن إيران لم تكن بمعزلٍ عن التطورات التي شهدها العالم، والتي كان أبرزها الانفتاح الذي طرأ على القارة الأوروبية وتأثيراته التي حلَّت على منطقة الشرق الأوسط، إما عن طريق الغزوات ومساعي السيطرة الاستعمارية، أو عن طريق الاحتكاك الحضاري الناجم عن الوجود الاستعماري، أو البعثات التعليمية التي انطلقت من الوحدات الإقليمية الرئيسية في الشرق الأوسط مثل مصر (في عهد محمد علي) وإيران التي دخلت القرن التاسع عشر وهي مُحَمَّلة بالصراعات الطبقية الناجمة عن التناقضات بين الفئات الاجتماعية العديدة بين الإيرانيين سواء على المستوى العشائري أو من المجتمعات المدينية والقروية أو حتى بين أصحاب الحرف والمهن المختلة. وكان استغلال الإقطاعيين للفلاحين أبرز المشكلات الخانقة للحياة الاجتماعية في الريف الإيراني الذي كان يشغله نحو ثلثي الإيرانيين نتيجة الهزائم المتلاحقة التي مُني بها الجيش الإيراني في القرن التاسع عشر. وكان الميدان العسكري أول الميادين التي طالها التغيير والتكيف مع النماذج الأوروبية. وارتبط ذلك باسم عباس ميرزا، حاكم أذربيجان والأبن الأكبر لفتح على شاه وولي عهده الذي عاصر الهزائم الإيرانية وأدرك ضرورة تحديث المجمع الإيراني على النمط الأوروبي. ومن هنا، جاءت البعثات العسكرية لفرنسا وبريطانيا إلى إيران لمساعدتها في تدريب وإعادة قواتها على غرار التجربة التي قام بها السلطان سليم الثالث (1789 – 1807). لكن هذا الإصلاح لم يكن بمعزلٍ عن إصلاحات مماثلة في المجالات الإدارية والمالية.
تزامنت هذه الحركة الإصلاحية مع حركة البعثات التي انطلقت نحو أوروبا، خاصة مع تولي ميرزا محمد تقي خان الملقب «أمير كبير» منصب الصدارة (رئيس الوزراء) في إيران (1848 – 1851) وتبنيه فكرةَ الإصلاح الشامل في البلاد. فبدأ الطلبة الإيرانيون يتوافدون إلى أوروبا وبدأت التجارة تنهض، مع اتساع نطاق العلاقات الدبلوماسية لإيران مع الغرب. ونتج عن ذلك انتعاش حركة الترجمة والانفتاح على الكتب الأوروبية في العلوم والفلسفة والسياسة، ما انعكس على الحياة الفكرية التي تطورت مع ظهور الصحف مثل صحيفة الوقائع الإيرانية «روز نامة إيران» الإسبوعية عام 1837 على يد مرزا صالح شيرازي أحد المبعوثين للدراسة في لندن الذين بعثهم عباس ميرزا. وأنشئت أول دار للطباعة باللغة الفارسية في تبريز عام 1814، وأعقبها دار أخرى في طهران عام 1824. كما تم وضع حجر الأساس لمدرسة دار الفنون في 30 ديسمبر/كانون الأول 1851، ثم دارت عجلة النهضة الفكرية والحركة الإصلالاحية في إيران خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأسفر هذا التطور عن ظهور جيل متعلم Educated يدرك وجود أزمة تعيشها إيران بدرجة أعمق ممن سبقوه. وهكذا، أصبح العقل الإيراني الرسمي يشعر بضرورة التغيير والإصلاح. وظهر في هذه المرحلة اتجاهان إصلاحيان: الأول يؤكد على ضرورة الجمع بين القيم المحلية السائدة وبعض القيم الحديثة، بينما يتمسك الاتجاه الآخر بضرورة جعل إيران مستقلة عن القوى الأوروبية، وهو الاتجاه الذي دعمه رجال الدين.
في مطلع القرن العشرين، تأثرت الأوضاع السياسية والاقتصادية في إيران، لاسيما مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث عمل البريطانيون على زَجِّ الإيرانيين في ديناميات الحرب. وفي هذا السياق، تأثر الاقتصاد الإيراني؛ حيث ساد الكساد ميادين الصناعة والزراعة والتصدير حتى انهدمت وتدمرت مشاريع الري لتتحول بعض القرى إلى مجار مهجورة، فهجر الفلاحون أراضيهم ونزحوا إلى العاصمة هرباً من الحروب الأهلية وارتفاع الضرائب. وشهدت إيران مجاعة فعلية عام 1917 عمَّت الحضر والريف، وتأثَّرت كافة أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ما انعكس على الحياة السياسية حيث انهارت السلطة المركزية في طهران مع عصيان أبناء العشائر المختلفة ضد السلطة القاجارية، والحال نفسه بالنسبة للمؤسسة العسكرية التي كان أفرادها يعانون من عدم الحصول على رواتبهم بانتظام، وسادت ظاهرة الهروب من التجنيد.
في هذه المرحلة، بدأ النفط يتدفق في إيران بكثرة، خاصة في منطقة باكو القريبة من روسيا. حيث تزايد انتاج مصفاة عبادان إبان الحرب العالمية الأولى ليصل إلى 900 ألف طن في 1918 بعد أن كان 270 ألف طن عام 1914، وهو ما مثّل مغريات ومطامع لبريطانيا التي حالت دون وصول صوت الوفد الإيراني لمؤتمر الصلح الذي عقد في باريس بشأن تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى. بل إن بريطانيا نجحت في إقناع المشاركين في المؤتمر بمسؤوليتها وحدها تجاه إيران. كما وقعت بريطانيا معاهدة مع إيران أطلقت عليها «المعاهدة الكريمة»، كان أبرز بنودها تنظيم مالية الجيش والجمارك وتحديث الجيش الإيراني وحق البريطانيين في إنشاء السكك الحديدية والطرق والمدن الإيرانية، فضلا عن بنود أخرى روج البريطانيون لها على أنها سخية. لكن على المستوى الشعبي، قوبلت هذه المعاهدة بغضبٍ عارمٍ بين الإيرانيين الذين رأوها بمثابة «انتداب بريطاني جديد» بدلاً من الاستقلال الذي توقعه الإيرانيون، فاتسع نطاق الغضب بين الإيرانيين. وعبَّر عن ذلك أحد المثقفين ورجال الدين، وهو رياض طباطبائي رئيس تحرير صحيفة «الرعد»، حيث كتب إن «الدول الأربع الكبرى قررت في باريس أن فارس يجب أن تكون تحت الحماية، وأنها جزء من نصيب بريطانيا».
وفي مقابل التذمر الشعبي، أعلنت الحكومة البريطانية الأحكام العرفية وشهدت البلاد اضطرابا عم كافة المجالات فشلت خلالها الحكومة في إقناع الشعب بالمعاهدة البريطانية، الأمر الذي انتهي إلى انقلاب قاده رضا خان في 1920. ورغم عائدات القيمة الإجمالية للدخل النفطي الإيراني في الفترة من 1953 – 1978 والذي بلغ نحو 54 مليار دولار، إلا أنه لم يتم توظيف هذه العائدات بشكل يفيد عملية التنمية في البلاد، وهو ما انعكس على انقلاب عام 1953 حيث أطيح بالزعيم الشعبي مصدق وتم القضاء على الحياة الحزبية ونقابات العمال والاتحادات المهنية. وكان الحال نفسه بالنسبة إلى تراجع الطبقة الوسطى وتردي الأوضاع الاجتماعية في البلاد، حيث ظلت الأمية عند مستوى 68% من البالغين، بل ارتفع عددهم من 13 إلى 15 مليون نسمة. وكان غالبية الإيرانيين البالغ عددهم 73 مليون نسمة خلال الفترة 1977– 1978، وبنسبة 55%، ممن هم أقل من سن العشرين. ولم تكن قوة العمل بينهم تمثل سوى تسعة ملايين. وبلغ عدد من يعيشون في مناطق حضرية أربعة ملايين مع وجود 1.2 مليون عامل أجنبي، وغير ذلك من المؤشرات الدالة على تردي الأوضاع الاجتماعية، بما يعني أن الشاه فشل في تحقيق ثورة بيضاء تستند إلى احتياطي النفط. وبرزت أصداء ذلك في مقال كتبه أحد قادة المعارضة في المنفى عام 1976، وهو أبو الحسن بني صدر الذي أصبح أول رئيس للجمهورية الإيرانية بعد الثورة في 1979، وكان عنوانه «خمسون عاما من الخيانة». وفيه، اتهم بني صدر أسرة آل بهلوي بخمسين جريمة في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها، وكان من بينها انقلاب 1921 وانقلاب 1953 وسحق القوانين وجعل الثورة الدستورية محلا للسخرية وتشكيل تحالف عسكري مع الغرب واغتيال المعارضين.
وبالفعل، انتصرت قوى الثورة التي دأب قادتها على وصفها بـ«الإسلامية»، حيث التف حولها تيارٌ كبيرٌ من القوى الجماهيرية وعددٌ من العلماء الذي تتلمذوا على يد الخميني أو قبلو بقيادته في الداخل. إلا أن ذلك لا يعني أن إيران كانت تخلو من القوى السياسية المنظمة التي بدا أن دورها هامشي في ظل الحراك الشعبي. وفي مقدمة هذه القوى المعارضة «مجاهدي خلق» و«فدائيو خلق» الذين سرعان ما تحولوا إلى النهج المسلح في معارضة النظام الإيراني الذي حقق صموداً نسبياً على المستوى الداخلي خلال سنوات الحرب مع العراق 1980–1988. لكن ما إن انتهت الحرب، حتى بدأت التصدعات تظهر في بنية النظام الحاكم. وكانت أولى مظاهر ذلك الإطاحة بآية الله منتظري، خليفة الخميني في منصب الولي الفقيه. ثم توالت التصدعات بفعل الجدل بشأن العديد من المسائل مثل الحريات الشخصية والحريات العامة وحرية الصحافة وحرية المعارضة السياسية وسلطة الدولة ودورها في مجالات الاقتصاد والتنمية ومجالات الاجتماعية كالتعليم والاعلام والفنون وقضايا السياسة الخارجية. لكن أهم هذه القضايا، تمثلت في أولويات الهوية العامة للمجتمع الإيرانية ما بين الديني والقومي وفهم مبدأ ولاية الفقيه الذي مثَّل حجر الزاوية في الفكر الاستراتيجي للنظام السياسي في إيران منذ ثورة 1979.
وانعكس ذلك بشكلٍ مباشر على علاقات إيران الخارجية ودورها الإقليمي. كما ظهرت على إثر ذلك تكتُّلات سياسية تجلَّت أبرز مظاهرها خلال الحملة الانتخابية في مايو/أيار 1997، حيث قاد محمد خاتمي تياراً عرف بـ«التيار الإصلاحي» الذي يرى أن سلطة الفقيه مستمدة من الشعب، في مواجهة «تيار محافظ» يرى أنها مستمدة من الدين. وضم التيار الإصلاحي جماعات وقوى مختلفة مثل «جماعة العلماء المناضلين» وحزب «مجاهدو الثورة الاسلامية» وحركة «حرية إيران» و«الحركة الوطنية الليبرالية» ومجموعات شبابية وطلابية وحزب العدالة والتنمية برئاسة حسن روحاني (الرئيس السابق لإيران). وفي المقابل، تشكَّل التيار المحافظ من طيفٍ واسع من كبار ضباط الحرس الثوري السابقيين وعدد من المثقفين الإيرانيين مثل حداد عادل وعلي لاريجاني. واستمد التيار المحافظ قوته من المؤسسات الكبرى في الجمهورية مثل مكتب المرشد الأعلى ومجلس صيانة الدستور وقيادة الحرس الثوري، في حين يستند التيار الآخر إلى رئيس الجمهورية والجماهير المؤيدة له ومجلس الشورى المنتخب والصحافة الليبرالية.
رغم هذا الانقسام، إلا أن النظام السياسي الإيراني، بمختلف المكونات التي دارت في فَلَكه حتى وإن كانت في موقع المعارضة «الشرعية» من داخله، هيمَن عليه الطابع الأيديولوجي المتشدد، وهو ما ارتبط بالصراع الذي عاشته إيران مع القوى الغربية منذ اندلاع الثورة في 1979. وأسفر ذلك عن لجوء الكثير من أبناء الطبقة الوسطى المثقفة إلى الدول الغربية. واستقبلتهم الجامعات الغربية لتشكل ملامح تيار جديد من الإيرانيين من ذوي الثقافة والعلوم المتقدمة والمنخرطين مع العالم الخارجي عبر الفضاء المعولم Globalized. ومن بين ما أسفر عنه ذلك، إطلاق موسوعة الكترونية خاصة بإيران اسمها Encyclopedia Iranica عام 1985. وساهم فيها أكثر من 1200 باحث ومُحَرِّر إيراني من جامعات الولايات المتحدة وبريطانيا. وكانت هذه الموسوعة بمثابة سجل حضاري للثقافة الإيرانية الممتحدة عبر التاريخ، ولعبت دوراً في دفع مسألة الهوية لصدارة الاهتمام العلمي والفكري كواحدةٍ من أهم الأزمات التي تواجه المجتمع في إيران.
غير أن هذا الانفتاح على العالم الخارجي الذي وفره احتكاك الأجيال الأخيرة من الإيرانيين مع العالم الخارجي، حمل العديد من الجوانب التي كشفت عن أزمة هوية متراكمة ومتجذرة في المجتمع الإيراني، وهو ما سوف يتناوله الجزء الثاني من هذه الدراسة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد