موفق نيربية
خلال كلمة له في مهرجان” القدس نداء وفداء” في غزة يوم ٢٧ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٤، قال محمود الزهار، أحد السبعة الذين أصدروا بيان تأسيس حركة المقاومة الإسلامية” حماس”: “إن حركة حماس تؤمن أن تحرير فلسطين حقيقة قرآنية ستتحقق قريباً، وأن تحرير القدس بات أقرب مما يتصور الاحتلال والمتواطئون معه”.
من على كرسيّه المتحرك، بشلله الرباعي، وشخصيّته الخاصة واللافتةة، كان الشيخ أحمد ياسين يمثّل أصول وتاريخ حماس. قيل إنه كان يردّد: “نحن واليهود في صراع على هذا الجيل، فإما أن يأخذه اليهود منا، أو ننقذه من أيدي اليهود”. وعلى هذا يمكن الإشارة إلى أن موضوع هذه المقالة هو تلك المقولة التي تجعل الصراع دينيّاً في جوهره، ما بين المسلمين واليهود، ما بين” الإسلاموية” و”اليهودويّة”.
بعد أن تعرف الشيخ الياسين على الإخوان المسلمين أثناء وجوده في جامعة الأزهر، عاد إلى فلسطين وأسّس الجمعية الخيرية الإسلامية الدينية الاجتماعية، على دأب الإخوان واجتهادهم ونهجهم. ورأت السلطات الإسرائيلية في ذلك التوجّه- المسالم- توازناً نافعاً مع فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية فشجّعتها، ويقال إنها دعمتها ماديّاً … هذا في علم الحرب قد يكون من باب الخدعة والمكر، ولا أتحدّث عن ذلك من باب الإدانة والتخوين، بل كإشارة إلى ظاهرة موضوعية لافتة. تناقض ذلك مباشرة مع أولئك” الإخوان” السابقين الذين توجّهوا منذ الخمسينات نحو الكفاح التحرّري وشكّلوا فتح لاحقاً، ثمّ” حرّروا” منظمة التحرير” الفلسطينية.
كان الشيخ معجباً بالطبع بحسن البنّا وسيد قطب، بالجهاد عموماً، فكيف بذلك النوع منه المُوجّه نحو الاحتلال. وابتدأ بالتعامل السرّي مع السلاح والذخيرة في منتصف الثمانينات، ليشكّل مع زملائه حماس في ١٩٨٧، بعد أن أخذ ذلك الميل يغلي إثر الثورة الإيرانية، في العام ١٩٧٩. وبعد أن كان متحفّظاً تجاهها قليلاً يقال إنه لطالما كان يردّد:” يا أولاد، هؤلاء شيعة” ومن ثمّ:” نحن والشيعة تقاطع مصالح لا تحالف”… زار طهران، وأعلن تقديره لدعمها للشعب الفلسطيني، وابتدأ مسار معقد ومتشابك يربط ما بين الطرفين.
لم يموّه ميثاق تأسيس حماس علاقته بالإخوان المسلمين الصادر في آب ١٩٨٨، أو ينفيها؛ بل على العكس تماماً:
ورد في المادة الثانية أن” حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين”، وفي السادسة أنها” تعمل على رفع راية الله على كل شبر من فلسطين”، أما الأهداف في المادة التاسعة:” فهي منازلة الباطل وقهره ودحره، ليسود الحق، وتعود الأوطان وينطلق من فوق مساجدها الأذان معلناً قيام دولة الإسلام، ليعود الناس والأشياء كل إلى مكانه الصحيح”، وهي تعتقد ” أن أرض فلسطين أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة”، ورأت في المادة الثانية عشر أن” الوطنية من وجهة نظر حركة المقاومة الإسلامية جزء من العقيدة الدينية”، وفي المادة الثالثة عشرة- أن المبادرات، وما يسمى بالحلول السلمية والمؤتمرات الدولية لحل القضية الفلسطينية” تتعارض مع عقيدة حركة المقاومة الإسلامية”، وفي المادة الخامسة عشر كذلك أن” الجهاد فرض عين على كل مسلم”.
بعد تفجير مركز التجارة العالمية في نيويورك، قال أحمد ياسين إن الحركة غير مستعدة لفتح جبهات دولية” مهما عظم انتقادنا للموقف الأميركي غير العادل”. ثمّ صدر بيان في عام ٢٠١٧ في الدوحة حيث أقام زعيم الحركة لاحقاً خالد مشعل، وبعد اجتماع لمجلس الشورى، ورد فيه أن الحركة لا ترتبط بأيّ تنظيم آخر، مع” ارتباطها الفكري” بالإخوان المسلمين. قيل يومها إن الحركة” نأت بنفسها” عن الإخوان، بعد قيامها بثلاثين عاماً. المؤكّد هو أن ذلك” النأي” لم يكن كذلك الذي قام به مؤسّسو فتح بصمت.
الإخوان المسلمون” كونفدرالية آراء ومواقف واجتهادات ورؤى عملية، تراهم يوماً براغماتيين ومسالمين حتى النهاية مع ركون لإرث الهضيبي، ويوماً آخر جاهزين لاستعادة سيد قطب وإرثه وتجارب اللاحقين له حتى حقول الإرهاب. لكن أحداً في كلّ الأحوال لا يستطيع حذفهم بالطبع أو التعامي عن وجودهم ونفوذهم
تتناقض بالطبع والتتالي أية محاولة للتسوية والصلح في القضية الفلسطينية، على الأقل مع فكرة أن فلسطين” وقف إسلامي إلى يوم القيامة”. وحلّ الأمر ليس سهلاً بالطبع، إذا كانت قيادة عملية التفاوض سوف تكون لمن يؤمن بذلك الاجتهاد ويعتقد به، ويكون جاهزاً لأيّ خيار في سبيله. هنالك شيء إذن ما ينبغي الانكباب عليه لتفكيكه وحلحلة خيوطه.
في الجهة المقابلة أيضاً، قامت فكرة استيطان فلسطين على الدين اليهودي، على الأقلّ منذ قدّم اللورد بلفور لليهود” باسم حكومة صاحبة الجلالة” وبموافقة الولايات المتحدة، وعدَه في مذكّرة رسمية لكبير وجهاء اليهود في العالم روتشيلد، بدعم وتسهيل قيام” وطن قومي” لليهود في فلسطين، التي كانت تحت رعاية البريطانيين يومها. بذلك فتح وزير الخارجية الراحل ثغرة هامة لمقولة إن اليهودية” قومية” وليست مجرّد دين، على فرق مع أولئك” الصهاينة” القدماء قبل ذلك الذين يطمحون إلى مجاورة أرض الميعاد وحسب.
في السياق العملي، كان لحلّ النازية” النهائي” للمسألة اليهودية عن طريق المحرقة وسلاسل الموت دور رئيس في تحويل ذلك الوعد؛ الذي كان يمكن للبريطانيين أن يلتفّوا عليه بطرق أخرى لحلّ قضية ديونهم للرأسمالية المالية اليهودية؛ إلى حقيقة متسارعة أجمعت عليها القوى المنتصرة في الحرب رغم خلافاتها في غير ذلك.
ولأنّ قيام دولة إسرائيل اعتمد على جهود العلمانيين اليهود خصوصاً، فإن تلك المعضلة بقيت من دون مواجهة، وإسرائيل بقيت من دون دستور عملياً… حتى جاء عصر اليمين السياسي المتطرّف، وتنامى منذ بيغن إلى شارون فشامير وحتى نتنياهو، بل حتى بن غفير وسموتريش، حيث الاستغراق في المعضلة حتى غايتها المستحيلة. معركة السيطرة على السلطة، وتجاوز محاكمات الفساد، ولجم المحكمة العليا الإسرائيلية، ألجأت نتنياهو إلى ضمّ وزراء من القرون الوسطى إلى حكومته الأخيرة، التي تقود الحرب مع غزّة حالياً ورسمياً. انضمام بيني غانتس إلى الحكومة وإلى الخلية الأمنية حلٌّ مؤقّت لهذه المشكلة، لا يعني أن قوىً سياسية رئيسة وكبيرة في إسرائيل ليست واقعة تحت تأثير” القومية الدينية”، التي يمكن أن تنتج كارثة على المنطقة كلّها لو بقيت على حالها.
كانت الموافقة على مفهوم الوطن القومي اليهودي في فلسطين على النحو المنصوص عليه في وعد بلفور قد صدرت من قبل عصبة الأمم في 24 يوليو/تموز 1922وبعد مؤتمر سان ريمو للسلام؛ كما تم اعتماده بقرار مشترك من كونغرس الولايات المتحدة في 30 يونيو/حزيران 1922. في حين كان الانتداب على فلسطين” قد صدر بدوره عن عصبة الأمم.
لطالما كانت المعضلة تُحلّ قبل هذا” التعديل” عن طريق القول رسمياً إن إسرائيل دولة يهودية وديموقراطية معاً، بحيث تكون لليهود منزلة خاصة في تعريف الدولة من دون المساس- كثيراً- بالمكوّنات الأخرى. ولم يجرِ حسم تلك المسألة إلّا حين أصبح الوضع أكثر سوءاً وصعوبة، حين دفعت حكومة نتنياهو في منتصف ٢٠١٨ إلى الكنيست وصوت على أن”إسرائيل هي الوطن التاريخي للأمة اليهودية”، وأن” لليهود فقط في إسرائيل الحق في تقرير المصير”، وعلى أن”الغرض من هذا القانون هو حماية شخصية دولة الشعب اليهودي بحيث تصدر القوانين معبرة عن دولة ديمقراطية يهودية انطلاقا من مبادئ إعلان الاستقلال”. الأمر الذي ترجمه الآخرون، بما في ذلك القوى الليبرالية في إسرائيل نفسها، على أنه موت للديموقراطية في إسرائيل… بمعنى آخر: نهاية لأمل” الآخرين” بالعيش مع إسرائيل بأمان وطمأنينة، بطريقة ما من الطرق.
هنالك حالة كراهية ينبغي مواجهتها على الطرفين، لكن ذلك ليس سهلاً، وتزداد صعوبة الأمر يوماً بعد يوم. جاء زمن يتحدّث فيه قادة المستوطنين من المتطرّفين بشكلٍ مدمّر، حيث يصرّحون يومياً بتشريع القتل والمصادرة والطرد والتمييز الفادح، بل الإلغاء. ذخيرة ذلك الاتّجاه معقدة بمزيج متفجّر من المظلومية الجينية وبارانويا الاضطهاد، مع قومية دينية قادرة على الدفع إلى ارتكاب المجازر والعودة إليها كل فترة وفترة.
تلك القومية الدينية تفعل فعلها أيضاً في الطرف الآخر، طرفنا، وهي من ثمّ تهدّد بمفاقمة الوضع. لحماس والجهاد- والإخوان المسلمين من حيث توليد العنف وتوليد التنظيمات والتفريعات الإيديولوجية-، دور فيما يحدث لا يجوز إنكاره، بل يُستحسن الإقرار به من أجل مواجهة الجرائم الأكبر حجماً والأكثر حسماً بموازين القوى الراهنة، والتي لن تتغيّر ببساطة إلّا من خلال فتح الباب على المزيد من الخراب وانسداد الأفق.
فيما حدث ويستمرّ تجاوزات على الإنسان- المدني خصوصاً، في غلاف غزة ثمّ في غزّة- أفسح الباب لكلّ العالم” الآخر” لتكرار جملة” لإسرائيل الحق بالدفاع عن النفس”، حتى بعد سقوط آلاف الأطفال والنساء والشيوخ صرعى القصف المتواتر الأكثر عنفاً وشراسة حتى الآن.
إذا لم تكن الكوارث مدخلاً لإعادة النظر في كل شيء، فهي ستكون مقدمات لأخوات لهنّ قادمات بالمزيد من الويل… على الرغم من أن الوقت ربّما لا يسمح حتى بهذه الرفاهية، كما كان يفعل دائماً! القومية الدينية في أحد طرفي القضية نذير بتلك الكوارث الساحقة، فكيف إذا كان الطرفان كذلك؟!