عن الأصوليّات والقومية الدينية مع الهدنة الأولى في غزة – 1-

موفق نيربية

كان انتصار الإسلام السياسي الشيعي في أواخر السبعينات بزعامة الخميني حدثاً هائل التأثير في سياسات الشرق الأوسط وعلى سياسات شرق المتوسط وغرب الخليج خصوصاً، إذ أحيا لدى السلطات السائدة خوفاً عارماً من ذلك التأثير السحري التاريخي للدين وإمكانيته الكامنة على تحفيز التغيير، وأحيا لدى الشعوب الخاضعة للاستبداد أملاً مقابلاً وخطِراً بإمكانية الحصول على تلك الأداة الخارقة القوة.
حتى القوى اليسارية، التي تتوجّس عادة من ذلك التأثير، لم تنج من ذلك السحر، واعتبرت نفسها أيضاً قادرة على النفاد من المعاني السلبية لتلك الظاهرة إلى حيث تتحوّل إلى قدرة تغييرية تعد بالحفاظ على الخط التقدميّ الحداثوي. كانت القوى اليسارية السورية- وكنت منها مباشرة- اكتشفت سحراً آخر هو قوة الديموقراطية ومركزية مكانها في سياق الحداثة، فتخلّق نوع من اليسار الإسلامي، مع تشكّل نوع من القومية الدينية، أخذ ينهش في الجسم السياسي القومي/العربي الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية وبلغ مداه في الخمسينات.
كان النوع الأول اليساري استمدّ- مخطئاً- تلك الشجاعة من تجربة أميركا اللاتينية ولاهوت الثورة، في حين انكمشت تقدّمية التيار القومي بالتدريج عائدة إلى الحضن القديم، حيث كان الإسلام بطناً إيديولوجياً للعروبة. قابل تلك التجربة تحوّل في الحركات الإسلامية، بتأثّير العوامل ذاتها، لينخرط قبل وبعد الثورة الخمينية في النضال القومي الذي كان هاجراً له بالأساس. شكّلت ظاهرة أحمد ياسين والانخراط في السياسة مباشرة حتى العنف واستخدام السلاح منذ أواخر الثمانينات ظاهرة غالبة خلال عقد أو عقدين من الزمن، مروراً بخبرة الانتفاضة الفلسطينية الأولى ذات الحجارة، ولكن خصوصاً مع الانتفاضة الثانية التي ظهر فيها لون الدم ملابساً لصوت الاحتجاج السلمي.
وفي سوريا، كان للاستبداد المشوب بالطائفية دور هام في اللجوء إلى سلاح التحريض السهل- أو المُستسهِل- بالدين لمحاولة الفوز على النظام. تفجّر ذلك بحركات من الجناح المتطرُف في الإخوان المسلمين ابتدأت بالتدريب على السلاح وعلى العمليات الإرهابية المتفرقة، إيقاظاً للمارد النائم عميقاً، الذي تسامح مع مظاهر طائفية النظام، رغم إدراكه لخطرها عليه. كان النظام سعيداً بالميول الصوفية، ومتوجساً من الميول السلفية والجهادية.
ولم يكن ذلك حكراً على الأنظمة من النوع المذكور، بل هو معمّم على جميع الدول القومية الحديثة تقريباً، حيث اللجوء إلى دعم الدين للسلطة وإجراءاتها. كلّها كانت ولا زالت ترحّب بدعم الكنيسة في الغرب، ما دامت لا تمارس السياسة المعارضة بالطبع، حين تكون الحرية جزءاً مكوِّنا لها، كما هي جزء مكوِّن من السياسة المعارضة.
مال الناصريون العرب تدريجياً إلى التأسلم، بعد أن كانوا سابقاً نافرين من هذا الاتّجاه لا يتبنّون الدين إلّا بحدود قومية مساعدة فحسب. بات قادة القومية الجدد يستخدمون الآليات واللغة الإسلاموية ذاتها. مالت الحركة الإسلاموية- الإخوان المسلمون- إلى التخفّف قليلاً من أمميّتها التي ورثتها منذ يوم التأسيس على الجامعة الإسلامية في مواجهة القومية التي ابتدأت في تركيا وتابعت إلى المجتمعات والنخب العربية وقامت بإلباس إيديولوجيّتها رداء عروبياً قومياً أيضاً.
تلك ظاهرة معروفة في علم الاجتماع والفكر السياسي الحديثين: وجود قومية دينية، ودين قومي. هما كرتان تتداولهما يدا كلّ نظام مستبدّ بحرفة ومهارة، وحسب اللزوم.
يحاول هذا المقال إبراز خطر تحويل الصراع السياسي إلى صراع ديني وتأثيره السلبي على مسار القضية المعنية ومآلاتها. وحرّك تلك الفكرة بقوة ما يظهر في هذه الأيام من حرب بين إسرائيل، التي تصاعدت يهوديّتها في الحكومة الراهنة إلى حدود صارخة، وحركة حماس الفلسطينية التي رفعت لواء الجهاد الإسلاموي أيضاً إلى حدود السماء، من تحت الأرض في أنفاقها.
قال أحد وزراء حكومة نتنياهو في سياق الحرب على غزة مؤخّراً انتقاماً لعملية طوفان الأقصى إن إلقاء قنبلة نووية هو حلّ ممكن، بحيث يُمحى قطاع غزة عن وجه الأرض. واضطرّ عتاة التطرّف الإسرائيليون إلى استنكار ذلك التصريح ومنعه عن حضور اجتماعات الحكومة.
يذكّر ذلك الأمر بأهمية المسار النووي لإيران مع الغرب، ليقول أحد الكتاب- سام هاريس- مثلاً أن الغرب يواجه أناساً «لديهم معتقدات لا يوجد لها مبرر عقلاني وبالتالي لا يمكن حتى مناقشتها، ومع ذلك فهي المعتقدات ذاتها التي تكمن وراء العديد من المطالب التي من المحتمل أن يطلبوها. هذه مشكلة، خاصة إذا حصل هؤلاء الأشخاص على أسلحة نووية. هناك احتمال ضئيل بخوض حرب باردة مع نظام إسلامي مسلح بأسلحة نووية بعيدة المدى.. في مثل هذه الحالة، قد يكون الشيء الوحيد الذي يحتمل أن يضمن بقاءنا هو الضربة النووية الأولى من جانبنا. وسيبدأ مسار لاحق يغرق العالم به في محرقة نووية غير معروفة الحدود».
في العالم الحديث، يشكّل مصطلح «المصالح القومية» أحد أكثر المفاهيم استخداماً لتبرير ما تريده الدولة القومية. ولطالما استُخدم بمبالغة للتعبير عن أكثر أشكال الشوفينية. وعلى الرغم من أنه من العدل تبيان أن الدول الأكثر ليبرالية وديموقراطية قد تستخدمه أيضاً، وبإفراط كما تفعل الولايات المتحدة، لتبرير سياساتها؛ فإن الاستخدام الآخر لهذا المفهوم يبقى لافتاً ومهماً لأنه يشكّل قيمة عليا للسلطة السائدة ذات القدرات القوية على لجم أي معارضة وحجبها وراء رداء من التزييف. في تركيا المعاصرة، يتجلّى استخدام المصالح القومية والأمنية منها على وجه الخصوص ليس لتبرير العنف وراء الحدود لتطهيرها من الأخطار على «السيادة الوطنية»، الجزء الأكثر حساسية في المصالح القومية، بل أيضاً لتعزيز التحالف ما بين القوميين والإسلاميين وتحصينه أمام العوامل «الدنيوية» و«العدمية» المقابلة.
فهل هنالك تصعيد مباشر لاحتمالات العنف وحجمه مع كلّ تصعيد لدرجة استخدام أطراف النزاعات للإيديولوجية الدينية؟ أم هي مجرّد لغة مختلفة للتعبير عن «القومية» في أقصى تعبيراتها، كما حدث في الحرب العالمية الأخيرة؟
ذهبت المصلحة القومية إلي النهايات حين أراد الأميركيون حسم تلك الحرب مرة وإلى الأبد بإلقاء قنبلتي هيروشيما وناغازاكي. وذهبت مثل ذلك في حشد مئات ألوف الجنود في فيتنام مع درجة من العنف بالغة الشراسة. كانت موسيقى فاغنر، ذات الوقع الديني، في منتهى الشراسة في تعبيرها عن موقف أصحاب الفيلم الشهير «أبوكاليبس» على سبيل التذكير.
لقد كانت السلطات القديمة كلّها تتلبّس الدين في سعيها للحفاظ على السلطة المطلقة، وكان ملوك الشرق بمثابة الآلهة أو تجسيدات لها قبل أن يكتفوا مع التطوّر بأن يكون ظلالها على الأرض الفانية. وتأسّست الإمبراطوريات السابقة على الدولة القومية مستندة إلى الدين، قبل أن تتفكّك، من دون أن تنسى دائماً تكريس سيادة السلطان على الكهنوت في المسيحية والإسلام وكلّ كيان سياسي من ذلك النوع. انطبق ذلك في العصور الوسطى وما بعدها على الإمبراطورية الرومانية المقدّسة وعلى الإمبراطورية العثمانية على سبيل المثال. وكان تفكّك تلك الإمبراطوريات إيذاناً ببدء عصر الحداثة.
أعطى ذلك التداخل قدرة للحاكم/السياسي على ممارسة العنف الذي قد يصل إلى الحدود المطلقة. وهو يعطي حالياً لحركة حماس «الإسلامية» وإسرائيل «اليهودية» طاقة على السير في طريق الخراب الكامل. كلاهما أيضاً لا يستثني عناصر علمانية في صراعه مع الآخر، حين ينضم بيني غانتس إلى حكومة بنيامين نتانياهو الأمنية المصغّرة مع نشوب الحرب بينما تندمج «الجبهات» الشعبية الفلسطينية بدورها، فإن كلا الطرفين يقول إنه لا خيار غير هذا، كما قال أيضاً كاتب إسرائيلي عن أنه لا خيار إلّا استخدام السلاح النووي.
هنالك خيار آخر، مرهق وربما طويل المدى، لكنه الوحيد غالباً: الامتناع عن ارجاع السلطة والدولة والسياسة إلى الإيديولوجيا الدينية، من دون المساس مباشرة بالدين ذاته وبحريته وحقوقه الكاملة التي تؤلّف الذاتي مع الكوني. بخلاف ذلك، لن تتوقّف المجازر وستزداد غرقاً في المجهول.
ولكن، رغم ذلك، لا يمكن لأيّ خطأ أو مبادرة فلسطينية تتوجّه إلى المدنيين بالقتل، مهما كانت درجة استنكارها والنفور منها، أن تبرّر خطأ آخر إسرائيلياً أكبر إنسانياً بمئات المرات.
يحدث هذا حالياً مع غزة، وغير معروف زمان توقّفه.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد