محمد سيد رصاص
أظهرت الولايات المتحدة في حرب إسرائيل-حماس في قطاع غزة القدرة على الحصر الجغرافي للحرب في القطاع، من خلال استخدام دبلوماسية حاملات الطائرات والغواصات النووية التي قالت واشنطن بأنها جاءت لمنع انتشار الحرب، وليس للحرب. من خلال هذا، نجحت واشنطن في منع نشوب حرب إقليمية في المنطقة عبر إقناع ايران بالتكلفة المرتفعة لتطبيق شعار «وحدة الساحات».
أيضاً، يبدو أن واشنطن ترسم ملامح مابعد الحرب عبر ما قاله البيت الأبيض إن لا دور لحركة حماس في مستقبل قطاع غزة، ووحدة الضفة الغربية وقطاع غزة، وحل الدولتين. والأرجح أن ما تحدثت به رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فاندر لاين عن إدارة دولية انتقالية لقطاع غزة بعد الحرب جاء بالتنسيق مع واشنطن.
يمكن هنا المقارنة من حيث أن الأميركيين أظهروا نجاحاً في حرب شرق أوسطية فاق ما حصلوا عليه في الحرب في أوكرانيا ضد الروس. ففي تلك الحرب الأوكرانية، ما زالت الكفة راجحة لموسكو، رغم نجاح واشنطن عبر الدعم الكثيف لكييف في منع الروس من الحسم. فمجريات سبعة أسابيع من الحرب الغزاوية تعطي مؤشرات على أن تل أبيب، حليفة واشنطن، لن تربّع فشلها الذي واجهته في حروب ثلاثة سابقة خاضتها ضد حزب الله عام 2006 وضد حركة حماس في حربي 2008 و2014.
مع توسيع نطاق هذه المقارنة، يمكن تسجيل وقائع عديدة. ففي الحرب الأوكرانية، تمظهر حلف صيني-روسي-إيراني وظهرت كتلة هندية–برازيلية–جنوب افريقية حاولت تعويم دور دولها في العلاقات الدولية مستغلة حالة المجابهة بين معسكر حلف الناتو–اليابان-كوريا الجنوبية-استراليا وبين معسكر الصين-روسيا-إيران. كما أن دول مثل السعودية أتاحت لها الحرب الأوكرانية حرية الحركة ومجالات للمناورة مع واشنطن من خلال تقاربات سعودية–روسية في منظمة «أوبك بلس» فيما يخص أسعار النفط وتقاربات اقتصادية-سياسية مع الصين. أما في حرب غزة، وأمام الإظهار الكثيف للقوة الأميركية في البحر الأبيض المتوسط وفي البحر الأحمر، كان حضور الروس العسكري ضعيفاً. كما غاب حضورهم الديبلوماسي في عواصم المنطقة العديدة التي زارها المسؤولون الأميركيين بكثافة عالية منذ بدء الحرب في غزة، وإن كان يلاحظ بروز حلف صيني-روسي في مجلس الأمن الدولي فيما يخص حرب غزة حيث استخدمت لجهة خطابية ضد واشنطن تذكّر بأجواء الحرب الباردة.
يعطي هذا الأمر صورة عن توازنات جديدة في منطقة الشرق الأوسط تظهر عودة واشنطن بقوة للمنطقة بعد اثني عشر عاماً من قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما الانسحاب من الشرق الأوسط والانزياح والتركيز على الشرق الأقصى حيث بات الثقل الاقتصادي العالمي في منطقة المحيطين الهادىء-الهندي ولم يعد في المحيط الأطلسي كما كان منذ القرن السادس عشر.
على الأرجح أن حاجة أوروبا للنفط والغاز، بعد انفطامها منذ الحرب الأوكرانية عن الغاز والنفط الروسيين، هي وراء هذه العودة الأميركية القوية لمنطقة الشرق الأوسط التي هي البديل الوحيد الممكن للأوروبيين عن الروس، إضافة إلى تقديرات أميركية بأن نزعة أوباما الانسحابية من المنطقة أنتجت فراغاً في القوة قام بملئه الايرانيون والأتراك والروس في العديد من جغرافيات المنطقة، والأرجح أن الصينيون كانوا يفكرون بذلك. يمكن هنا لمشروع الممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي الذي وقّع عليه قبل أربعة أسابيع من الحرب الغزاوية أن يفسر هذه العودة الأميركية وهذه التقديرات الأميركية المستجدة، إضافة لكون هذا المشروع هو تعويقاً ومنافساً لمشروع الحزام والطريق الصيني المطروح منذ عام 2013 والذي هو بمثابة ممرات صينية نحو الشرق الأوسط وأوروبا. وهنا، لا يمكن تفسير ضربة 7 أكتوبر التي قامت بها حركة حماس من دون مشروع الممر الذي كان سيتضمن تطبيعاً سعودياً-إسرائيلياً وكان سيمر في منطقة غلاف غزة، حيث حصلت تلك الضربة التي أظهرت الهشاشة الأمنية لتلك المنطقة. ولا يعرف حتى الآن إن كان التركيز الاسرائيلي على الجزء الشمالي من قطاع غزة وتغيير معالمه ديموغرافياً له علاقة بالترتيبات المستقبلية لذلك الممر.
على الصعيد الإقليمي، أظهرت الحرب في غزة ضعف طهران أمام واشنطن ومحدودية القوة التركية وتبعية إسرائيل المتزايدة لواشنطن وفراغ القوة عند العرب. وكما أظهرت الحرب الأوكرانية لوحة دولية جديدة، فإن الحرب الغزاوية تعطي ملامح أولى عن بداية مد للقوة الأميركية في المنطقة كما جرى منذ عام 1974 لصالح واشنطن على حساب السوفييت، لكن هذه المرة على حساب الإيرانيين الذين ازداد نفوذهم من بوابة العراق منذ 2003، ومن ثم حصل المد الإقليمي الإيراني منذ 2007 في غزة وتثنى في لبنان عام 2008 وتثلث في العراق عام 2010 وتربّع في اليمن عام 2014. ولا يمكن لبداية المد الأميركي في المنطقة أن يكون من دون تبعات دولية على مجمل الخريطة العامة الشاملة للعلاقات الدولية على حساب الصينيين والروس.
كتكثيف: إذا كانت الحرب الأوكرانية مثًلت محاولة انقلابية روسية، بدعم صينيي-إيراني، على القطب الواحد الأميركي للعالم هزًت سلطته القائمة منذ عام 1989 بعد انتصار واشنطن على موسكو في الحرب الباردة، فإن الحرب الغزاوية بيّنت استعادة واشنطن لقوتها في منطقة حيوية من العالم، وهو ما ستكون له تبعات دولية في مناطق أخرى وسيعدل التوازنات التي أفرزتها الحرب الأوكرانية ويغِيرها. من جانب إقليمي، على الأرجح أن المد الاقليمي الإيراني دخل مرحلة الجزر كما بدأ مرحلة المد من غزة نفسها في 2007 مع سيطرة حركة حماس على القطاع. وبالتالي، سيكون هناك لوحة شرق أوسطية جديدة ستغير من خريطة الإقليم الجيوبوليتيكية. وعلى الأغلب، أن ذلك سينعكس على الأوضاع الداخلية في بلدان الإقليم وعلى علاقاتها البينية.