محمد سيد رصاص
كما تُوًلِد الغيوم متساقطات مثل المطر والثلج والبَرَد، فإن الحروب بمتساقطاتها النارية لها غيومها. كما أن تصادم الغيوم مع بعضها يولد الرعد (أو البرق) الذي غالباً مايعقبه فوراً تساقط الأمطار أو أحياناً لا يحصل هذا.
هنا، في كل الحروب لم تأت النيران أو الرعود من سماء صافية، بل كانت هناك غيوم اختلفت مدة تشكلها. ففي الحرب العالمية الثانية، كان الفاصل بين الغيمة الهتلرية وبدء الحرب ستة أعوام بينما كان الفاصل هو ثلاث وأربعون عاماً بين بدء الحرب العالمية الأولى وغيمتها الكبرى المتمثلة في ولادة عملاق أوروبي جديد هو ألمانيا الموحدة عام 1871. وكان رأي المستشار الألماني بسمارك (أقيل من منصبه عام 1890) بأن «أوروبا تحوي عملاقان: بحري هو بريطانيا وبري هو ألمانيا، ويجب أن يتساكنا»، وهو ما لم تلتزم به برلين بعده خاصة مع زيارة القيصر الألماني للدولة العثمانية عام 1898 وبدء مشروع خط حديد برلين–بغداد، وهو أمر قررت بعده لندن مواجهة الألمان متدرّعة بتقارب مع فرنسا وروسيا واتبعته بقرار قتل الرجل المريض العثماني الذي حمته بريطانيا طوال مئة عام مضت ضد نابليون بونابرت ومحمد علي باشا وأمام تمددات الروس الجنوبية العديدة.
هذه الحرب التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 يجب البحث في عملية تشكل غيومها. في هذا الإطار، يمكن خوض مغامرة فكرية بالافتراض أو المقاربة البحثية نحو اتجاه تلمس بدء تشكل غيوم هذه الحرب في يوم 9 أبريل/نيسان 2003 بسقوط بغداد بيد المحتل الأميركي وما تبعه هذا السقوط من بدء صعود القوة الإيرانية في الإقليم بحكم أن فراغ اليوم التالي لسقوط بغداد ملأته طهران بواسطة قوى عراقية محلية مواليه لها أضحت الحاكمة في العراق. هذه البوابة البغدادية جعلت إيران، بحكم قوتها الجديد، تتجه نحو استئناف تخصيب اليورانيوم في 2005 وما عناه ذلك من فك للشراكة مع واشنطن في العراق المحتل. وبالتالي، بدأ مواجهة شرق أوسطية أول فصولها حرب 2006 في لبنان عبر حزب الله. كان فشل إسرائيل إنهاء حزب الله في 2006 طريقاً لتمدد إيراني إقليمي في عموم المنطقة بداية من سيطرة حركة حماس على غزة في 2007 وتحول حزب الله إلى حاكم في لبنان من وراء الستار بعد عملية 7 مايو/أيار 2008 مروراً بمنع أياد علاوي من تسلم السلطة بعد انتخابات 2010 البرلمانية وفرض نوري المالكي رئيساً للوزراء من جديد، ونهاية بسيطرة الحوثيين على صنعاء في 2014.
عملياً، كان الاتفاق النووي الايراني عام2015 تكريساً أميركياً لتمددات طهران في الاقليم واعترافاً بهذا الواقع الإقليمي الجديد مقابل تفكيك برنامجها النووي الذي استأنفته عام 2005. هنا، في بعض الاضطرابات الداخلية التي جرت في الإقليم، مثل ما حصل في سوريا منذ عام 2011، صبّت قوى دولية وإقليمية، الزيت على النار لتحجيم إيران عبر قطع طريق طهران- بغداد- دمشق- بيروت- غزة من خلال إما محاولة إجبار السلطة في دمشق على فك التحالف مع طهران أو محاولة إسقاطها. كما أن حرباً، مثل الحرب في اليمن عام 2015، كانت موجهة ضد إيران التي سيطر حلفاؤها الحوثيون قبل ستة أشهر على صنعاء.
من جانب آخر، فكرت الإدارة الأميركية الجديدة مع دخول دونالد ترامب البيت الأبيض عام 2017 في تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي عبر صفقة القرن، وارتبط هذا التفكير بسحب توقيع واشنطن على الاتفاق النووي مع إيران والتقارب مع معارضي هذا الاتفاق، واتباع سياسة جديدة تميل نحو مواجهة واشنطن للإيرانيين. عملياً، أُريد من حركة التطبيع العربية مع إسرائيل عام 2020 تقوية حظوظ ترامب في انتخابات الرئاسة أمام جو بايدن، نائب الرئيس إبان عهد باراك أوباما، خاصةً أن بايدن أعلن لدى بدء ترشحه في ربيع 2020 عزمه العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني. ولو فاز ترامب، لكان طريق التطبيع السعودي- الإسرائيلي سالكاً نحو مسبين أولهما تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي والثاني تشكيل تحالف أميركي- إسرائيلي مع العرب المعادين لطهران.
جاء فوز بايدن على ترامب قلباً للطاولة على مشروع التطبيع، بينما كان المرحبون بفوزه، ولو بصمت، الزعيم الإيراني علي خامنئي وحزب الله وصولاً إلى الحوثيين. ولوحظ كم تسارع التقارب السعودي مع الصين وروسيا في الأعوام الثلاثة الأخيرة. كما أن مقاربات سعودية جديدة لملفات المنطقة، مثل الأزمة السورية، ظهرت في هذه الفترة، يضاف إليها بدء محادثات في بغداد منذ ربيع 2021 بين الرياض وطهران على المستوى الاستخباراتي لتطبيع العلاقات بالتزامن مع بدء استئناف مفاوضات إحياء الاتفاق النووي في فيينا بين واشنطن وطهران وصولاً إلى اتفاق مارس/آذار 2023 السعودي- الإيراني الموقع عليه في بكين، وكأن الرياض أرادت القول لواشنطن: إن كنتم تريدون الاتفاق مع الإيرانيين فنحن لنا اتفاقنا الخاص الموازي معهم أيضاً. كما أن اتفاق بكين أفزع واشنطن بسبب مكان التوقيع عليه في ظل تشكّل حلف صيني- روسي في الحرب الأوكرانية، إذ لم ترد واشنطن من الرياض أن تكون بوابة لبكين نحو الشرق الأوسط كما فعلت القاهرة تجاه موسكو في 1955. وبعد شهرين من اتفاق بكين، طار مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان إلى الرياض مسكوناً بالهاجس الصيني. وبعد تلك الزيارة، فتحت صفحة جديدة بين الرياض وواشنطن خطوطها العريضة عبر مفاعل نووي سعودي وفتح طريق صفقات السلاح الأميركي لها والممر الهندي- الشرق أوسطي- الأوروبي، والتطبيع السعودي- الإسرائيلي، ولوحظ بعد الزيارة، كيف تحول اتفاق بكين والمبادرة العربية تجاه الأزمة السورية إلى حبر على ورق، فيما وقع اتفاق الممر في 10 سبتمبر/أيلول الماضي بما يعنيه من تحويل مرفأ حيفا إلى مرفأ رئيسي في المنطقة، قبل أن يصرح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعد التوقيع بعشرة أيام في مقابلة مع محطة «فوكس نيوز»: «نقترب كل يوم أكثر فأكثر من التطبيع مع إسرائيل».
يمكن ليومي 10 سبتمبر/أيلول و20 سبتمبر/أيلول أن يفسرا مباشرةً ما حصل في 7 أكتوبر/تشرين الأول أو أنهما الكيلومتر الأخير أو ما قبل الأخير له، إذ أن ما قامت به حركة حماس في ذلك اليوم قطعٌ لطريق التطبيع السعودي- الإسرائيلي، وبالتالي قطع طريق الممر الذي كان سيمر بمنطقة غلاف غزة بوصفه الطريق البري الواصل بين إيلات وعسقلان نحو حيفا التي ستكون نهاية برية لسكك حديد واتوسترادات تمتد من مرفأ الفجيرة في الإمارات ثم السعودية والأردن، قبل الوصول إلى إسرائيل عبر إيلات والنقب.
هنا، يمكن أن تكون لحركة حماس مصلحة في ضرب التطبيع السعودي- الإسرائيلي الذي كان سيجعلها في وضعية شبيهة بوضعية ياسر عرفات بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس عام 1977وما أعقب ذلك من حرية حركة لإسرائيل قادت لاجتياح جنوب لبنان الأول عام 1978 ثم الثاني عام 1982 الذي أخرج عرفات من بيروت. ولكن، بالتأكيد هناك مصلحة إيرانية في ما فعلته الحركة، إذ أن التطبيع السعودي- الإسرائيلي كان سيقود إلى حلف أميركي- إسرائيلي- سعودي- مصري – أردني- إماراتي، سيضع طهران في موقع دفاعي على مستوى عموم الإقليم، بعد أن كانت في موقع الصعود منذ عام 2003 ثم التمدد منذ عام 2007. وربما كان هذا سيجعل إمكانية ضرب إيران ممكناً، وسيكون ضرب حلفائها في غزة وبيروت وصنعاء ممكناً أكثر. من جانب دولي، فإن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول شكّل ضربة كبرى لمشروع الممر الذي يعتبر منافساً لمشروع الحزام والطريق الصيني، وصرفاً للأنظار الأميركية عن الحرب في أوكرانيا لصالح روسيا. وربما سيؤدي المشهد الشرق أوسطي ما بعد هذا التاريخ إلى إتاحة الفرصة لفلاديمير بوتين لحسم تلك الحرب إن تعثرت واشنطن وتل أبيب في حرب إسرائيل- غزة.