الاحتلال التركي لسره كانيه/ رأس العين وتل أبيض: ترسيخ التطهير العرقي وتمرير واقع التتريك

المركز الكردي للدراسات

المقدمة

تصادف هذه الأيام الذكرى الرابعة على احتلال الدولة التركية كل من منطقتي رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي من خلال العملية العسكرية التي سميت «نبع السلام» في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2019 بمعية فصائل ضمن ما يسمى «الجيش الوطني»، وهو اطار أنشأته تركيا لتوحيد ميليشيات المعارضة المسلحة واستخدامها ضد الشعب الكردي والإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا. ويمثل احتلال كل من منطقتي رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي الاحتلال الثالث، سبقه احتلالان اثنان، كان الأول ضمن عملية عسكرية سميّت «درع الفرات»، قالت تركيا بأنها استهدفت من خلالها تنظيم داعش، وأسفرت عن احتلالها لمناطق جرابلس واعزاز والباب في ريف حلب الشمالي (أغسطس/آب 2016 ــ مارس/آذار 2017). بينما حدث الاحتلال الثاني تحت مسمى «غصن الزيتون» واستهدف مقاطعة عفرين (يناير/كانون الثاني ــ مارس/آذار 2018). وفرضت الدولة التركية أسوأ مظاهر الاحتلال الغاشم على منطقتي رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، مرتكبةً انتهاكاتٍ كبيرة وفظيعة بحق المواطنين الكرد، تراوحت بين جرائم القتل والخطف والتهجير، ومصادرة البيوت والممتلكات والأراضي، وإطلاق يد أفراد ميليشيات «الجيش الوطني» من دون محاسبة. كما فرضت سياسة تغيير ديمغرافي وتطهير عرقي واضحة المعالم أسفرت عن تهجير المكون الكردي بشكلٍ شبه كامل، وتوطين عائلات أفراد الميليشيات المسلحة الموالية لأنقرة، وتوزيع ممتلكات وأراضي المواطنين الكرد المهٌجرين عليهم.

في هذه الورقة سنركز على الحدث، متتبعين جذور السياسية العدائية التركية حيال الكرد وصيغة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا منذ انطلاق الاحتجاجات الشعبية وبدء الأزمة السورية عام 2011، ولجوء الدولة التركية إلى تنظيم صفوف الجماعات المسلحة وتأطيرها والاشراف عليها، بغية استخدامها أداة في احتلال وتخريب مناطق الإدارة الذاتية وتهجير الكرد منها وارتكاب جرائم التطهير العراقي وإحداث التغيير الديمغرافي الممنهج.

الموقف التركي من النظام السوري واحتجاجات 2011 

اتسم الموقف التركي من الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في سوريا ربيع عام 2011 ضد حكم الرئيس بشار الأسد بعدة سمات من أبرزها الرغبة في الاستفادة من الحراك الشعبي المطالب بالحريات ودولة القانون في توطيد المصالح التركية ومد النفوذ التركي وتعزيزه، مع ضمان بقاء نظام الأسد على سدة الحكم، لكن ضعيفاً وأكثر خضوعاً للأجندة التركية. وتفاجأت أنقرة، مثلها مثل أغلبية العواصم الأقليمية، بسلسلة الاحتجاجات الشعبية التي ضربت العديد من البلدان العربية نهاية عام 2010 وأسفرت عن تغيير نظامين سياسيين متجذرّين في كل من مصر وتونس، وعن حراك جماهيري في سوريا انتشر وتمّدد في أغلب مناطق البلاد. تحرّكت الدبلوماسية التركية لتطويق الاحتجاجات ضد نظام الأسد، منطلقةً من مخاوف جديّة في حدوث حالة من اللااستقرار والفوضى في البلد الجار، والذي كانت علاقة أنقرة انتعشت معه بعد توقيع الجانبين على اتفاقية أضنة الأمنية عام 1998، إلى الحد الذي تم فيه تأسيس مجلس استراتيجي سوري ـ تركي مشترك عام 2009، قال الجانبان إنه يسعى لتحقيق نوع من التكامل الاقتصادي بين البلدين، بينما كانت الحقيقة تقول إن هذا «التكامل الاقتصادي» لم يكن سوى هيمنة اقتصادية تركية، وأن ميزان التبادل التجاري كان، وبشكلٍ كامل، لصالح تركيا، وأن البضائع التركية أغرقت السوق السورية وقضت على الصناعات المحلية الناشئة.

في خضم مراقبتها لتطورات الأزمة السورية، وضعت تركيا أولويات كان أهمها، أولاً: ضمان عدم اعتراف النظام القائم في دمشق، خاصةً عندما بدأ يتحدث عن القيام ببعض الاصلاحات، بالهوية والحقوق الكردية بشكلٍ قانوني ودستوري، أو قبول أي صيغة من صيغ الإدارة الذاتية. ثانياً: الموافقة على إشراك جماعة الإخوان المسلمون في الحكم واللجوء إلى نوع من توزيع السلطة معها. وشهدت الفترة ما بين بداية ربيع 2011 ونهاية صيف 2011 زيارات عديدة لوزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو إلى دمشق في مسعى من الحكومة التركية لتطويق الأزمة ودفع النظام السوري إلى الموافقة على الشروط التركية في اشراك الجماعة في الحكم والإبقاء على النظام المركزي وضمان عدم إجراء أي تغييرٍ في بنية وشكل الدولة (تغيير بعض مواد الدستور) قد يفضي إلى الاعتراف بالهوية والحقوق الكردية. لكن تركيا لم تنجح في دفع النظام السوري إلى تقديم «تنازلات» لحلفائها في جماعة الإخوان المسلمون، وبدأت الاحتجاجات تخرج عن نطاق السيطرة وتتطور إلى مواجهاتٍ مسلحة، مع استخدام النظام السوري العنف المفرط حيال المتظاهرين وظهور انشقاقات عن الجيش النظامي والأجهزة الشرطية والأمنية. هنا، عمّدت الدولة التركية إلى قطع علاقاتها مع النظام، وأغلقت السفارة التركية في دمشق في ربيع 2012. ومنذ ذلك الحين، بدأت تركيا تتدخل بشكلٍ مباشر وسافر في الأزمة السورية عبر دعم الجماعات المسلحة وتنظيم مؤتمرات ولقاءات للمعارضة السياسية (بقيادة حلفائها الإسلاميين)، مركّزةً على هدفها الاستراتيجي الأكبر: منع حدوث أي تغيير يكون في صالح الشعب الكردي في سوريا.

تحولت الدولة التركية إلى طرفٍ رئيسي في الأزمة السورية، وباتت حكومة حزب العدالة والتنمية تستقطب قيادات الجماعات المسلحة وأطر المعارضة السياسية ضد نظام الأسد، في حين أشرفت استخباراتها على تنظيم وإدارة العمل المسلح الذي يهدف للاطاحة بنظام الأسد وبناء نظام موالي لتركيا تكون جماعة الإخوان المسلمون المسيطرة عليه. وفي هذه الفترة، كانت جماعة الإخوان المسلمين في مصر تصدّرت السلطة بفوزها في الانتخابات التشريعية والرئاسية. وبالموازاة مع الطموحات التركية في إسقاط نظام الأسد عبر تعزيز وتفعيل العمل المسلح المعارض، كانت أنقرة تعد الخطط والمشاريع لإقامة «منطقة آمنة/ عازلة» في شمال ـ شرق سوريا لتقيم فيها مخيمات لمئات الالآف من اللاجئين السوريين الفارين من المواجهات في مناطق الداخل، وتحول دون وصولهم إلى الأراضي التركية. ولكن هذا المشروع كان يهدف، في الحقيقة، لفصل المناطق الكردية عن بعضها البعض وتوطين السوريين من أبناء الداخل فيها بعد تهجير السكان الأصليين من كرد وأبناء بقية المكونات الدينية الصغيرة (إيزيديين، أرمن، سريان). وكانت ملامح مشروع الاحتلال التركي تتشكل يوماً بعد يوم. لقد اعتبرت تركيا أي صيغة من صيغ الادارة الذاتية في مناطق شمال شرق سوريا، من تلك التي ستمنح الكرد حقوقاً هوياتية وثقافية، قضية «تهديد أمن قومي» بالنسبة إليها، وانطلقت على كل الصعد وفي كل المحافل الدولية من هذا الأساس، راسمةً الخطط والاستراتيجيات التي تصب في تخريب صيغة الإدارة الذاتية ودعم كل خصومها من المجموعات المسلحة، بما فيها الجهادية، والإشراف الاستخباراتي عليها من حيث التمويل والتسليح، وفتح معبر «ترانزيت جوي» و«ممرات برية» لاستقطاب الجهاديين الدوليين وتدريبهم وإرسالهم مع شحنات الأسلحة إلى مناطق شمال شرق سوريا.

تركيا ومشروع الإدارة الذاتية في روج آفا/شمال شرق سوريا

مع انتشار المواجهات بين المجموعات المسلحة وقوات الجيش النظامي، اضطر النظام السوري إلى التفرغ لمواجهة الجماعات المسلحة التي باتت تسيطر على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، وهو ما منح الفرصة لأهالي مناطق شمال شرق سوريا لملئ الفراغ عبر بناء إدارة ذاتية مجتمعية. في 19 يوليو/تموز 2012، نظّم الأهالي في مناطق شمال شرق سوريا عصياناً مدنياً وزحفوا إلى مقار الأمن والاستخبارات والشرطة التابعة للنظام السوري، مسيطرين عليها بشكل كامل. ونظّم حزب الاتحاد الديمقراطي (تأسس عام 2003) صفوف الأهالي وأشرف عليهم أثناء عملية السيطرة على مظاهر النظام (مقار أمنية ومؤسسات خدمية ومنشآت اقتصادية)، وقام بضبط حالات العصيان المدني واقتحام مقار النظام، فحاّل دون وقوع مواجهات وصدامات كانت ستتسبب في سفك دماء عناصر وموظفين في الجهاز الأمني والإداري للدولة. ولمتابعة شؤون الأهالي وتأمين متطلبات الحياة وسبل العيش وضمان الأمن والأمان، ظهرت نواة مشروع الإدارة الذاتية، وبدأت الاتصالات بين المكونات الكردية والعربية والسريانية وغيرها لإيجاد صيغة إدارية تضمن التشارك في بناء اطار مجتمعي أهلي قائم على التعاون في الإدارة والبناء والدفاع. ومن هنا، «أعلنت شعوب المنطقة عن تنظيم صفوفها ضمن الكانتونات (المقاطعات) لتشكّل الإدارة الذاتية الديمقراطية في مقاطعة الجزيرة بتاريخ 21 يناير/كانون الثاني 2014، وفي مقاطعة كوباني بتاريخ 27 يناير/كانون الثاني 2014، وفي مقاطعة عفرين بتاريخ 29 يناير/كانون الثاني 2014.  وبعد ذلك، بدأت أعمال البناء والتأسيس بسرعة في جميع الكانتونات الثلاثة. ويعد كانتون الجزيرة أكبر كانتون في المنطقة، ويتكون من ثلاث مدن مركزية هي ديرك وقامشلو والحسكة». وفي سبتمبر/أيلول 2018، تطوّرت صيغة «المقاطعات/ الكانتونات»، بعد تحرير قوات سوريا الديمقراطية للعديد من المناطق ذات الغالبية العربية، إلى صيغة إدارة موحدة وموسعة، عندما تم الإعلان عن تأسيس «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا».

علمت الدولة التركية بأن الجماعات المسلحة في المعارضة السورية غير قادرة على إلحاق الهزيمة بمشروع الإدارة الذاتية وبوحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة (تأسستا 2013)، ولاحقاً بقوات سوريا الديمقراطية (تأسست 2015)، وأن هذه الأخيرة تمكنت من طرد فصائل المعارضة المسلحة من أغلب مدن ومناطق شمال شرق سوريا، كما ألحقت، من خلال التعاون مع التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، الهزيمة بالتنظيم المتطرف ومنعته من احتلال مدينة كوباني 2014، وقامت بتحرير مدينة الرقة من تحت سيطرته في 2017. كل هذه التطورات، بالاضافة إلى الحسابات الداخلية التركية (هزيمة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران 2015 وحصوله على 41% من الأصوات وتعليق رجب طيب أردوغان، جراء ذلك، محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني ودخوله في تحالف حكومي مع حزب الحركة القومية المتطرف)، أدت إلى اتخاذ الدولة التركية قرار التدخل العسكري المباشر. وهكذا، شن الجيش التركي سلسلة من العمليات العسكرية الاحتلالية داخل الأراضي السورية. وكانت البداية، كما أسلفنا، في عام 2016 من خلال احتلال مناطق جرابلس واعزاز والباب، ومن ثم عام 2018 من خلال احتلال مقاطعة عفرين، وأخيراً عام 2019 من خلال احتلال كل من منطقتي رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي. «ترى تركيا أن تحطيم الكتلة البشرية عبر سياسات بعيدة المدى، خاصةً في عفرين، سيقضي على مشروع الكيان الكردي، وهي تعتمد على إحلال سكان تركمان وعرب مناوئين للمشروع مكان السكان الكرد، بما يحمي أمنها القومي في حال سحبت قواتها مستقبلاً. ولا تقتصر الرؤية التركية على منطقتي عفرين ورأس العين، بل تشمل كافة مناطق الشريط الحدودي، بما في ذلك القرى العربية، ومن هنا اعتمادها على فرقة السلطان مراد التركمانية لتأمين الشريط الحدودي بمسافة تتراوح بين 3 و15 كم».

احتلال تركيا لرأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي 2019

بدأت عمليات الجيش التركي في 9 أكتوبر/تشرين الأول بقصف مكثف من المدفعية والطيران، في حين تقدمت على الأرض وحدات من قوات النخبة في الجيش التركي وعناصر تابعة لميليشيات «الجيش الوطني». وبعد مقاومة كبيرة من قوات سوريا الديمقراطية، قرّرت هذه القوات الانسحاب من المدينتين للحفاظ على أرواح المدنيين والحيلولة دون تدمير قوات الجيش التركي للأحياء السكنية من خلال القصف العشوائي المرّكز، وحدث ذلك بعد «تفاهمات» مع الجانب الأميركي.

وشهدت كل من رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي جرائم كبيرة بحق المدنيين والنازحين، ارتكبها بشكل خاص عناصر من ميليشيات «الجيش الوطني» كانوا يطلقون النار على المدنيين الكرد بشكلٍ عشوائي، ويعملون النهب والسلب في بيوت الأهالي. ولعل من أشهر جرائم الفصائل الموالية لتركيا جريمة إعدام تسعة مدنيين، بينهم السياسية الكردية ورئيسة حزب سوريا المستقبل المهندسة هفرين خلف (36 عاماً). واتهم كل من فصيلي «أحرار الشرقية» و«السلطان مراد» بارتكاب المجزرة بإشراف مباشر من حاتم أبو شقرا الذي تبين أن له «سوابق وسجل حافل، حيث يتهمه ناشطون أيزيديون بالتورط في جرائم ضد الإنسانية بحق أهالي عفرين وأعزاز من الأقلية الإيزيدية، وعمل في تجارة العوائل والمختطفين واحتجازهم بعد سيطرة الفصائل الموالية لتركيا على مناطقهم (..)، كما يتمتع أبو شقرا بعلاقات قوية مع جهات تركية رسمية، ففي أبريل/نيسان 2018، حضر اجتماعاً مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان».

كما استخدمت قوات الجيش التركي الأسلحة المحرمة دولياً، كالفوسفور الأبيض، ضد المدنيين في عملياتها العسكرية في المنطقتين. «وبحسب معلومات، فإن 30 مدنياً أصيبوا في 13 أكتوبر/تشرين الأول إصاباتٍ مباشرة بمادة الفوسفور الأبيض التي ألقتها قوات الجيش التركي بشكلٍ عشوائي على المنطقة. ونٌقل هؤلاء إلى مشفى مدينة الحسكة ومشفى مدينة تل تمر. وتمكنت جهة سويسرية مختصة من تحديد مادة الفوسفور الأبيض في جسد مقاتل من قوات سوريا الديمقراطية تعرض لها جراء القصف التركي، في حين أكد الطبيب السويدي/ الإيراني عباس منصوران في مؤتمر صحافي عٌقد في العاصمة الفرنسية باريس في شهر فبراير/شباط 2020  بأنه تم التأكد من وجود إصابات بمواد كيماوية غير تقليدية على أجساد مواطنين بعد تعرضهم لقصف من الجيش التركي. وانتهت تحريات خاصة قامت بها الصحافية البريطانية لوسي فيشر من صحيفة «تايمز» بأن مادة الفوسفور الأبيض التي استخدمتها قوات الجيش التركي في هجومها الأخير في شمال شرق سوريا استوردت لصالح وزارة الدفاع التركية من بريطانيا.

لقد أدى القصف المدفعي والجوي التركي لكل من رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي إلى «إحداث تخريب كبير في البنية التحتية مثل محطات المياه والكهرباء والمشافي والمراكز الصحية والأفران، وكان واضحاً بأن القصف مرّكز والغرض منه هو تدمير البنية التحتية وتخريب مصادر الحياة بغية دفع السكان الأصليين إلى الهجرة لضمان سيطرة الدولة التركية على المدينتين خاليتين بحيث تتمكن، لاحقاً، من جلب سكان جدد إليها في إطار مخططها الرامي لتهجير الكرد. كما استهدف القصف التركي، بشكلٍ خاص وواضح، السجون والمراكز التي كان يحتجز فيها عناصر داعش. وتمكن في مدينة عين عيسى المئات من مقاتلي داعش وأفراد من أسرهم من الفرار».

وما إن دخلت قوات الجيش التركي والفصائل الموالية لها المنطقتين، حتى بدأت أعمال السلب والنهب لدور وأملاك وآليات المواطنين المهجرين. لقد شهدت المنطقتين أعمال نهبٍ كبيرة اشتركت فيها الفصائل المسلحة تحت سمع وبصر قوات الجيش التركي، بل وبإشرافٍ واضح وترتيب من الاستخبارات التركية. وسجلت الجمعيات المدافعة عن حقوق الانسان عشرات الحوادث من حالات النهب والتخريب لدور وأملاك المواطنين الكرد، إذ «كتب مسلحون بوضوح على أبواب بيوت يملكها أكراد وأرمن في رأس العين وتل أبيض وبخط عريض {محجوز}، في إشارة إلى أن تلك البيوت لم تعد ملكأ لأصحابها وبجانبها اسم الفصيل الذي صدر عنه قرار الحجز».

وجراء أعمال النهب والسلب والقتل على الهوية التي ارتكبتها الفصائل المسلحة التابعة لتركيا، شهدت المنطقتين حركة نزوح كبيرة جداً، خاصةً من المكون الكردي. «وتحدثت مصادر في الأمم المتحدة عن نزوح 180 ألف مدني في الأسابيع الثلاثة الأولى التي أعقبت الهجوم التركي، في وقت أفضت الحرب إلى تدمير أجزاء من المدينة وتصفية حسابات مع معظم السكان الذين دعموا أو أيّدوا وانضموا للإدارة الذاتية والاستيلاء تالياً على منازلهم وأراضيهم وإحلال سكان آخرين، سوريين وأجانب، في بيوت المهجّرين والمطرودين تحت قوّة السلاح والفارين من آلة العقاب الرهيبة التي خشوها، خاصةً أن بعض أبناء المدينة الذين فروا إلى تركيا في وقت لاحق من عام 2013 نتيجة تعاونهم مع فصائل الجيش الحر والجماعات الجهادية كانوا يتوعدون بالقصاص من أبناء مدينتهم، وعملوا أدلاء لاحقاً مع الأتراك وفصائل المعارضة المحتلة».

واقع الاحتلال: التطهير العرقي والتتريك الممنهج

بعد الاحتلال التركي وتمكين يد الفصائل المسلحة الموالية لأنقرة في كل من منطقتي رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، بدأت الدولة التركية تنفيذ مشاريعها الرامية إلى احداث أكبر قدر ممكن من التغيير الديمغرافي وإزالة أي وجود أو معالم للمكون الكردي. وكانت استراتيجية الاحتلال التركي في تغيير معالم المنطقتين قامت على عدة مراحل منها الترويع والتهجير والنهب والسرقة ومن ثم المصادرة وتحويل الملكية بشكلً غير قانوني. ومن هنا، وثقت مؤسسات مدنية مدافعة عن حقوق الانسان وضحايا الحرب، بشكلٍ عام وأيضا مفصّل، حجم الانتهاكات والجرائم ضد الانسانية، من تطهير عرقي وتغيير ديمغرافي ووضع اليد على الأملاك. ومنذ احتلال منطقتي رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي في أكتوبر/تشرين الأول 2019، كنتيجة لعملية «نبع السلام» التركية، وثقت «رابطة تآزر» استيلاء القوات التركية والجيش الوطني السوري على أكثر من 5500 منزل سكني و 1200 محل تجاري وصناعي ونحو مليون دونم (100 ألف هكتار) من الأراضي الزراعية في تلك المنطقة، فضلاً عن إفراغ 55 قرية من سكانها الأصليين.

وعلى الرغم من مرور أربعة أعوام على احتلال تركيا والميليشيات التابعة لها للمنطقتين وفرض التهجير بحق الأغلبية الساحقة من السكان الأصليين، إلا أن الجرائم والانتهاكات بحق من تبقى من الأهالي مستمرة. وغالباً ما تكون الحجج والذرائع واهية وغير صحيحة (مثل وجود ارتباطات مع الإدارة الذاتية)، الغرض منها الابتزاز المالي أو التهجير ووضع اليد على أملاك ودور المواطنين. «ظهر تحليل الشهادات الذي قامت به {سوريون} عن استهداف واضح للكرد، فقد بلغ عددهم/ن 46 ضحيّة، فيما تم توثيق 16 حالة تعذيب ضدّ سكان آخرين من عرب المنطقة. وتورطت معظم الفصائل التابعة للجيش الوطني السوري/المعارض بعمليات الاحتجاز التعسفي والتعذيب. إلا أنّ أسماء فصائل محددة تم ذكرها بشكل أكبر من باقي المجموعات المسلّحة، منها: فرقة الحمزة/الحمزات التي تورطت بما لا يقل عن 20 حالة تعذيب وسوء معاملة وإهانة، وفرقة السلطان مراد التي تورط بما لا يقل عن 12 حالة، بينما تورطت فرقة المعتصم بـ8 حالات. وأفاد العديد من الناجين/ات بأنّ الأسباب الظاهرية لعملية الحرمان من الحرية ولاحقاً التعذيب و/أو سوء العاملة، حدثت نتيجة اتهامات المجموعات المسلّحة لهم بوجود ارتباطات مفترضة بينهم وبين الإدارة الذاتية (..). أمّا فعلياً، واستناداً إلى أقوال الشهود، فإنّ السبب الرئيسي لعمليات الاعتقال والتعذيب كان بهدف ابتزازهم مادياً وإجبارهم على دفع الفدية، ولاحقاً التخلّي عن ممتلكاتهم ومغادرة مناطقهم الأصلية التي ينتمون له».

ويتحدث ناشطون ومنظمات حقوقية تعمل على الأرض في شمال سوريا، عن لجوء سلطات الاحتلال التركي إلى تغيير السجل المدني للسكان الأصليين في تلك المناطق وسحبها البطاقة الشخصية والعائلية السورية من القاطنين في تلك المناطق واستبدالها بأخرى تركية، إضافةً إلى فرض التعامل باللغة والليرة التركيتين وربط خدمات الصحة والتعليم والبريد والصرافة والكهرباء والمياه والهاتف بالمناطق التركية المتاخمة. كما تم استبدال مناهج التعليم والدارسة السورية بمناهج تركية في المدارس، وافتتحت السلطات التركية فروعاً لبعض الجامعات التركية، مثل جامعة «حران» في أورفة/ روها في شمال سوريا. والواضح من خلال فرض نظام التعليم باللغة التركية، بأن الهدف هو خلق جيل منتم فكرياً وهوياتياً للثقافة التركية. كما تركز السلطات التركية على الرموز القومية التركية وترفع العلم التركي وصور أردوغان فوق المدارس والمستشفيات وجميع المراكز والمؤسسات والساحات.

هناك أكثر من 350 ألف مهجر ونازح اضطروا للفرار ومغادرة مناطقهم التي احتلتها الدولة التركية منذ عام 2016 وتركت الفصائل المسلحة التابعة لها تعيث فيها فساداً وتخريباً وارتكاباً منظّماً للجرائم بحق الإنسانية. وتحولت هذه المناطق، بسبب سياسة الاحتلال التركي، إلى مناطق فوضى وتجاوزات لا يسودها إلا قانون القوة، حيث تتقاسم الفصائل المسلحة أراضي وأملاك المواطنين الكرد، ويعمد عناصرها إلى اختطاف المواطنين وطلب الفدية المالية. كما تتفشى جرائم الاتجار بالمواد المخدرة وتهريب البشر والمحروقات والبضائع. فضلاً عن الانتهاكات الممنهجة بحق كل شيء كردي، مثل تدنيس عناصر الميليشات الموالية لتركيا المزارات المقدسة للديانة الكردية الأيزيدية وتغيير الأسماء الكردية للأماكن بهدف طمس الهوية الكردية. كما تنفذ الدولة التركية سياسة تتريك ممنهجة، بعد التمهيد الذي حصل في المرحلة الأولى عبر تهجير الكرد وإزالة كل مظاهر الهوية الكردية، تقوم على توطين العناصر التركمانية والمهاجرين الأيغور الصينيين. كما عينت الحكومة التركية حاكم واحد لإدارة المناطق المحتلة في شمال سوريا بدلاً من سبعة ولاة كانت عينتهم هناك بهدف التنسيق، وهو ما يعني «توحيد» هذه المناطق السورية المحتلة إدارياً وربطها بتركيا. وتنتشر الشركات التركية، خاصةً العاملة في مجال الطاقة، في مناطق شمال سوريا لإنشاء محطات الطاقة الكهربائية ومد خطوط وشبكات الكهرباء. وعادةً ما تكون التسعيرة والضرائب المضافة مرتفعة، الأمر الذي يرهق السكان ويدفعهم للتذمر والخروج للاحتجاج في ظل الواقع الاقتصادي المتردي وغياب القانون وانتشار مظاهر التسليح والفوضى.

يتوطد واقع الاحتلال التركي مع مرور الزمن، وتترسخ وتتسارع سياسة التتريك الممنهجة، وهو ما يعني وجود سياسة عليا في ربط هذه المناطق السورية بتركيا لاحقاً. والواضح أن الدولة التركية تراهن على عامل الزمن في نشر مظاهر الثقافة واللغة التركية بين السكان، بغية خلق جيلٍ جديد منفصل عن الهوية السورية لا يعرف سوى الهوية التركية، وفرض رموز السياسة والثقافة واللغة التركية في كل مناحي الحياة، وتمكين العناصر التركمانية وتسليمها المهام والمناصب السياسية والعسكرية، بغية تهيئة المنطقة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً لضمها إلى تركيا مع أول فرصة تلوح وتتيح فعل ذلك دون الخوف من أي عواقب أو رفض دولي.

إشـــــــــــــــــــارات:

أولاً: باللغة العربية:

1ـ المجلس الاستراتيجي السوري ـ التركي يختتم أعماله ب 50 اتفاقاً. صحيفة “البيان” الاماراتية. 24/12/2009.

2ـ مصطفى جوبان: ثورة روج آفا. القسم العربي في وكالة ” فرات” للأنباء. 20/06/2023.

3ـ خير الله الحلو: التدخل التركي في شمال سوريا: استراتيجية واحدة وسياسات متباينة. موقع مركز (روبرت شومان للدراسات العليا في معهد الجامعة الأوروبية). 21/12/2020.

4ـ التقى أردوغان وله سجل أسود..هل قتل أبو شقرا الكردية هفرين خلف؟. موقع “قناة الحرة”. 15/10/2029.

5ـ جوان سوز: انتهاكات فصائل تركيا: شمال سوريا…خطف وسرقات. موقع “العربية نت”. 21/11/2019.

6ـ شورش درويش: رأس العين/ سري كانيه في ثلاث محطات. المركز الكردي للدراسات. 20/08/2023

7ـ  انتهاكات حقوق الملكية في شمال سوريا تكرّس التغيير الديمغرافي. موقع “مؤسسة تآزر”. 19/01/2023.

8ـ نبع السلام: التعذيب كأداة للاضطهاد وتكريس التهجير القسري. موقع “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”. 26/06/2023.

9ـ تقارير حقوقية تحدثت عن “تتريك” ممنهج وترسيخ التبعية الإدارية. صحيفة “الشرق الأوسط”. عدد 22/08/2023.

 

ثانياً: باللغة الكردية:

Tariq Hemo: Sûriyê û pîlanên dij-kurd. Yeni Özgür Politika 19/05/2012

ثالثاً: باللغة الألمانية:

Elke Dangeleit: Einsatz türkischer Phosphorbomben in Nordsyrien belegt. www.telepolis.de. 20/02/2020

Nick Brauns: Der Verrat der USA zwingt die Autonomieverwaltung zum Bündnis mit Damaskus. Die sozialistische Zeitung Nr. 11/2019

.

 

 

 

 

 

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد