رابحون وخاسرون في ميزان الحرب بين إسرائيل و«حماس»

شورش درويش
ثمة إجماع على أن الضربة التي وجّهتها كتائب القسّام التابعة لحركة حماس كانت الأشد على إسرائيل منذ نصف قرن ويوم حين اندلعت حرب أكتوبر، أو حرب يوم الغفران. سرعة ودقة التنفيذ وضعف التقديرات الاستخباراتية والصدمة العسكرية كشفت عن تأخر إسرائيل عن مواكبة ما كانت الحركة تعدّ له. هذا الإخفاق الأمني الكبير لواحد من أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم يعني أن المحاسبة المؤسسية ستكون صارمة. وقد تكشف لجنة التحقيق المقبلة، التي لن تكون أقلّ صرامة عن لجنة فينوغراد، عبر التحقيق مع المسؤولين الحكوميين والأمنيين والعسكريين عن مواطن الخلل الكبير وأسباب الخسارة المرتفعة في الأرواح.
وكشأن أي حرب تفرض نفسها على الواقع السياسي الراهن والمقبل، يمكن تحديد خاسرين ورابحين، وإن كانت مقاييس الخسارة والربح متفاوتة بين طرفٍ وآخر. يقف رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو في قائمة الخاسرين. فمع مئات القتلى من المدنيين وإصابة مئاتٍ آخرين وأسر واختطاف العشرات، يصبح من السهل القول إن ساعة الرمل قُلبت وإن زمن نتنياهو رفقة فريقه الحكومي شارف على الانتهاء. فالدعوات الإسرائيلية إلى تشكيل حكومة طوارئ مؤقّتة تعبيرٌ عن فقدان الثقة بالحكومة. لكن أمام نتانياهو امتحان صعب يتمثّل بتطويق «حماس» على ما يحويه ذلك من مخاطرة مراوحة حالة العنف المتبادل مكانها مع ازدياد وتيرة القتل، خاصةً مع انتقالها إلى غزّة على ما تقوله استعادة إسرائيل توازنها العسكري. في المقابل، يبقى خيار اجتياح غزّة واحداً من المغامرات التي لا يمكن التكهّن بنتائجها. لذا، قد يبقى الخيار الأوضح حتى اللحظة هو المضي في حرب «تأديب» لحماس والتي ستطاول المدنيين على أيّ حال.
على الرغم من الخسارة القاسية، نجح نتانياهو في شحذ الرأي العام الغربي في مواجهة «حماس» ونيل دعم غير مسبوق في حربه على الحركة وغزة. ونجحت كذلك الدعاية الرسمية في المطابقة بين صورة تنظيم داعش و«حماس»، إذ ساعدت الأخيرة عبر عنفها المنفلت الذي طاول المدنيين وتنويع طرائق القتل واختطاف النساء والأطفال على مثل هذه المطابقة التي تلقّفتها واشنطن ولندن وعواصم غربية أخرى وتقبّلتها كصيغة لتوصيف «حماس» التي سبق أن صُنّفت منظمة إرهابية. فيما ستتوقف حدّة الانتقادات لأداء نتانياهو على مقدار العنف الذي قد يبلغه خلال الأيام المقبلة، وبالتالي سيحتاج رئيس الحكومة ووزير الدفاع يوآف غالنت إلى بلوغ أقصى درجات العنف والقسوة ليعيد صياغة صورة «إسرائيل القويّة» داخلياً وخارجياً.
عطّلت الحرب أحد أبرز مشاريع التطبيع المتوقّعة بين السعودية وإسرائيل، وهو الأمر الذي اشتغلت عليه واشنطن ووصفته بـ«الصفقة الضخمة» التي كانت تصطدم بالسياسات التوسّعية وتكثيف عملية بناء المستوطنات وطبيعة الأزمة الحكومية المزمنة في تل أبيب، والأهم كان صعوبة الوصول إلى تفاهم بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. لكن على الرغم من ذلك، عوّلت واشنطن على مشروع سلام يجمع العالم السنّي ممثلاً بالسعودية مع إسرائيل لتطويق إيران. وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أفرط في التفاؤل حين وصف المشروع بأنه  «نقطة تحوّل في الشرق الأوسط وخارجه». وزاد من ارتياح إدارة جو بايدن مشروع الممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا، الذي كان سيربط الإمارات والسعودية بميناء حيفا. أبدت إدارة بايدن ارتياحها للمشروع الذي يعزز من احتمالية الشراكة بين الرياض وتل أبيب تحت يافطة المصالح التجارية والعوائد الاقتصادية وعزل إيران بشكل أوسع والحد من العلاقة الصينية-السعودية وتوجيه ضربة لتطبيع العلاقات السعودية-الإيرانية.
من بين الأطراف التي توصف رابحةً، تأتي إيران الداعم الرسميّ لحركة حماس. شدة العنف وسلوك مقاتلي «حماس» الذين عمموا القتل لساعات ووزعوه على المدنيين واختطافهم النساء والأطفال وكبار السن، ربما أفزع إيران بحيث لم تسعَ إلى تصوير الحرب كجزء من قدراتها على إيذاء إسرائيل بهذا الشكل المريع، وإن لم تخفي سعادتها لما حصل، إذ قطعت الحرب طريق التطبيع مؤقّتاً وأحرجت الدول العربية المطبّعة، فضلاً عن عودة واشنطن إلى المنطقة بالشكل الذي كانت تتجنّبه طيلة فترة الانسحابات وسعيها لرعاية مشاريع سياسية بين الأفرقاء بدل الحضور العسكري المباشر. لا تزال إيران تمتلك ورقة إقحام إسرائيل في حرب مفتوحة في الشمال، إذ تستمر الاستفزازات والمناوشات بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، وهناك احتمالات لتسخين الجبهة السورية وإقحام النظام السوري في مدار الحرب، ما يعني امتلاك إيران لأوراق أخرى في طريق إيذاء إسرائيل وتحويل الصراع من موضعيّ إلى إقليميّ واسع، لكنه إيذاء ينطوي على مخاطرة تتثمّل باحتمال إضعاف حزب الله في نهاية المطاف بالنظر إلى الأوضاع الداخلية في لبنان الذي سيكون أحد أبرز الخاسرين من تمدد الحرب، إذ تكفيه مشكلاته الاقتصادية والسياسية وفراغ كرسي رئاسة الجمهورية وانقساماته الاجتماعية. كذلك، فإن أحوال النظام السوري ودخوله في حرب داخلية مزمنة وتركيزه على جبهة إدلب، لا تسمح له بتلقي ضربات إسرائيلية مميتة. ولعل دخول الإمارات على خط الأزمة عبر تحذيراتها لدمشق من مغبة الانخراط في الحرب هو اختبار لنفوذ الإمارات التي قادت عملية تطبيع عربية مع دمشق.
تبدو تركيا أقرب لاتخاذ موقف سبق أن اتخذته في الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ تسعى لأن تكون رابحةً في اتجاهين. فهي تقف إلى جانب الحكومة الإسرائيلية بوصفها حليف تل أبيب العسكري والاقتصادي في المنطقة، في مقابل إطلاق يد القواعد الاجتماعية في تركيا لدعم «حماس» كجزءٍ من خطاب أتقنه حزب العدالة والتنمية. وبالتالي، فإن لعب أدوار الوساطة رفقة الحليف القطريّ هو أقصى ما قد تبلغه أنقرة حال امتداد أمد الحرب. هذا لا يمنع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الإدلاء بتصريحات مثيرة تنطوي على مفارقاتٍ صارخة. فتصريحات أردوغان التي تعتبر قطع المياه والكهرباء واستهداف البنى التحتية في غزة بأنها «مجازر» هو بالضبط ما تقوم به آلة الحرب التركية في هذا التوقيت بالتحديد في شمال شرقي سوريا عبر تدميرها محطات المياه والكهرباء والطاقة والمدارس والمشافي وقتل المدنيين وموظفي الخدمة العامة.
ثمة مخاوف كشفت عنها القاهرة تمثّلت برفضها تحوّل الأراضي المصرية إلى مستقرّ لحركة لجوء كبيرة عن أراضي قطاع غزة. وفي حال تفاقمت الأزمة الإنسانية في غزة، فإن مصر ستتكبد العبء الأكبر بحكم موقعها. لكن الحاجة الفعلية لأدوار الوساطة المصرية مبنية على وقائع جيوسياسية لا إلى أدوار مصر المؤثّرة على حركة حماس التي رفعتها مصر إلى مصافي العدوّ منذ نهاية حكم الإخوان المسلمين في مصر. قد تقدّم جهود الوساطة المصرية المقبلة فرصة للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي سيخوض انتخابات مطلع العام المقبل بحيث لا يثير شكل وسير العملية الانتخابية انتقادات دولية واسعة، نظراً للاحتياج إلى دور مصريّ يطوّق الحرب وما سينجم عنها.
في إزاء كل ذلك، تقف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أمام امتحانٍ عسير. فمن جهة، تدخل الحرب الإسرائيلية في صالحها كونها تضعف خصمها «حماس». ولكن من جهة أخرى، فإن شلّ جهود التطبيع السعودي الإسرائيلي نتيجة هذه الحرب يضر بالفرصة التي كانت تلوح أمام السلطة التي عانت طيلة الفترة الماضية من عزلٍ إسرائيلي امتد منذ العام 2014 وحتى الآن. إلا أن ما تدركه السلطة في الضفة الغربية هو صعوبة الإجهاز على «حماس» التي تعيش تحت الأرض ولا تحتاج الكثير للاستمرار في البقاء، خاصةً أن حرباً برية متوقّعة قد تنفّذها إسرائيل واقتحامها قطاع غزة قد تأتي بنتائج عكسية، فتصبح مهمّة ضبط الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية بالغة الصعوبة إذا ما امتدت الحرب وتفاقمت نتائجها. ثمة فرصة لعودة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس للأضواء وتخطّي حالة العزلة التي فرضتها عليه إسرائيل، إن أصرت الدول العربية على مخاطبته بوصفه ممثلاً للشعب الفلسطيني، وفي حال أدت خطط العزل الإسرائيلية ومشاريع التوسع داخل أراضي الضفة إلى تكرار ما حصل في غزة وغلافها.
يبقى أن الخاسرين قد يرتقون إلى مصافي الرابحين لاحقاً، والعكس بالعكس. فاستراتيجة التطبيع التي عطلّتها «حماس» وإيران قد تعود إلى الواجهة إذا استعادت تل أبيب صورتها التي اشتغلت عليها منذ عام 1948. لكن، كل ذلك متوقف على عدة مسائل بينها ألا تنزاح إسرائيل إلى انتقام وحشيّ من المدنيين وأن تنتهي أزماتها الحكومية المتلاحقة ووصول حكومة قادرة على وقف حركة الاستيطان وابتلاع الأراضي الفلسطينية وعلى صياغة سياسة تطبيع متوازنة تبدأ بإعادة الاعتبار للسلطة الفلسطينية ولعملية السلام على أساس حل الدولتين. وإلا، فإن العنف والعنف المقابل قد يلهم الجماعات الجهادية والأطراف المستفيدة لتكرار ما حصل يوم 7 أكتوبر مراتٍ ومرات من دون أي اعتبار.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد