محمد سيد رصاص
في أثناء قمة مجموعة العشرين التي انعقدت الشهر الجاري في العاصمة الهندية، والتي غاب عنها الرئيس الصيني، تم التوقيع على اتفاقية الممر الاقتصادي الهندي – الشرق أوسطي – الأوروبي من قبل الهند والسعودية والإمارات وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. سيربط هذا الممر ساحلي الهند والإمارات (وربما عبر ساحل سلطنة عمان أيضاً ثم براً باتجاه الامارات عند مينائي دبي وجبل علي) بحرياً وساحلي إسرائيل وإيطاليا (وربما أيضاً اليونان). وسيكون هناك بين السواحل الأربعة جسر بري من سكك الحديد يمتد من الإمارات حتى إسرائيل عبر السعودية والأردن (ولايعرف إن كان سيمر بالضفة الغربية). على طول هذا الخط بين الهند وايطاليا (وربما اليونان) وبالاتجاهين، سيكون هناك أنابيب لنقل الطاقة (النفط- الغاز- الكهرباء- الهيدروجين) في البر وتحت البحر. وسيمتد هذا الجسر البري من ميناء الفجيرة على ساحل خليج عمان حتى ميناء حيفا. ومن المحتمل أن تكون دبي وجبل علي هما المحطتان للتجميع والتوزيع للسلع بالاتجاهين عبر القطارات نحو حيفا في الشمال الغربي وشرقاً نحو الفجيرة أو ساحل سلطنة عمان. فالمشروع وقِّع عليه بخطوطه العامة ولم يكشف مخططه التنفيذي حتى الآن.
وأدلى مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان بتصريح يوحي بأن واشنطن هي أم المشروع، إذ قال إن التفكير بالمشروع جرى بعد زيارة الرئيس جو بايدن السعودية في صيف2022، وهي إشارة إلى الهاجس الصيني لدى الأميركيين منذ 2011 (يشبه هاجسهم تجاه السوفييت إبان الحرب الباردة) ما دام أن لا مصلحة اقتصادية مباشرة لواشنطن من المشروع الذي يعتبر بمثابة رد على مشروع الحزام والطريق الذي طرحته الصين وباشرت فيه منذ عام 2013 لربطها بأوروبا عبر ثلاثة طرق هي الطريق الأوراسي (كازاكستان- روسيا- أوكرانيا- بولندا) والطريق الكازاخستاني- الأوزبكستاني- التركمانستاني- الإيراني- التركي والطريق الباكستاني – الإيراني- العراقي- السوري- التركي، وربط الصين بافريقيا عبر طريق الشرق الأوسط (باكستان- إيران- العراق- سوريا – الأردن- إسرائيل – مصر). وعلى الأرجح أنه جرى تسريع هذا المشروع ليكون الرد الأميركي على بكين بعد ستة أشهر من رعايتها الاتفاق الإيراني- السعودي.
هنا، يجب مد التفكير الأميركي إلى أبعد من الشرق الأوسط للوصول عند واشنطن إلى تفكيك منظومة مجموعة بريكس التي باتت في حالة انتعاش بعد الحرب الأوكرانية بعد نوم طويل منذ ولادتها في 2009. ويجري هذا التفكيك من خلال استخدام واشنطن للغم التناقض الهندي- الصيني، والذي جعل المجموعة في حالة عطل بنيوي. ففي مشروع الممر، هناك محاولة اغتيال ،عبر استخدام الهند، لمشروع الحزام والطريق من خلال سد الطريق الشرق الأوسطي أمام الصين، بعد أن تم إغلاق الطريق أمامه إلى أوروبا من خلال الجدار الأوكراني- البولندي الذي يراد منه عزل روسيا ومن ورائها الصين عن القارة الأوروبية. ومنذ أن أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما في 2011 سياسة واشنطن الجديدة بالانزياح على منطقة المحيط الهادىء- المحيط الهندي، تسعى واشنطن لعزل الصين من خلال الكسب الأميركي لجوارها مع استخدام رأسي حربة ضدها هما الهند واليابان. والآن، لا يوجد علاقات غير عدائية أو غير متوترة بين الصين وجوارها سوى مع روسيا ومنغوليا وكوريا الشمالية وميانمار. ومؤخرا،ً بعد عزل عمران خان عن رئاسة الوزراء في 2022، هناك ابتعاد باكستاني تدريجي مدعوم أميركياً عن الصين. ويراد من مشروع الممر جعل الهند الاقتصاد الآسيوي الأول بعد دخولها في نادي الخمسة الكبار للاقتصاد العالمي وتحولها إلى الدولة الأولى سكانياً بالعالم، إذ1 أن هذا المشروع لا يربط فقط البحر الأبيض المتوسط والقارة الأوروبية اقتصادياً بالهند بل يربطها أيضاً بمنطقة المحيط الهادىء- المحيط الهندي، وهو مصطلح جديد في العلاقات الدولية بدأ استخدامه مؤخراً من قبل واشنطن، حيث أن الساحل الهندي في بحر العرب عند مومباي سيكون مصب البضائع والسلع الآتية عبر سكك الحديد من منطقة جنوب شرق آسيا (فييتنام – لاوس- كمبوديا – ماليزيا – تايلاند – ميانمار) لشحنها إلى الشرق الأوسط وإلى اوروبا عبر الممر الذي يوفر 30 في المئة من كلفة النقل البحري عبر قناة السويس ويقلص زمن النقل بنسبة 40 في المئة.
وإذا أتينا إلى الدلالات الشرق أوسطية لمشروع الممر، يجب وضع ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عنه من بلاده هي محور المشروع، على الرغم من أن تل أبيب غابت أو طلب منها لاعتبارات عديدة أن لا تكون حاضرة في حفل التوقيع، فيما حضرت دول، كالإمارات، التوقيع وهي ليست في مجموعة العشرين مثل إسرائيل. وسيصبح مرفأ حيفا المرفأ المركزي للمنطقة الذي يربط أوروبا بآسيا ويربط منطقة الخليج مع القارة الأوروبية. يستتبع هذا كنتيجة أن هناك تطبيعاً سعودياً للعلاقات مع إسرائيل في الزمن المنظور، وهو تأكيد متأخر على الافتراضات التي قيلت في 2020 عن أن الأمير محمد بن سلمان كان القوة الدافعة الخلفية لتطبيع الامارات والبحرين مع الدولة العبرية من أجل استكشاف الطريق الوعر لتطبيع دولة الحرمين مع إسرائيل. وهذا التطبيع أصبح حتمي الوقوع وقريب وهو شرط لتنفيذ المشروع الذي وقع عليه ولي العهد السعودي بقلمه في نيودلهي. وبالتأكيد سيكون للمشروع، وبما يتضمنه من تطبيع سعودي- إسرائيلي، انعكاسات على الفلسطينيين لا يعرف ولا يمكن التنبؤ بفحواها وكنهها في ظل حكومة هي الأكثر يمينية في تاريخ إسرئيل، وإن كان يمكن استرجاع تأملي لمقولة أطلقها شيمون بيريز في التسعينيات قبل اتفاقية أوسلو عام 1993، وهو صاحب مقولة
«الشرق الأوسط الجديد» الذي يوحي مشروع الممر بتطبيق ما له، لما قال بأنه يمكن «بناء بينولوكس أردني- فلسطيني- إسرائيلي تكون فيه حرية التنقل للبضائع والأشخاص». أيضاً، إسرائيلياً، وبما يعنيه هذا المشروع من عودة أهمية إسرائيل عند واشنطن كما كانت في الستينيات وحتى نهاية الحرب الباردة كمرتكز أميركي إقليمي، فإن هذا يعني أن امكانية عودة الاتفاق النووي الأميركي مع إيران أصبح بعيد الاحتمال وفق وضع اتفاق 2015 الذي كان لصالح إيران، وهو اتفاق تصرفت إسرائيل معه منذ توقيعه مثل تصرف الزوجة مع زوجها حينما يبدي نيته الزواج من إمرأة ثانية. من جانب آخر ، يعني مشروع الممر أن الاتفاق السعودي- الإيراني الموقّع في بكين سيطويه اتفاق نيودلهي ومعه المبادرة العربية.
هنا، يعني مشروع الممر من الناحية الجغرا- بحرية تهميشاً أو تقليلاً من أهمية مضيقي هرمز وباب المندب ومن الدور الاقتصادي لقناة السويس التي يمر بها 12 في المئة من حجم التجارة العالمية، وهو يعني اتجاهاً أميركياً نحو تهميش دول باكستان وإيران وتركيا والعراق وسوريا ولبنان ومصر واليمن في الناحية الجغرا- سياسية والجغرا- اقتصادية. فهو سيلغي عملياً خط الترانزيت البري الواصل بين أوروبا ومنطقة الخليج عبر تركيا- سوريا- الأردن، ويجعل قيام مشاريع لنقل الطاقة من الساحل السوري إلى أوروبا تأتي من ايران- العراق أو من الخليج عبر الأردن أو مشاريع مثل نقل الغاز القطري عبر السعودية- الأردن- سوريا- تركيا الذي يقال بأنه طرح عام 2009 ليكون بديلاً للأوروبيين عن الغاز الروسي، غير ذي جدوى. كما لا يمكن عزل مشروع الممر من إمكانية أنه سيكون مشروعاً يؤمن بديلاً للأوروبيين عن الغاز والنفط الروسيين، وهو ما سيجعل الشرق الأوسط يستعيد أهميته الاقتصادية بعد اتجاهات برزت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة نحو جعل روسيا الخزان الرئيسي عند الأوروبيين للغاز والنفط، وهو على ما يبدو أمر انتهى مع نشوب الحرب الأوكرانية. كما أنه سيجعل الخليح المزود الرئيسي للطاقة إلى الهند، الغير مكتفية (كما أوروبا) من النفط والغاز. وكذلك، سيحرم الصين، وهي من الدول الغير مكتفية أيضاً، من مصادر طاقة منطقة الخليج. ويجب هنا التذكير بضغوط صندوق النقد الدولي على باكستان مؤخراً باشتراط إقراضها بقيام إسلام آباد بإعادة النظر بمشروع الربط السككي والأتوسترادي (زائد أنابيب الطاقة الغازية- النفطية الآتية معظمها من منطقة الخليج) مع الصين عبر مرفأ غوادار الباكستاني والذي يكتمل في 2030، والذي تريد الولايات المتحدة والهند وأده قبل أن يولد.
كتكثيف: كان كلام أوباما في البرلمان الأسترالي عن الانزياح الأميركي للتركيز على منطقة المحيط الهادىء- المحيط الهندي سابقاً بستة أسابيع عن اكتمال الانسحاب العسكري الأميركي من العراق في اليوم الأخير من عام 2011، وهو ما ترافق مع ميوله لعقد الاتفاق النووي مع ايران وإغماض العين الأميركية عن التمدد الايراني في المنطقة. وترافق كذلك مع التخلي الأميركي عن أنظمة حليفة مثل نظام الرئيس حسني مبارك في مصر توازياً مع زواج أميركي مع الأردوغانية والأصولية الإسلامية الإخوانية، وهو ما أزعج السعودية والإمارات، فيما كان اتجاه أوباما نحو إيران مثيراً للهلع في تل أبي.، كما أن التركيز الأميركي على أن التناقض الرئيسي هو مع الصين جعل أوباما يقبل إدارة الظهر عن سيطرة الروس على شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس في أوكرانيا عام 2014 ويقبل بالدخول العسكري الروسي إلى سوريا عام 2015 وهو ما أعقبه تعاون أميركي- روسي كانت حصيلته القرار الدولي 2254. هنا، يشي مشروع الممر بأن واشنطن قامت بانقلاب كبير على كل ما فعلته منذ عام 2011 وعادت للتركيز على منطقة الشرق الأوسط، على الأرجح لجعله ساحة رئيسية للصراع ضد الصينيين والروس ومن والاهما.
السؤال الآن: ماعلاقة مشروع الممر بحقيقة أن الدول الثماني المتوقع أن تهمَش بفعله وتأثيراته تعانبي من انفجار البنية الاجتماعية في أربع منها هي لبنان والعراق واليمن وسوريا. والأربع الباقية، أي باكستان وإيران وتركيا ومصر، مرشحة للانضمام إليها؟