نظرة على إيران

محمد سيد رصاص

افتتحت إيران المراحل في التاريخ السياسي الحديث لمنطقة الشرق الأوسط ثم تبعها الآخرون، كما في المراحل التالية: الثورة الدستورية الفارسية في 1906 وتبعتها الدولة العثمانية في 1908. ثم الانقلاب العسكري (انقلاب رضا بهلوي في 1921 وتبعه انقلاب بكر صدقي في العراق عام 1936 وانقلاب حسني الزعيم في سوريا عام 1949). ثم افتتاح الحزب الشيوعي الإيراني”توده” في إيران المد الشيوعي في المنطقة منذ 1941 ليتبعه الحزب الشيوعي العراقي بين 1955 و1963 ثم شيوعيو سوريا في 1957-1958. وكذلك، الثورات القومية على الدول القائمة عبر جمهورية مهاباد الكردية في إيران عام 1946 ليتبعها أكراد العراق في 1961. وأيضاً، تأميم الشركات الأجنبية مع تأميم الشركة الإنكليزية- الفارسية للنفط عام 1951، ثم حصل هذا في مصر عام 1956مع تأميم شركة قناة السويس. وأيضاً، بدء انهيار تجربة الدول القومية المعادية للغرب مع انهيار تجربة رئيس الوزراء الايراني محمد مصدق عام 1953، وهو ما تبعته هزيمة الرئيس المصري جمال عبدالناصر في حرب 1967 وما أعقبها من انهيار التجربة الناصرية في السبعينيات.

مظاهرة للحزب الشيوعي في طهران، تموز 1951 | المصدر: The Sphere

وأيضاً، بداية المد الإسلامي في المنطقة مع وصول الخميني إلى السلطة في 1979، وكذلك بدء حراكات اجتماعية واسعة ضد الأنظمة مع الثورة الخضراء في إيران عام 2009 ليتبعها ما سمي بالربيع العربي في 2011 والذي فشل بتجسداته في بلدان عربية خمسة (تونس- مصر- اليمن- ليبيا- سوريا) كما جرى في التجربة الاستهلالية في طهران.

من اللافت للنظر في هذا الإطار أن هذه الريادة الايرانية في الإقليم ترافقت مع تداعي منطقة الهلال الخصيب بالترافق مع تداعي وانهيار الدولة العثمانية التي كانت مسيطرة عليه ثم مع تقسيمه بعد عام 1918 بين بريطانيا وفرنسا. ويلاحظ أن قوة إيران الإقليمية الراهنة وتمددها في الإقليم جرت بعد احتلال العراق عبر الغزو العسكري الأميركي عام 2003 ثم سيطرة طهران على مقدرات الحكم والسلطة في بغداد عبر قوى محلية موالية لايران (وهذا اسم اعتمد عام 1935 وكانت قبلها تحت اسم: بلاد فارس). وكانت قوة بلاد فارس عبر التاريخ تستتبع السيطرة على منطقة الهلال الخصيب وأحياناً مصر كما جرى في زمن قورش الكبير وقمبيز الثاني في القرن السادس قبل الميلاد وحتى مجيء الاسكندر المقدوني للمنطقة (333-323 قبل الميلاد) والذي كانت سيطرته على الهلال الخصيب ومصر مسبوقة بهزيمة الفرس وهو ما تكرر مع المسلمين بعد معركة القادسية (636 ميلادية) التي كانت هزيمة للفرس في أرض العراق استتبعها هزيمتهم في داخل أرض فارس ونهاية للدولة الساسانية (منذ 224 ميلادية) في عام 651 بعد هزيمتهم في معركة المدائن. وامتد الساسانيون في صراعهم مع الدولة البيزنطية لسيطرات مؤقتة على أجزاء من بلاد الشام امتدت حتى مدينة القدس. هنا، يجب التذكير بأن سيطرة الدولة العثمانية على الهلال الخصيب كانت متبوعة لهزيمة اسماعيل الصفوي أمام السلطان العثماني سليم الأول في معركة جالديران عام 1514، وهي كانت المدخل لسيطرة العثمانيين على بلاد الشام والحجاز عام 1516 ثم مصر في العام التالي وبعدها بلاد الرافدين عام 1534.

في هذا الاطار، يلاحظ أن المجال الحيوي لتمدد القوة الفارسية منذ زمن حكم قورش (550-529 قبل الميلاد) كان الجوار الغربي. وهذا اتجاه عام رأيناه عند خلفاء قورش وعند الساسانيين والبويهيين والصفويين والشاه محمد رضا بهلوي (1941-1979) والخميني (1979-1989) وعند خليفته علي خامنئي.، وكانت الدولة الصفوية (1501-1722) ثم الدولة القاجارية التي أنهاها رضا شاه في عام 1925 استثنائين بالتاريخ الفارسي عندما امتدتا شمالاً نحو القفقاس وأحياناً شرقاً نحو أفغانستان، ولكن المسار العام لتمدد القوة الفارسية كان في الغرب. من جهة أخرى، يلاحظ أن تداعي الهلال الخصيب يستتبع أو يترافق مع قوتين تبرزان في الطرفين الشرقي والشمالي من الهلال الخصيب، في بلاد فارس وفي بلاد الأناضول، وهذا رأيناه في عام 1514 في أثناء معركة جالديران، وهو ما يتكرر الآن بين خامنئي وأردوغان. وعلى الأرجح أن جمال عبد الناصر كان يفكر بين 1963 و1970 بأن تحالفه مع الحكم العارفي”عبد السلام وعبد الرحمن عارف” في العراق سيكون سداً أمام تمدد شاه إيران غرباً، وهو على الرغم من خصومته مع حزب البعث الذي سيطر على السلطة في بغداد عام 1968 كان يرى الخطر الإيراني على بلاد الرافدين خطراً على أمن مصر، وكان بالغ الحساسية عندما رأى بوادر نحو تشكيل الحلف الإسلامي بين الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود وشاه إيران والرئيس الباكستاني أيوب خان في أواسط الستينيات. ويعرف عبدالناصر منذ أن كان مدرساً في كلية أركان الحرب قبل وصوله للسلطة عام 1952 بأن أمن مصر يتهدد من بلاد فارس أو من بلاد الأناضول. وتجربتي قمبيز الفارسي في عام 525 قبل الميلاد وسليم الأول العثماني في 1517 تثبت ذلك، وكلاهما سيطرا على مصر عبر سيطرتهما على الهلال الخصيب.

ولكن على الرغم من أن ما قاله القائد السابق للحرس الثوري الايراني الجنرال رحيم صفوي من إن إيران هي القوة الإقليمية العظمى، يبقى صحيحاً منذ قوله هذا الذي أطلق في عام 2013 وحتى وقتنا هذا وهو ينطبق على الوقائع منذ عام 2003، فإن ايران تعاني من نقطة ضعف كبرى في قوتها وهي أن الفرس، وهم القومية الماسكة بزمام السلطة ومراكز القرار في طهران، أقلية في الجمهورية الإيرانية وليسوا أكثرية بل هم الأقلية الكبرى في دولة لا توجد بها أكثرية قومية. وبين القوميات الكبرى في منطقة الشرق الأوسط، أي العرب والأتراك والكرد والفرس، فإن الفرس هم الأقل عدداً في المنطقة . من جانب ثاني، تعتمد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في تمددها الإقليمي على الأحزاب والحركات الشيعية في بلدان متعددة، مع استثناء تحالفها مع حركتي حماس والجهاد في فلسطين. والشيعة هم أقلية بين مسلمي العالم وبين مسلمي منطقة الشرق الأوسط. وترافق التمدد الإيراني الإقليمي في مرحلة ما بعد عام 2003 مع بروز الحساسية السنية- الشيعية في عموم المنطقة والتي وصلت إلى حدود الصدام في العراق عام 2006 وفي لبنان 2008. ولم تستطع إيران إبراز وجه إسلامي لها بعيداً عن الطابع الشيعي على الرغم من علاقاتها الودية مع التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين. كما أن إيران الآن مثل الاتحاد السوفييتي في زمن بريجنيف 1964-1982، تعيش نجاحات في السياسة الخارجية بالترافق مع وضع داخلي ضعيف اقتصادياً واجتماعياً ولجهة التماسك بين القوميات. وترجم هذا في زمن غورباتشوف والبيريسترويكا 1985-1991بتراجعات في السياسة الخارجية بالترافق مع ازدياد الضعف الداخلي الذي دخل في مرحلة اضطراب ثم أعقب ذلك الدخول في مرحلة التفكك لدولة الاتحاد السوفييتي.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد