دير الزور.. أقدم إدارة ذاتية في سوريا الحديثة (2/2)
حسين جمو
عصفت تغيرات بنيوية مهمة بالمنطقة التي باتت تسمى «الشرق الأوسط» مع نهاية الحقبة العثمانية وتدشين مرحلة الهيمنة الأوروبية.
من أبرز هذه التغيرات، في الجانب الاجتماعي، استسلام البداوة أمام القوات الجوية للجيوش الحديثة مع نهاية الحرب العالمية الثانية. فحتى أضعف هذه الجيوش باتت تمتلك طائرات حربية لم تتردد في استخدامها ضد مجموعات متمردة. وتعرض البدو والعشائر المستقرة إلى غارات عديدة بالطيران في سوريا والعراق، قلبت معها المعادلة الندّية في تغلب العشائر حيناً، والدولة حيناً آخر. فباتت “المدينة – العاصمة” خلال سنوات قصيرة من الانتدابين البريطاني والفرنسي، السيد المطلق على أنحاء البلاد، والمسيطرة على الحدود مع الدول المجاورة، حيث عقدت جولات ماراثونية من المفاوضات لترسيم الحدود ومنع فروع القبائل من تجاوز الحدود الدولية، وهو الأمر الذي وجه ضربة للقبائل المالكة للإبل كمورد رئيسي، وتحديداً شمّر وعنزة، وهما أقوى المجموعات المتنقلة. واضطرت القبائل إلى تسجيل تبعيتها لكيان سياسي شرعي (الجنسية). وما كان لهذا التقييد لحركة القبائل العابرة للحدود أن تتسارع لولا تمرد “حركة الإخوان” الوهابية عام 1929 على ملك نجد والحجاز، عبدالعزيز آل سعود، وغاراتها العابرة للحدود على العراق.
وعليه، شهدت الحدود الجنوبية الغربية لمحافظة الأنبار، المحاذية للسعودية، والحدود العراقية السورية، استقراراً أمنياً إثر التفاهمات الحدودية المتتالية. وللمرة الأولى في تاريخ المنطقة، منذ فجر التاريخ، يتم منع المجموعات القبلية المتنقلة من العبور الحر بين نجد وبادية الشام والجزيرة، بقوتَيْ القانون والسلاح.
هذا التحول، بظهور الدولة الحديثة وسيطرتها على حدودها، حتّم تسريع وتيرة توطين القبائل. وجاء هذا التحول لصالح العشائر الزراعية والغنّامة التي استفادت من تراجع موارد القبائل المتحركة المهيمنة مثل فروع عنزة في بادية الشام وشمر في الجزيرة، فأصبحت القبائل الزراعية المستقرة (الدليم – العقيدات – البقارة) تكسب نفوذاً أوسع وقوة أكبر مع انتشار واسع للأسلحة عقب انهيار الدولة العثمانية، وتعرضت شمّر خلال العقود الأولى من القرن العشرين لنكسات عديدة على أيدي القبائل المستقرة الأقدم في المنطقة، واضطرت في النهاية أن تتحول بنفسها إلى قبيلة زراعية بعد جهود غير سهلة بذلها الشيخ عجيل الياور جنوب الموصل. كما فشلت الفدعان من عنزة بقيادة مجحم ابن مهيد من الهيمنة على دير الزور رغم امتلاكه تفويضاً واسعاً من سلطات الانتداب الفرنسي، واقتصر نفوذه على الرقة وشرقي حلب.
تلاشي البداوة وصعود العشائر
في موازاة ذلك، احتاجت القوى السياسية الجديدة في سوريا والعراق، إلى أدوات جديدة لكسب النقاط في مناكفات البورجوازية الوطنية ضد سلطات الانتداب. على أن المنطقة برمتها، من بيروت إلى البصرة، شهدت فوضى وعدم يقين بسبب التنازع الأوروبي على وراثة الأراضي المنفصلة عن الدولة العثمانية، ولم تكن دير الزور استثناء من هذه الفوضى.
لخّص ألبرت حوراني باقتدار بعض مظاهر التغيرات التي رافقت التكتيكات الجديدة للعشائر بالتعايش مع الدولة بدلاً من النزوع إلى التمرد:
نتيجة لنمو السكان إلى حد ما، ولأسباب أخرى أيضاً، تغيّر التوازن بين مختلف قطاعات المجتمع. كانت العشرينات والثلاثينات (من القرن العشرين) الزمن الذي اختفت فيه في الواقع مجموعات الرعي المتنقل كعنصر مهم في المجتمع العربي. مجيء سكك الحديد والسيارة هدّ النشاط الذي كان يقوم عليه الاقتصاد الرعوي على المسافات البعيدة: تربية الإبل للنقل. حتى في المناطق حيث كان المرعى ما زال الأفضل أو كان لا يصلح إلا له بسبب الكلأ القليل والماء الشحيح، أصبحت حرية التنقل للبدو محدودة تحت ضغط قوات مسلحة مجندة من بين البدو ذاتهم. ظل هناك سوق للأغنام، ولكن في مناطق تربية الأغنام على منحدرات الجبال أو على حواشي السهوب كان امتداد سيطرة الحكومة والتغيرات في الطلب من المدن تتسبب في جعل المجتمعات البدوية والرعوية تنتقل إلى أماكن أقرب إلى المدن، وأن تصبح مزارعة مقيمة، وهذا ما كان يحدث في منطقة الجزيرة الواقعة ما بين نهري دجلة والفرات ( 1).
غير أن ما ساهم في إبطاء التحلل الحتمي للبنى التقليدية للعشائر كان الاحتلال البريطاني نفسه الذي ضم دير الزور إلى العراق في العام 1919 وذلك بتشكيل أنظمة النزاعات العشائرية في 27 يوليو/تموز 1918 بصيغة بلاغات، لها قوة القانون، والتي صارت بناءً على إصرار البريطانيين قانوناً للبلاد في العهد الملكي بموجب المادتين 113 و114 من الدستور العراقي للعام 1925، واستثنت الريف من سريان القانون الوطني عليه (2). وهكذا، بقي العراق من الناحية القانونية، وحتى يوليو 1958، يخضع لنظامين: واحد خاص بالمدن وآخر خاص بالريف العشائري (3 ). وعلى هذا المنوال سارت فرنسا أيضاً بمنحها وضعاً خاصاً للقبيلة، وخصصت لهم مقاعد (كوتا) في البرلمان السوري.
مع استكمال البريطانيين احتلال العراق عام 1918، بدأت منطقة الفرات الأعلى تتحول إلى ساحة جديدة للاعبي السياسة بعد عقود طويلة من التهميش تحت الإدارة العثمانية. ومعها بدأت تتوضح سياسياً مواقع عشائرها الريفية ودرجة ارتباطاتها بالبريطانيين. في هذه الأثناء، كان الاضطراب سيد الموقف في دير الزور البعيدة عن الحكومة العربية في دمشق، والنائية في الوقت نفسه عن بغداد. وتشير وقائع الأيام الأخيرة من الوجود العثماني في متصرفية دير الزور إلى أنها ضاعت مجاناً.
تفريط بلا ثمن
ووفق الروايات التي جمعها زبير سلطان قدور في دراسته «الثورة المنسية» عن هذه الفترة، فإن دير الزور لم تتعرض أثناء الحرب العالمية الأولى وخلال الثورة العربية، لأي هجوم خارجي ضد العثمانيين من قبل جيوش الحلفاء والثوار العرب بل بقي الأمر هادئاً فيها على الرغم من أن قراها ومدنها لم تخلُ من جواسيس بريطانيين بصور مختلفة، وكانت حالة دير الزور أثناء الحرب في وضع مترد اقتصادياً، فقد ساد الفقر والعوز والجوع معظم مناطق المتصرفية. فالأتراك قاموا خلال الحرب بمصادرة القمح والمواد الغذائية من المواطنين وإرسالها إلى جبهات القتال، كما حدث في معظم المدن والمناطق العربية، التي كانت ترزح تحت الاحتلال العثماني.
وأفرز الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي لحد المجاعة اضطرابات في المنطقة من قبل عشائر الفرات وأهل الحواضر، وقد سمى أهالي دير الزور تلك السنوات بسنوات الجوع التي أكلت الأخضر واليابس، وأدت إلى كوارث كبيرة ألحقت بنمو المحافظة وأهلها.
وفي نهاية الحرب بدأت تصل الأخبار التي تحمل أنباء هزائم الترك أمام القوات العربية والحلفاء وخروجهم من كثير من المناطق العربية. إلا أن أياً من القوات المعادية للترك، عرباً وأجانب، لم تصل إلى دير الزور أو المناطق التابعة لها. وأمام هذه الأنباء اجتهد المتصرف التركي آنذاك حلمي بك في جمع كل الوثائق والمستندات والسجلات التي تهم الأتراك، وأرسلها إلى مدينة أورفا تحسباً لهجوم قد تتعرض له دير الزور، رغم وجود ما يزيد على 1500 جندي وضابط تركي كانوا فيها.
رغم أن تحرير دمشق تم في أكتوبر/تشرين الأول 1918، فإن متصرفية دير الزور لم يصل إليها أحد من القوات العربية، أو الإنكليزية التي احتلت بلدة عانه العراقية، إلا أن وضع المتصرف القلق نفسياً، والخائف من وصول قوات معادية للترك إلى دير الزور، إضافة إلى انسحاب الأتراك من سوريا وبلاد الرافدين، وبقاء دير الزور فقط، أوجس خيفة في نفسه، ووضعه في موقف محير لاتخاذ أي قرار، سواء بالبقاء أو الرحيل إلى تركيا.
في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، دعا المتصرف حلمي بك كلاً من قائد الجيش في المتصرفية الأميرالاي جميل بك، وقائد الفرسان إبراهيم أدهم بك، ورئيس بلدية دير الزور الحاج فاضل العبود، وآخرون إلى مأدبة غداء، وشرح المتصرف الموقف العسكري والسياسي في المنطقة بعد خروج القوات التركية من سوريا والعراق، عدّا متصرفية دير الزور. ولديه احتمالات هجوم على قواته من أطراف عربية أو إنكليزية، وما لديه من قوات للمواجهة ومن غير وجود مساندة له من قبل القوات التركية. وبعد مناقشة الأمر مع المجتمعين رجح رأي الانسحاب التركي عن دير الزور بصورة مؤقتة ولحماية أرواح الجنود بعد أن أكد أن الخسارة في الجانب التركي، أمام أية مواجهة محتملة. فقرر المتصرف حلمي بك أن ينسحب من دير الزور مؤقتاً، وكلف رئيس البلدية الحاج فاضل العبود بإدارة شؤون المتصرفية حتى عودته من تركيا. وغادرت القوات التركية دير الزور في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1918.
كان قرار المتصرف الانسحاب من دير الزور خطأ فادحاً كما تبين للقادة الذين طلب عدد منهم العودة إليها حيث لم يجدوا أية قوات تهاجمهم أو تطاردهم، وأن الانسحاب كان خطأً أقدم عليه المتصرف وأعوانه. ولكن موقف قائد القوات العسكرية الأميرالاي جميل بك، بعدم العودة، أجبر الجميع بالرضوخ لقراره. وأثناء ذلك، صدر قرار هدنة مودروس بإبقاء كل قوة في مكان تواجدها. فتم التفريط بمتصرفية دير الزور من دون سبب قاهر. وأحيل المتصرف وقادته العسكريين للتحقيق. وبعد فترة قصيرة أصدرت المحكمة العسكرية حُكمها بالإعدام على المتصرف وعدد من القادة رمياً بالرصاص، كما تم إصدار أحكام بالسجن على البقية. وبذلك تم طي صفحة الحكم العثماني في دير الزور.
دير الزور خارج الخرائط
وجدت المنطقة نفسها عالقة في حالة فراغ بين القوى المتصارعة التي ملأت الجوار. بقيت دير الزور خارج الخرائط الجديدة، لكنها سجلت حالة فريدة من نوعها، فقد شكل أهل البلدات النهرية على ضفتي الفرات، حكومة بقيادة الحاج فاضل العبود، وعرفت في التاريخ بـ«حكومة الحاج فاضل» وهي من أهم مظاهر الإدارة الذاتية في التاريخ السوري الحديث حتى اندلاع الثورة السورية عام 2011 وتشكيل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا.
الدافع الأهم لتشكيل حكومة الحاج فاضل هو الخوف من المحيط العشائري الذي يسور مدينتهم. وريثما يتفقون على السلطة التي يريدون تابعيتها، اتفقوا على تشكيل حكومة محلية تضبط أمور الأمن، وتسير شؤون المدينة مؤقتاً فأوجدوا فيما بينهم مجلساً محلياً سموه «حكومة الحاج فاضل الأولى»، أو ما أسماه أهل البلد، «حكومة الفلت» لأنها لا تتبع سلطة مركزية، واستمرت الحكومة حتى مطلع ديسمبر/كانون الأول عام 1918 حين قررت دعوة الحكومة العربية في دمشق لضم متصرفية دير الزور إليها. فانتهت حالة الإدارة الذاتية القصيرة مع وصول الشريف علي بن ناصر، من أقرباء الملك فيصل، مع قوة هجانة، وسط ترحيب الوجهاء وشيوخ العشائر. غير أن فساد الحكام الجدد وعلى رأسهم الشريف علي بن ناصر، وبراعة البريطانيين في التعامل مع العشائر في الأنبار وإغداق الأموال على زعمائها وملء أسواق بلداتها بالسلع الأساسية، كانت كفيلة بتفكير وجهاء مدينة دير الزور التخلي عن الولاء للحكومة العربية في دمشق، فكتبوا عريضة للحاكم العسكري البريطاني في عانة، وزار الحاج فاضل بنفسه بغداد طالباً فصل دير الزور عن الحكومة العربية وضمها إلى الانتداب البريطاني في العراق. وسيكون هذا أول صراع حديث وطويل بين العشائر ووجهاء المدن اللذان اختار كلاً منهما خطاً منفصلاً في تلك اللحظة، الوجهاء مع بريطانيا والعشائر ضد أي حكومة كانت. في المحصلة، احتلت القوات البريطانية، سلمياً، مدينة دير الزور في 11 يناير/كانون الثاني عام 1919. وبذلك، انتهى الحكم الشريفي في دير الزور وأصبحت تابعة للعراق وللحاكم السياسي البريطاني في بغداد.
لم تمضِ شهور على هذا التحول، حتى تغير الاتجاه مجدداً، فالثروة التي انتظرها السكان من “الكرم البريطاني” لم تجد طريقها إلى الدير، ودخل ضباط حزب العهد الوطني ذو الغالبية العراقية على خط الأزمة، وعلى رأسهم ياسين الهاشمي ومجموعة من كبار الضباط الطامحين للعودة إلى بغداد، فلم يوافق البريطانيون على ذلك لشكوكهم في موالاتهم للعثمانيين، فقرر العراقيون المقيمون في دمشق في خدمة الملك فيصل، طرد البريطانيين من دير الزور وتحويلها إلى قاعدة لشن عمليات ضدهم وإجبارهم على القبول بعودة ضباط حزب العهد إلى بغداد.
من هنا، ظهر الضابط رمضان شلاش، تلميذ ياسين الهاشمي، وهجومه على دير الزور بعد أن مول الشريف حسين شراء الولاءات والتجهيزات المسلحة عن طريق رجل الدين المعروف محمد سعيد العرفي. فاندلعت معركة صغيرة بين قوات شلاش البالغة نحو 500 مسلح، والقوة البريطانية الصغيرة في دير الزور والتي لا تزيد عن 100 جندي. ومرة أخرى، تملك أهل مدينة دير الزور الندم، فقد تحول الهجوم الناجح إلى غزو عشائري لأهل المدينة وأرزاقهم وفق شهادات نقلها صاحب كتاب «الثورة المنسية» وهو المتعاطف مع الثورة ومجرياتها. ورسم هذا الهجوم صورة سوداء لرمضان شلاش في ذاكرة أهل مدينة دير الزور، ليعود تناقض العشيرة – الحضر سريعاً في دوامة الوطنية الشعاراتية. وحدث الأمر ذاته في البوكمال، وهي منطقة لم يساوم عليها البريطانيون، وتصدوا لقوات رمضان شلاش وحلفائه من العكيدات. ومما يروى أنه لدى اقتحام «الثوار» البوكمال فإنهم نهبوا ما استطاعوا، وسرت شائعات عن اعتداءات تعرضت لها نساء. ودفعت هذه الشائعات، إضافة إلى الغضب البريطاني، حكومة فيصل إلى عزل رمضان شلاش وتعيين الضابط في حزب العهد العراقي مولود مخلص في يناير/كانون الثاني 1920. وكان قد قتل أحد شيوخ العقيدات (من عشيرة الحسون) خلال الهجوم، وهو عبد الدندل، فحمل شقيقه مشرف الدندل، لواء الثأر لأخيه من بريطانيا وأصبح من أشهر زعماء القبيلة رغم أنه يتزعم فرعاً من العقيدات وليس شيخ المشايخ المتوارثة تاريخياً في عائلة الهفل. والأرجح أن ما تردد عن وصول دعم لمشرف الدندل من مصطفى كمال، قائد حرب التحرير في تركيا، إضافة إلى حزب العهد العراقي، غير مستبعد طالما أن مثل هذا الدعم يلبي أهداف الدندل في النهاية، وهو هزيمة البريطانيين. وسرعان ما صاغ الوطنيون في دمشق ثوباً قومياً لحركة مشرف الدندل التي تعد من أكثر التمردات الحدودية تعقيداً وتداخلاً ومغامرة. وبنت عائلة الدندل سلطتها المعنوية بين عشائر العكيدات على المناوشات الطويلة ضد المخافر البريطانية الحدودية بالتعاون مع حليف عشائري عراقي له حساباته الشخصية أيضاً، والوطنية وفق الروايات الرسمية، وهو نجرس الكعود، شيخ عشيرة البونمر أحد فروع قبيلة الدليم.
مشروع إمارة دير الزور
على أية حال، تغيّر المشهد بعد اقتحام رمضان شلاش دير الزور وهجومه على الميادين والبوكمال، إذ اقترح الحاكم البريطاني للعراق أرنولد ويلسون أن يصبح نهر الخابور هو الحد الطبيعي الفاصل بين البلدين، مع احتفاظهم بالميادين والبوكمال على الضفة الشامية لنهر الفرات.
بالطبع، لم يكن هذا المخطط يتوافق مع أهداف ثلاثة لاعبين معارضين، وهم:
أولاً: الأمير زيد بن الحسين، شقيق الملك فيصل، الذي يبحث عن إمارة خاصة به سبق واقترحها مسؤول بريطاني وتمتد من الموصل إلى دير الزور.
ثانياً، ضباط حزب العهد العراقي الساعين إلى الاقتراب قدر الإمكان من العراق.
ثالثاً، قبيلة العقيدات التي يقسمها نهر الخابور إلى قسمين حيث أن القسم الذي يتواجد في الجانب البريطاني هو الأكثر معاداة لها بقيادة عائلة الدندل. وخلال هذه الفترة، تصاعد نفوذ القبائل على البلدات والمدن الثلاث الرئيسية، وهي دير الزور والميادين والبوكمال، وكان كل منها يضم خليطاً دينياً وثقافياً، مسيحياً – إسلامياً، يؤهلها جميعاً لتكوين حواضر مدنية سياسية لولا أنها فقدت سيادتها واستقلاليتها أمام نفوذ زعماء القبائل المتحكمين بالمداخل والمخارج والطرق، خاصة البوكمال والميادين. مع ذلك، من اللافت أن القبيلة بدأت تفقد مركزيتها بالرغم من ازدهارها كحالة اجتماعية تقف في منتصف البداوة والتحضر، فلم تعد الألقاب السابقة (شيخ مشايخ القبيلة) ذات معنى حقيقي، وصعد نفوذ الفروع العشائرية، الأمر الذي فاقم من الصدامات بين الأقارب، كما في حالة قبيلة الدليم في الحرب الدامية بين البوعساف والبونمر، والفتور الطويل بين آل الدندل والهفل داخل العكيدات.
في السنوات الأولى من الاحتلال البريطاني، انقسمت الدليم سياسياً إلى كتلتين، موالية للبريطانيين يمثلها علي السليمان، ومعارضة يمثلها نجرس الكعود. وفي مفارقة، فإن نفس التكتلين العشائريين انقسما بحدّة في المرحلة الحاسمة التي تلت الانسحاب الأميركي من العراق نهاية عام 2011، وكل منهما تحت زعامة حفيدَيْ علي السليمان ونجرس الكعود.
قبل ترسيم الحدود بين العراق وسوريا، اندلع صراع على دير الزور برعاية دولتي الانتداب، بريطانيا وفرنسا، وتركيا بقيادة مصطفى كمال. ودخل هذا الصراع من اللاعبين المحليين كل من قبيلة العقيدات وقبيلة الدليم.
لم تقف طموحات الشيخ علي السليمان عند حدود قبيلة الدليم. فطبيعة تعاملاته مع البريطانيين توضح بلا أدنى شك أنه طمح إلى السيادة على كامل لواء الأنبار. وأقدم لهذا السبب على مخاطرة كبيرة جداً لم يعهدها شيوخ المنطقة بأن ألغى من حساباته خيار هزيمة البريطانيين التي كانت وشيكة في أوج ثورة العشرين.
حقبة العقيدات
لم تتضح طبيعة صلة خصمه العنيد، نجرس الكعود، بحزب العهد العراقي، إذ كانت وقائعه مرتبطة بشيخ العقيدات مشرف الدندل، والأخير مرتبط هو الآخر بحزب العهد، على الأقل نظرياً. وكلا الرجلين تقودهما مصالح عشائرية غير خفية. فالتقت مصالح الأطراف الثلاثة في إضعاف الانكليز وحلفائهم غرب العراق مثل علي السليمان (الدليم) وفهد الهذّال (العمارات – عنزة) وعفتان الشورجي (البومحل).
كان تحالف العقيدات والبونمر يخدم التوجه الذي سعى إليه الأمير زيد بن الحسين بالتعاون مع حزب العهد العراقي. وفي واحدة من الهجمات الكبرى لتحالف العقيدات والبونمر على البريطانيين، اتضحت ملامح غير معلنة للحدود الأولية لمثل هذه الإمارة، إذ تولى نجرس الكعود منصب قائمقام عانة بعد طرد رجال علي السليمان منها ومن راوة. وحاول هؤلاء مد حدود نفوذهم إلى الرمادي لولا ضربة الحظ التي ابتسمت لعلي السليمان بهزيمة ثورة العشرين في الفرات الأوسط واستعادة البريطانيين السيطرة على مختلف أنحاء العراق.
في مايو/أيار 1920، أقرت لجنة مشتركة الحدود بين سوريا والعراق بشكل أولي، فأعاد القائد العسكري البريطاني ليجمن بموجب الاتفاق بلدتي الصالحية والبوكمال إلى الحكومة العربية في دمشق التي كان يمثلها في المفاوضات ضباط حزب العهد العراقي (4). وبهذا الاتفاق، انفصلت الأنبار سياسياً عن دير الزور بشكل نهائي. خسر نجرس الكعود بهذا الاتفاق، لكن العقيدات خرجوا منتصرين، إذ نجحت في إحباط الترسيمة السابقة التي اتخذت من نهر الخابور خطاً للحدود بين النفوذين الفرنسي والبريطاني. وكانت بلدتا الميادين والبوكمال من حصة البريطانيين، فمنعت الاتفاقية الأخيرة بذلك تقسيم الكتلة الرئيسية للقبيلة بين دولتين، متفادياً بذلك ما جرى لأقوى عشائر سوريا والعراق: شمّر الجربا، التي فرضت الحدود الجديدة تقسيمها بين الدولتين. فباتت شمّر الجربا في سوريا أضعف مما كانت عليه في السابق من القوة والمهابة أمام عشائر أخرى لم تتضرر من ترسيم الحدود مثل البقارة والعقيدات.
أحدث استيلاء حزب العهد والعشائر الحليفة له على دير الزور نهاية عام 1919 قلقاً عظيماً لدى المحور الموالي لبريطانيا، وأعرب ابن الهذّال عن قلقه بشكل صريح من حركة العقيدات ضد الانكليز في دير الزور. وينقل القائد العسكري البريطاني هالدين عن ابن الهذّال قوله: «إذا لم تعيدوا احتلال دير الزور فإنكم سوف تواجهون في الفرات الأوسط ثورة خلال ستة أشهر» (5)، وبينت الوقائع سداد رأي ابن الهذال، العجوز المخضرم في التحالفات السياسية.
بعد الاستيلاء على دير الزور، بدت العقيدات تعيش عصرها الذهبي منذ بدايات الاحتلال البريطاني للعراق. وأصبحت من أشهر قبائل سوريا بعد أن كانت بالكاد يتم ذكرها في الفترة العثمانية. ورغم ترسيم الحدود لصالحها، إلا أن غاراتها لم تتوقف على القوات البريطانية والمتعاونين المحليين معها داخل الحدود العراقية. لا تشير أي من المصادر إلى مطامع لهذه العشيرة، التي كان يساندها حزب العهد بالمال والسلاح، داخل الحدود العراقية. غير أنها باتت تشكل تهديداً جدياً ليس فقط للقوات البريطانية، بل أيضاً العشائر العراقية المتحالفة مع هذه القوات، وعلى رأسها كتلة الدليم التابعة لعلي السليمان، والعمارات لابن الهذّال.
استمرت حركة التحالف بين مشرف الدندل ونجرس الكعود وبقية الحلفاء بالإغارة على خطوط نقل القوات البريطانية. ولم يمنعهم احتلال فرنسا لدمشق من مهاجمة القوات البريطانية. فقامت مجموعة من العقيدات بنصب كمين لقافلة عسكرية على طريق البارج القريب من مدينة عانه، وقتلوا ثلاثة من الجنود وغنموا كميات كبيرة من العتاد والسلاح. وقامت مجموعة أخرى من عشائر العقيدات في البوكمال بمهاجمة مقرات الجيش البريطاني في مدينة راوة المجاورة لمدينة عانة. ثم دخلت قوات من العقيدات عانة، ونهبت دار الحكومة ودور كل المتعاونين مع البريطانيين في البلدة. وازداد ضغط العشائر على القوات البريطانية في مدينة عانة وحولها، فقررت بريطانيا في 5 أغسطس/آب 1920 الجلاء عن عانة (6).
وتعود نقمة العشائر المعادية للبريطانيين على عانة لأنها كانت من البلدات الموالية للإدارة البريطانية. ويبدو أن وشايات أهالي البلدة التوأم والمنافسة التاريخية لها، راوة، لعبت دوراً في التحريض عليها وفق علي الوردي في كتابه «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث»، نقلاً عن تحسين العسكري مؤلف كتاب «الثورة العربية الكبرى».
خلط احتلال الفرنسيين دمشق وطرد حكومة فيصل منها الأوراق في المنطقة الممتدة بين دير الزور وبغداد. وساد تخبط على توجهات حزب العهد العراقي الذي بات ضباطه الكبار يتطلعون إلى العودة لبغداد، لكنهم لم يقطعوا تماماً خيط الركوب على طموحات الأمير زيد بن الحسين باستمرارهم في شن الهجمات على البريطانيين.
قوات كردية في دير الزور
تم تعيين عبدالزراق منير قائمقاماً لبلدة البوكمال في 11 مايو/أيار 1920 من قبل الحكومة العربية في دمشق. ولما سقطت تلك الحكومة على يد الفرنسيين في 25 يوليو/تموز 1920، أعلن عبدالرزاق انفصاله عن سوريا حيث قال إن «العراقيين هم الذين استولوا على البوكمال وإنها تابعة للعراق وليس لسوريا» (7).
ومنذ ذلك الحين، أخذ عبدالرزاق يعد العدّة للاستيلاء على عانة وإخراج الانكليز منها بالتعاون مع الراويين وبعض العشائر الموالية كالعقيدات والبونمر والجغايفة، لتلعب التناقضات العشائرية لعبتها السياسية.
فور تمكن بريطانيا من قمع الجماعات المتمردة (عام 1920) بدأت بتقوية حلفائها. «فأنشأت قوات بدویة لدى شیوخ العشائر الموالیة باسم البیرق وتألف كل بیرق من قوة لا تقل عن 200 من الهجانة، على أن یكون قائد البیرق بریطانیاً ویعاونه عراقیون» (8).
هناك تشوش في الوثائق الفرنسية الأولى حول منطقة دير الزور عام 1920، فقد كانت فرنسا تعتقد أن عشائر دير الزور تقاتل من أجل الانضمام إلى العراق، وما زاد من صلابة هذا التشوش هو إعلان قائمقام البوكمال انضمام البلدة إلى العراق. وبينما كانت فرنسا تستكشف المنطقة، استعانت بقوات حديثة قوامها الرئيس من قبيلة الملي الكردية التي شاركت في غارات طويلة على الموالين لبريطانيا على خط الخابور – الفرات في العام 1921، ونجحت بعد معارك طويلة في تهدئة العشائر المتمردة على كل شيء، بريطانيا وفرنسا والحكومة العربية، والعاجزة في الوقت نفسه عن تشكيل إدارة ذاتية مستقرة.
بحلول عام 1923، هدأت النزاعات في الأنبار إثر استقرار النفوذ في أيدي الدليم وشيخه علي السليمان لتضع حداً لاضطراب امتد من خروج العثمانيين عام 1918. أخفق الشيخ نجرس الكعود في نزع رئاسة الدليم منه، لكنه بقي خصماً دون أن يشكل تهديداً. إثر هذا الاستقرار، وللقضاء على الاضطرابات التي كانت تسببها عشيرة العقيدات السورية، انعقد المؤتمر العشائري في بلدة القائم في مایو/ أيار 1923 برعاية بريطانيا وفرنسا، ومثل فيها العقيدات الشيخ جدعان الهفل والشيخ مشرف الدندل.
تتالت المؤتمرات العشائرية إلى أن التزمت جميع الأطراف التي اعتادت على تجاوز الحدود الدولية بين سوريا والعراق، باحترام سيادة القانون، وحسمت مسألة دير الزور نهائياً بتبعيتها للانتداب الفرنسي.
لدى مراجعة الوقائع على جانبي الحدود العراقية السورية، الأنبار ودير الزور، يتبين وجود تيارين رئيسيين من العشائر، يرتبط الموقف السياسي في جانب أساسي منه بحالة التنافس العشائري والعداوات السابقة فيما بينها. ليس من الواضح ما هي العشائر التي أيّدت ضم دير الزور إلى بغداد، وربما لا يكون منهجاً صائباً تصنيف العشائر سياسياً، لأنها لا تتبع جميعاً زعيم العشيرة بشكل أعمى، غير أن المؤكد والموثق أن الفضل في إحباط المشروع البريطاني جعل نهر الخابور حدوداً بين سوريا والعراق يعود بالدرجة الأولى إلى قبيلة العقيدات.
____________
هوامش:
1- ألبرت حوراني – تاريخ الشعوب العربية – ترجمة كمال خولي – الناشر هاشيت انطوان – الطبعة الرابعة، 2014 – ص 420
2 – حنا بطاطو – العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية – الجزء الأول – ترجمة عفيف الرزاز – مؤسسة الأبحاث العربية – ط2 ، 1995 – نسخة الكترونية لمنتدى مكتبة الاسكندرية – ص42، 43
3 – أنظر تفاصيل ترسيم الحدود في: علي الوردي – لمحات اجتماعية – الجزء الخامس (القسم الأول) – ص 172 – 173
4 – المرجع السابق – ص177
5 – زبير سلطان قدور- الثورة المنسية– ص 113
6 – يشير عبدالرزاق منير في قوله أن العراقيين هم الذين استولوا على البوكمال إلى حقيقة أن الضباط الشريفيين الذين كانوا رعاة الهجوم على الانكليز جلهم من أصل عراقي، مثل ياسين الهاشمي وجميل المدفعي ومولود مخلص وعلي جودت الأيوبي. وحين تم تعيين الأخير حاكماً لدير الزور خلفاً لرمضان شلاش أرسل إلى حزب العهد العراقي في حلب ودمشق يطلب منه إرسال العراقيين الموجودين في سوريا إلى الدير ليشاركوا في العمليات العسكرية، واتهم من يرفض ذلك منهم بالخيانة الوطنية. فاستجاب لهذا الطلب عدد من العراقيين قدر عدد الضباط منهم بين 30 و40، وعدد الجنود بما يزيد عن 250. لكن هؤلاء العراقيين أسهموا على ما يبدو في تعزيز نزعة محلية بضرورة طرد العراقيين من دير الزور بسبب الأفعال الشائنة التي قاموا بها، وتطلعهم إلى المال، ووقعت حوادث عديدة في نهب المسافرين، وصلت ذروتها في قضية حمولة الذهب المهرب التي كادت تشعل حرباً. وبعد احتلال الفرنسيين سوريا كان جل اهتمام هؤلاء الضباط السماح لهم بالعودة إلى العراق، وقاموا بالعديد من الهجمات العسكرية في الأنبار والموصل وعرضوا مساعدة ثورة العشرين، في سبيل أن تسمح لهم بريطانيا بالعودة إلى العراق لاتقاء شرهم!.
للمزيد: علي الوردي – لمحات اجتماعية – الجزء الخامس (القسم الثاني) – ص 142- 143
7 – عمار يوسف عبدالله – مسألة عشائر الحدود العراقیة – السوریة في العلاقات بین سلطتي الانتداب البریطاني والفرنسي 1920 ، 1932- مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، جامعة الموصل- المجلد 6، العدد 2 – 23، 24 أيار 2007 – ص 207 – 208
8 – عمار يوسف عبدالله – مرجع سابق – ص 210