قراءة في بنود معاهدة لوزان: جريمة القرن في الهندسة السكانية 

حسين جمو – المركز الكردي للدراسات 
في رواية «قصة موت معلن» لغابرييل غارسيا ماركيز، تتكرر الإشارة إلى سانتياغو نصار، وهو ضحية افتراء في الرواية، كأحد الأتراك. وسانتياغو شخص من أصل عربي، لكن صفة التركي طغت على كافة المسلمين من اليونان إلى أميركا الجنوبية. وحين كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها حتى نهايات القرن السادس عشر، اعتاد الغربيون على استخدم صفة التركي والدولة التركية على الكيان العثماني الواسع والتعددي والذي لم يحمل رسمياً أي صفة تركية. الأمر نفسه انطبق على التعامل الاستشراقي الأوروبي مع إيران وسلالاتها الحاكمة المتعاقبة، فكانت تعرف ببلاد فارس، بينما البلاد نفسها لم تعرّف نفسها بدلالة هذا الاسم.
لم يتكبّد القادة الجدد المعاصرين لانهيار الدولة العثمانية أي عناء لإيجاد اسم للدولة الجديدة الوريثة لنواة العثمانية. فاسم تركيا متداول رسمياً في الأدبيات الأوروبية، ولم يكن قد بقي على القادة الجدد سوى إقناع الرعية المتبقية في الأناضول وكردستان بهذا الاسم للدولة الجديدة: الجمهورية التركية.
عملياً، انتهت الدولة العثمانية كوجود قانوني في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1922 بمرسوم أصدرته حكومة أنقرة (الجمعية الوطنية الكبرى) بإلغاء منصب السلطان، لكن اسم الدولة بقي غامضاً ولن يتم تبني الاسم الرسمي الجديد (الجمهورية التركية) إلا بعد مرور عام على إلغاء السلطنة.
كانت معضلة الاسم الجديد تكمن في الداخل التركي، فيما كانت الأمور أسهل على صعيد العلاقات الدولية، فالأوروبيون أساساً لا يرون في الدولة العثمانية سوى تركيا، وفي العثمانيين أتراكاً. لذلك، أقر مؤتمر لوزان في بداية المفاوضات بتاريخ 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1922 بسيادة الجمعية الوطنية الكبرى على تركيا لتحل محل الحكومة العثمانية.
في وثيقة معاهدة لوزان، أشارت المقدمة إلى أنه «اتحدت رغبة كل من الإمبراطورية البريطانية، فرنسا، إيطاليا، اليابان، اليونان، رومانيا، صربيا، كرواتيا، وسلوفينيا (من جانب) وتركيا (من جانب آخر) في إنهاء حالة الحرب بينهم والتي كانت موجودة في الشرق منذ عام 1914..».
وفق وثيقة المعاهدة، مثّل الطرف التركي وفد تألف من: عصمت باشا، وزير الخارجية ونائب أدرنه؛ والدكتور رضا نور بك، وزير الصحة ونائب سينوب. وحسن بك، الوزير السابق، نائب طرابزون؛ كمفوضِين عن: حكومة الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا.
وقد تم توقيع المعاهدة في أعقاب حرب الاستقلال التركية ضد الحلفاء، وتم من خلالها تسوية أوضاع الأناضول والقسم التركي الأوروبي من أراضي الدولة العثمانية، وذلك بعد إلغاء معاهدة سيفر التي كانت قد وقعتها الدولة العثمانية في العاشر من أغسطس/آب 1920، تحت ضغوط الحلفاء.
بدأت المفاوضات في مدينة لوزان السويسرية في نوفمبر/تشرين الثاني 1922 وتم تقسيمها إلى مرحلتين، تفصل بينهما فجوة قصيرة (4 فبراير/شباط – 24 أبريل/نيسان 1923) عندما رفض رئيس الوفد التركي عصمت إينونو التوقيع على مسودة الاتفاق التي اقترحها وزير الخارجية البريطاني اللورد جورج كرزون. تم التوقيع على المعاهدة النهائية في 24 يوليو/تموز 1923 وصادقت عليها رسمياً الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة في 21 أغسطس/آب.
لم يكن عصمت باشا هو الوافد الجديد الوحيد في لوزان. فقد أدت هزيمة اليابان لروسيا القيصرية في عام 1905 وما تلاها من صعود بارون هاياشي، إلى تقديم أمته كنموذج لمسار تركيا في المستقبل خلال لوزان. في المقابل، كانت روسيا السوفييتية قد بدأت للتو في السعي إلى تجديد العلاقات الدبلوماسية مع بقية العالم بعد حرب أهلية مريرة، لكنها بدت حريصة على دعم مصطفى كمال، الذي اعتبره البعض في الغرب شيوعياً. على الرغم من حضور الوفد الأمريكي رسميًا كمراقب فقط ، إلا أنه كان ذو تأثير.
تم تقسيم المفاوضات الرسمية بين ثلاث لجان. الأول، بالنسبة للمسائل الإقليمية والعسكرية، والذي تم النظر فيه حيث يجب أن تكمن حدود تركيا مع اليونان (في تراقيا) والانتداب البريطاني الجديد للعراق (في الموصل الغنية بالنفط). كما سعت إلى اتفاقية جديدة تحكم عبور السفن الحربية عبر المضائق، وهو شريان دولي اقترح الروس والأتراك إغلاقه بالكامل أمام السفن المسلحة. طالب كل من عصمت ونظيره اليوناني إلفثيريوس فينيزيلوس بتعويضات متبادلة، وإحصاءات تجارية عن اللاجئين والتركيبة السكانية للبلدين.
جنود بريطانيون في ميناء بورتسموث بعد انسحاب بريطانيا من القسطنطينية إثر توقيع معاهدة لوزان | «The Sphere» في 15 أيلول/سبتمبر 1923
اختصت اللجنة الثانية في معالجة نظام الامتيازات الأجنبية، تلك الشبكة من الاتفاقيات الثنائية التي يتمتع بموجبها الرعايا الأجانب بوضع مستقل داخل أراضي السلطنة. ألغى العثمانيون الامتيازات من جانب واحد في عام 1914. شعر المندوبون البريطانيون والفرنسيون واليابانيون أن النظام القانوني لتركيا لم يتطور بعد بشكل كافٍ ليشعر الأجانب بالأمان بدون مثل هذه الحماية.
تناولت لجنة ثالثة «المسائل الاقتصادية والمالية»، وتحديداً كيفية تقسيم الديون الهائلة المتراكمة على النظام العثماني القديم وترحيلها.
اشتملت معاهدة لوزان على 143 مادة تم تقسيمها إلى عدة أقسام رئيسية، منها المضائق التركية، والتي تم تعديلها بعد ذلك من خلال معاهدة مونترو عام 1936، وإلغاء التعهدات بشكل تبادلي، وكذلك تبادل السكان بين اليونان وتركيا.
ونصت بنود المعاهدة على استقلال تركيا وتحديد حدودها، كما نصت كذلك على حماية الأقليات المسيحية اليونانية الأرثوذكسية في تركيا، وكذلك حماية الأقليات المسلمة في اليونان. (للاطلاع على نص المعاهدة، ينظر النص المترجم من المعهد المصري للدراسات تحت عنوان: النص الكامل لمعاهدة لوزان. نشر في 17 أغسطس/آب 2020).
وتشكل لوزان، ببنودها الـ143، روح الجمهورية التركية، وتفويضاً للكيان الجديد باستكمال الهندسة السكانية داخل حدودها فيما يخص بالكرد (من دون تسميتهم في المعاهدة)، كما تعتبر المعاهدة بمثابة عفو عام وشامل عن الجرائم التي ارتكبتها الدولة العثمانية ومؤسساتها، خاصة الإبادة الجماعية الممنهجة للأرمن.
يمكن اعتبار المعاهدة بأنها جنازة للقضية الأرمنية، وتأسيساً لحفلة تعذيب مستمرة منذ 100 عام للقضية الكردية. وباستثناء الجزء الكردستاني الواقع تحت الانتداب البريطاني والتي سيتم إلحاقها بالدولة العراقية، انتهى الوجود القانوني للكرد لأول مرة منذ ظهور الكرد على مسرح التاريخ. لم يعد هناك شيء، لا في عصبة الأمم، ولا وريثتها الأمم المتحدة، يذكر الكرد بالاسم. فلا مكان لهذه الأمة بين الأمم المعترف بها، وباتت مادة للتأديب العسكري والأمني في ظل الجمهورية التركية بلا حسيب أو رقيب، ذلك أن معاهدة لوزان صاغت حدود ومضمون الجمهورية الجديدة على قاعدة القومية التركية، لتطلق بذلك عهد الاستعمار القومي الفئوي داخل الحدود الجديدة، وإنهاء أي تطلع توسعي خارج الحدود المرسومة التي ضمت لاحقاً لواء اسكندرون.
إذاً، المعاهدة تمنع التوسع التركي (وهو ما لم تلتزم به تركيا في قبرص وشمال سوريا)، وفي الوقت نفسه تحميها من أي تهديد.
تضمنت المعاهدة خمسة محاور هي:
1- البنود السياسية، وتضمنت ثلاثة أقسام: 
أولاً: البنود المتعلقة بالأراضي
وتضمنت 21 مادة رسمت حدود الجمهورية التركية مع دول الجوار، وركزت البنود بشكل خاص على ترسيم الحدود بين تركيا واليونان، بما في ذلك السيادة اليونانية على معظم جزر بحر إيجة، وتقليص المياه الإقليمية التركية في المناطق التي تتواجد فيها الجزر اليونانية القريبة من سواحل تركيا، وحظر إنشاء اليونان أي قواعد عسكرية في هذه الجزر. كما حددت المعاهدة صيغة العلاقة بين قبرص البريطانية وتركيا بحيث تتنازل الأخيرة عن أي مطالبات لها مع ضمان حقوق الرعايا الأتراك في الجزيرة.
أما البند الخاص بترسيم الحدود مع سوريا، فاقتصر على جملة قصيرة:
«مع سوريا: الحدود الموضحة في المادة 8 من الاتفاقية الفرنسية التركية المؤرخة في 20 أكتوبر 1921». والمقصود المادة الثامنة من اتفاقية أنقرة، والتي رسمت بموجبها الحدود السياسية الحالية بين سوريا وتركيا. حيث أقرت معاهدة أنقرة أن يكون خط سكة حديد بغداد إسطنبول شمال سوريا هي الحد الفاصل بين الكيانين العثمانيين السابقين، مع تبعية لواء اسكندرون مبدئياً للانتداب الفرنسي على أن تتمتع بوضع خاص شبه مستقل.
الجزء الوحيد غير المحسوم لحدود الجمهورية التركية كان مع الاحتلال البريطاني في العراق، فنصت على:
«رسم الحدود بين تركيا والعراق وفق ترتيبات ودية يتم إبرامها بين تركيا وبريطانيا في غضون تسعة أشهر. في حالة عدم التوصل إلى اتفاق بين الحكومتين خلال الوقت المذكور، يحال النزاع إلى مجلس عصبة الأمم. تتعهد الحكومتان التركية والبريطانية بشكل متبادل بأنه، ريثما يتم التوصل إلى قرار بشأن موضوع الحدود، لن تحدث أي تحركات عسكرية أو تحركات أخرى تعدل بأي شكل من الأشكال الحالة الحالية للأراضي التي سيعتمد مصيرها النهائي على هذا القرار».
وعرف هذا البند لاحقاً بقضية الموصل، حيث رسمت الحدود في النهاية بين بريطانيا وتركيا في شتاء عام 1925 بضم الموصل وجنوب كردستان إلى الكيان العراقي الجديد. وما زال القبول التركي بقرار عصبة الأمم مثيراً للريبة، حيث أن بريطانيا لم تمتلك حججاً قوية لمزاعمها، لكن في المقابل هناك ما دفع قادة الجمهورية التركية إلى إعادة النظر في تشددهم تجاه الاحتفاظ بولاية الموصل التي تعني في الحقيقة جنوب كردستان كاملة مع مدينة الموصل. بعض الاجتهادات والرؤى تذهب إلى أن ثورة عام 1925 في شمال كردستان (تركيا) كانت السبب التي دفعت تركيا إلى التخلي عن الموصل مقابل امتناع بريطانيا عن دعم الثورة الكردية بقيادة الشيخ سعيد بيران ورفاقه. لكن في الواقع لم يظهر أن لبريطانيا أي خطط في ذلك الوقت لدعم أي انتفاضة كردية على الحكم التركي، ذلك أنها هي نفسها كانت تواجه مخاطر ثورات كردية في السليمانية وأربيل، وتعرض عدد من ضباطها الكبير للاغتيال.
لذلك، هناك احتمال آخر وراء التراخي التركي لضم الموصل إلى العراق، وهو شروع القيادة التركية في تبني القومية العنصرية بشكلها المتطرف وإلغاء كل مظاهر التعددية في البلاد، وتملأ دعوات غريبة عن تفوق العرق التركي الصحف التركية في الأعوام الأولى من الجمهورية. ووفق هذه الفرضية، فإن إلحاق الموصل بالعراق كان التدشين الرسمي للصيغة القومية الأحادية للجمهورية بعد نحو عامين من التردد والتشوش لكيفية تفسير بنود الجنسية والأقليات في معاهدة لوزان. وسرّعت ثورة الشيخ سعيد من هذا الاتجاه التركي نحو القتل الجماعي والإبادة الثقافية، وكان من الأفضل – وفق هذه الفرضية – أن يتم التخلص من ولاية الموصل بسكانها الكرد وجبالها المنيعة، بدلاً من السعي لضمها إلى الجمهورية التركية وإضافة تحدٍ جديد أمام الدولة القومية الأحادية.
وكان في معاهدة لوزان ما يبرر للقادة الأتراك التحرر من حرج خسارة إقليم يضم سكاناً غير أتراك. فوفق مادة ضمن البنود السياسية: «تتخلى تركيا بموجب هذا عن جميع الحقوق والملكية أياً كانت على أو تخص الأراضي الواقعة خارج الحدود المنصوص عليها في هذه المعاهدة والجزر الأخرى غير تلك التي تعترف بها سيادتها بموجب المعاهدة المذكورة».
ثانياً، الجنسية:
تضمن هذا القسم سبعة بنود، وهي في مجملها منحت الحق للأتراك المقيمين خارج الحدود التركية المرسومة، اختيار الجنسية التركية إذا رغبوا في ذلك. وكذلك مهدت بنود هذا القسم عملية التبادل السكاني بين اليونان وتركيا التي جاءت في اتفاقية ملحقة بالمعاهدة.
ثالثاً، حماية الأقليات: 
اختارت المعاهدة الهوية الدينية لتعريف الأقليات، ومنحت هذه القضية بعداً دولياً دائماً بحيث يحق للدول المشاركة في المعاهدة مساءلة تركيا في حال أي انتهاك لحقوق الأقليات الدينية. بهذه الصورة، فإن تركيا وفق معاهدة لوزان تتألف من مسلمين وغير مسلمين. وحقوق غير المسلمين ضمنتها المعاهدة، وهذا أدى إلى إلغاء صريح للوجود الكردي قانوناً، على الرغم من أن بنود هذا القسم تضمنت إشارات عابرة إلى حقوق لغوية من دون اقتصارها على غير المسلمين.
ونصت المادة 38 على ما يلي: «تتعهد الحكومة التركية بضمان الحماية الكاملة والتامة للحياة والحرية لسكان تركيا من غير تمييز بين المولد أو الجنسية أو اللغة أو العرق أو الدين».
غير ان المواد اللاحقة في هذا القسم تمحورت حول الأقليات الدينية، رغم أن المادة الافتتاحية أعلاه توحي وكأن هناك بنوداً تخص الأقليات اللغوية والعرقية المسلمة أيضاً، ومن المرجح أن هذه التفاصيل تم إلغاؤها في المساومات. وتضمنت المادة 39 : «لا يجوز فرض قيود على الاستخدام الحر لأي مواطن تركي لأي لغة في اللقاءات الخاصة أو التجارة أو الدين أو الصحافة أو المطبوعات من أي نوع أو حتى في الجلسات العامة. وعلى الرغم من وجود اللغة الرسمية، يجب توفير التسهيلات الكافية للمواطنين الأتراك الذين يتحدثون بلغات غير تركية لاستخدام لغتهم شفوياً أمام المحاكم».
مثل هذه الصياغة من المفترض أنها تشمل الشعوب غير التركية في الجمهورية، الكرد والعرب والشركس، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، حيث فسرت الجمهورية كل ما ورد في قسم حماية الأقليات على أنه يخص الأقليات الدينية، وشنت هجوماً عبر كافة مؤسسات الدولة على كل مظاهر التعددية القومية واللغوية حتى في الحياة العامة الاجتماعية.
والقارئ لبنود المعاهدة يشعر لوهلة أن تركيا بلد يزخر بالتعددية الدينية، وهو شيء تنقضه نسب غير المسلمين والتي لا تتجاوز في يومنا هذا 1 في المئة. فبنود حماية الأقليات احتيال دولي ممنهج على التركيبة السكانية الحقيقية للجمهورية التركية.
كما لاحظ كونستانتينوس أنتونوبولوس (الأستاذ اليوناني في جامعة ديموقريطوس)، أضفت المعاهدة الشرعية أيضاً على عنف الإبادة الجماعية من خلال منح العفو، على عكس معاهدة فرساي مع ألمانيا والتي تركت الباب مفتوحاً لمحاكمة القيصر.
اختلف المندوبون في لوزان مع الرئيس الأميركي جيد بارتليت، الذي اعتبر أن «السلام ليس غياب الحرب، بل إقرار العدالة». على عكس رؤية الولايات المتحدة في المؤتمر، تأسس سلام لوزان، بعد أعوام من التوقيع، على إنكار العدالة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد